يونية ديو..!
21-06-2007, 03:35 PM
أخائفٌ من الموت يا أبا هاجر ؟!! قصة فازت بالمركز الاول على مستوى الخليج بالعام المنصرم
قبل الرحيل يمطرُ القلب وجعاً .. فلا تلمني إن هذى الغيم داخلي .
نبوءة :
يهديكم خالدُ السلامَ ، فقد عانق الغريبَ وهاجر .
قبل يومين من رحيله ، كنا نتأملُ السُحب عبر حاجزٍ زجاجي مُلوّنٍ يفصلُ غرفة العزل بالمستشفى عن الخارج . لم يكن لون السماء أزرقنا المعهود ، لكننا تعودنا على هذا المزيج من الزرقة المشوبة بعتمة الحواجز . ضحك مشيراً بالسبابة والوسطى لسحابتين . ظهر زنده ناحلاً ، و قد اسودّت عروقه من أثر العلاج الكيماوي . سألته : " ما الذي يضحكك ؟! " . رد : " السحابة الأولى جاءت بالأمس لتحملني إلى السماء ، واكتشفتْ عدم اتساعها لروحي .. جاءت اليوم تجر السحابة الثانية الأكبر . أنظر .. أظنها كافية لروحي " . لم ألتفت إليه لحظتها ، علّمني الحديث عن الموت بجسارة دون البحث عن وقعه في العيون . وداعبته : " أنسيت أن روحي ملتصقة بروحك ؟! . لن تكفي السحابة " .. ابتسم بثقة : " صدقني ستكفي " . ثم صمتنا نتأمل منارات الجامع الأكبر مشوبة بعتمة الحواجز ! .
فيروز البداية :
كان بإمكانه أن يظل مريضاً عادياً بالنسبة لي . " رجلٌ في الأربعين من عمره أصيب بسرطان الدم ودخل المستشفى ليأخذ العلاج الكيماوي " . هكذا كنتُ سأتحدثُ لو لم أدخل عليه أول مرة لأفحصه ، وتلاقت أعيننا فسألني دون مقدمات : " أنت تحب فيروز . أليس كذلك ؟ " . سألته :
- كيف عرفت ؟! .
- لعشاق فيروز عيونٌ تكشفهم .
- فضحتني عيناي إذن . ما أغنيتك المفضلة ؟!
- " أنا عندي حنين "
وابتسمت ُ لاتفاقنا على نفس الأغنية . رأيتُ على الطاولة المجاورة كتاباً أبيض اللون . اقتربت فوجدته كتاب : " ذكرياتي " لطاغور . تعجبت . قلت له : " من أنت بالضبط ؟ يبدو أن لك تاريخاً حافلاً " . عاجلني بالصمت .. فعرفت أنه من أرواحنا . لضيق الوقت وكثرة المرضى وعدته بزيارة أخرى في نهاية اليوم .
البوح الأول :
" خالد ........ "
هذا اسمي الكامل . الأخ الأكبر بين ثلاثة رجال . توفي والدي وعمري عشر سنين ، ورحلت والدتي قبل سنتين . أعشق القراءة منذ الصغر . أحبُ الشِعر ، ويعجبني المتنبي . أحبُ الروايات أيضاً وقرأت كل أعمال نجيب محفوظ ، و أمين معلوف لكن يعجبني عبدالرحمن منيف . أنهيت الثانوية ، ولم أستطع مواصلة الدراسة لضيق ذات اليد ، وحاجة إخواني لمن يعيلهم . عملتُ في أعمال عدة ؛ حكومية ، وخاصة . أحُرقُ نفسي عملاً ، ولكني إن شعرتُ بقلة التقدير أو الإجحاف ، أو تكبّر الرؤساء أترك العمل دون تردد وأبحث عن غيره . آخر عملٍ كان في شركة للمنتجات البلاستيكية وتركته قبل خمسة أشهر .لم أبحث عن غيره لظهور أعراض المرض . كنتُ متزوجاً ، لكني انفصلت بعد سنة ونصف لخلافات شديدة ، ربما نتجت من اختلاف أطباعنا ، و كرهي لأي قيد أو التزام اجتماعي ، أو ربما لأني أعشق أمي وإخواني كثيراً ، وأفضّلهم على نفسي ، وكان ذلك يستفز زوجتي كثيراً . حدث ذلك قبل خمس سنوات . لم أرزق بأي طفل فقد أجهضت طليقتي مرتين أثناء زواجنا ، وحين تزوجت من رجل آخر أنجبت توأماً ! . هاك انظر إلى صورتهما .....
قرار :
جلس يتأملُ خطة العلاج الكيماوي ، بتفاصيلها المعقدة ، ويتأمل الزمن اللازم لإنهاء العلاج ، والخطط البديلة في حالة الفشل . يبتسم ، يقطب حاجبيه ، ثم يبتسم . بعد فترة قصيرة جداً قال : " موافق . هل نبدأ الآن ؟" . دُهشتُ فقد جهزّتُ نفسي كي أجيب على الأسئلة الأصعب والمحيرة : " ما نسبة نجاح العلاج ؟ " .. " كم تبقى لدي لأعيش ؟ " .. " هل العلاج بالخارج أفضل ؟ " .. " هل سينمو شعري بشكل طبيعي فيما بعد ؟ ".." ماذا لو فشلت كل الخطط . سأخسر حياتي ؟! " . لكنه لم يسأل .
اقترحت عليه : " خالد .. ألا تريد معرفة نسبة النجاح ؟ " .
رد : " اسمعني يا " دختر " .. لو أن نسبة النجاح 99 % ، لن يمنع هذا وقوعي ضمن نسبة 1 % التي ستفشل ، والعكس صحيح . دعها للسماء يا صديقي " الدختر " . المهم عندي شيء واحد : إذا فشل العلاج ومت .. لن أموت إلا أثناء مناوبتك !! .هيا نبدأ "
العزل :
تساقط شعره ... لم يأبه لذلك . كانت الجرعات الأولى صعبة عليه ، وأنهكه القيء المتكرر . حين يُسئل : " أثمة ما تشتكي منه ؟! " ، يبتسم ويوميء نفياً ، و نحن نعلم الارتفاع المستمر لحرارته ، وفقدان الشهية ، والإسهال ! . حين تجاوز الأيام الأولى .. انخفضت مناعته ، واستلزم عزله لحمايته . دخلت عليه الغرفة وقد لبست كمامة الوجه ، والقفازات . وجدته يتأمل الفراغ . اقتربت منه فأحسست بحرارته العالية . قال : " أنتظرك .. تأخرت عليّ " . أخبرته أني أجّلت فحصه للنهاية حتى أمضي معه أكبر وقت ممكن . عالجنا اللحظات ببعض الصمت . ضحك قائلاً :
- أجمل ما في عزلكم هذا .. أنكم لا تحجبون عنا رؤية الأعين . تختفي الأفواه والأنوف والأيادي ، وتظل الأعين . لذا أنا سعيد برؤية عينيك المرهقتين دائماً .
- وما أسوأ ما فيه ؟
- الفراغ . لا يوجد تلفاز بهذه الغرفة . غير مسموح بدخول جهاز التسجيل لأسمع فيروز . و إحدى الممرضات الجدد أخذت كتاب طاغور بحجة أنه قد ينقل العدوى . تخيّل : طاغور معدي ؟ .
ضحكت على تعليقه . خرجت فوراً وبحثت في غرفة الممرضات عن كتاب طاغور فوجدته . أعطيته لخالد . ووعدته بمجموعة من الكتب في زيارتي القادمة . في الغد أعطيته " البئر الأولى " و " شارع الأميرات " لجبرا .. وأحضرت المجلد الأول من أعمال السيّاب .. وجدارية درويش ، ومجموعتي الأولى . تخيلتُ أنه لن ينتبه لها إلا بعد أيام ، خصوصاً إذا بدأ بقراءة أعمال جبرا . في الغد استقبلني بابتسامة :
- لِم لم تخبرني بأنك تكتب القصة ؟
- افترضت أنك تعرف .. عرفت فيروز في عيني ولم تعرف الحروف ؟!
- ظننتها حروفاً لغيرك .. كالحروف التي في عيني .
- حسناً . لن نختلف . لا تخف لن أكتبك .
- لست خائفاً .. ليس فيما عشتُ ما أخشى ظهوره للناس . لكن أريد منك شيئاً . اقرأ لي قصة بصوتك ... من خلف كمامة الوجه هذه !!!.
في المساء عدتُ إلى غرفته وقرأت عليه " المسيرون " . حين انتهيت قال : " دوري الآن " .. وراح يغني " نسّم علينا الهوا .. " لفيروز . لم أملك إلا الترديد معه . حين انتهينا كانت دموعه تسيل . قال : " ومن جمال كمامات وجوهكم أنها لا تخفي دموعكم يا دختر " . فضحكنا بنشوة ! .
معاً ضدك يا سرطان :
قال خالد ، ولم يزل بعد في غرفة العزل : " ما رأيك لو تناوبنا على قراءة الجدارية ؟ . أقرأ ثلاث صفحات ، وتقرأ أنت ثلاثاً " . أعجبتني الفكرة وبدأت أقرأ ، ثم قرأ ، وقرأت ، و قرأ حتى أنهينا الجدارية مرة أولى ، ثم ثانية . نتوقف عند بعض المقاطع ونكررها مرتين وثلاث , كان يعجبه هذا المقطع :
من أَيِّ ريح جئتِ ؟
قولي ما اسمَُ جُرْحِكِ أَعرِف
الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ!
وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني
إلى زَمَنٍ خرافيّ . ويوجعني دمي
والملحُ يوجعني .. ويوجعني الوريدُ "
قال لي : " لا أخاف السرطان ولا الموت. عشتُ بمافيه الكفاية ، ومستعدٌ لمجابهته بكل ما أوتيتُ من عزيمة . لم أرتكب سخافة أندم عليها ، ومقتنع بما فعلتُ طيلة عمري . أشعر أن الجدارية ترسمني في كثير من مقاطعها ". أخبرته اشتياقي لملاقاة الموت ورغبتي الجامحة في مكافحة السرطان حتى يستل أحدٌ منا الآخر ... وسيكون تخصصي الفرعي علاج السرطان . قال : " سنكوّن فريقاً إذن .. أنت بالعلم وأنا بالتجربة . اتفقنا ؟! " . خلعتُ القفاز الطبي لأضع يدي في يديه مؤكداً الاتفاق .
أطفال :
كان يحب الأطفال كثيراً . يشتهي لو أنه طفلٌ صغيرٌ يتمرغُ في التراب ، ويمشي حافي القدمين دون مساءلة . سألني عن أطفالي فأخبرته ، وطلب صورة سعود ليحتفظ بها قرب صورة التوأمين . أسرّ بأنه يحن لطفلةٍ جميلة يسميها " حنين " ، ومازحني : " سأزوجها لسعود " . عاش معي انتظار ميلاد هاجر وطلب مني تصويرها له . وبعد نصف ساعة من ميلادها انطلقت عائداً من مستشفى صحار إلى مسقط لأريه الصور الأولى المأخوذة بواسطة جهاز الهاتف . فرح كثيراً بهذا الجنون وأوصاني بجنون آخر : " عد الآن إليها " .. فعدت ! . وعدته بصورة مطبوعة لهاجر حين يعود شعرها للظهور بعد سطوة الموسى الذي استخدمته أمها حين أتمت الطفلة أسبوعها ورحل خالد قبل نمو شعرك يا هاجر ! . قال : " أشتهي الخروج من العزل لرؤية طفليك " .
عيد :
مر العيدُ ومناعته لم تزل هابطة ، وتعذر إخراجه لقضاء أجازة العيد مع أخويه . كنتُ مناوباً ، وخرجتُ قبل العيد بيوم . كانت المناوبة مزدحمة و مرهقة جداً ، وتعذر نومي
فيها لمدة 32 ساعة متواصلة . مررتُ عليه في غرفته لأودعه قبل الرحيل لشناص . ضحك حين رآني وقال : " والميزة الأخرى لكمامات الوجه أنها تظهر تعب المناوبات بشكل أوضح على العينين !! . أريد هدية العيد " . سألته : " ماذا تريد من هدايا ؟ "
رد :
- قصيدة .
- قصيدة ؟! . تعرف أني لست بشاعر ، ولا يمكنني حتى منحك قصة وأنا بهذه الحال
- ومن طلب منك أن تكون شاعراً يا الدختر ؟! . أريد قصيدة للمتنبي . ألم تخبرني بأنك تضع ديوان المتنبي دائماً في حقيبة المناوبة ؟! . هيا اذهب وأحضره .
ذهبت وأحضرت الديوان . طلب مني قصيدة : " عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ ؟ " . فقرأتها وهو يتأمل عيني وحركات كمامات الوجه تتحرك مع شفتي . قال لي بعد الاستماع : " صوتك وهو متعب ألذ .. وألذ !!!! " . و دون وعي مني قلتُ له : " هيا أسمعني صوتك وأنت تقرأ هذه القصيدة " . فتناول الديوان وقرأ .. سالت دموعه وبللت الصفحات . كان صوته غرائبياً كأنه من السماء وكل كلمة يقولها تخترقني وتشعرني بالقشعريرة الباردة وبكيت .. بكيت حتى ابتلت كمامة الوجه وكادت قاب قوسين أو أدنى من السقوط من على وجهي . فخرجت . ناداني من على الباب بلهجة عمانية : " كل " شوا " عني وعنك .. ما أوصيك . ترانا محرومين منه لحم العيد " .
قبل الرحيل :
بعد أشهرٍ من العذاب ، استنفدت كل الاحتمالات . كلما جرب بروتوكول كيماوي فشل ... واتضح أن المرض يتسارع . قال الاستشاري : " إنها النهاية . صارحوه " . واتجهت الأنظار لي : " أنت الأقرب فأخبره بطريقتك " . قضيت قبلها يومين دون نوم . كيف أخبره ؟ . أي البدايات أختار ؟ . وحين استجمعت عزيمتي ودخلت ابتسم لي . جلستُ صامتاً . سالت دموعي ثم أجهشت بالبكاء . اقترب مني وأزال كمامة الوجه : " أبو هاجر .. هوّن عليك . هذا قضاء الله .أخذت كفايتي من الحياة ولا أهاب الموت .أفهمها جيداً ، وتشبثت بها كثيراً . واكتفيت . صدقني لست حزيناً . هيا امسح دموعك " .
قلت : " كيف عرفت ؟! " .
رد : " أنا أعلم بجسدي من أي شخص آخر .. أخبرني أنه سيتوقف عن الحياة . لكني لست حزيناً . لم أرتكب كبيرة فمم أخاف ؟! . بالعكس أشتهي الآن سماع فيروز . هيا نغني معاً : " أنا عندي حنين ..." . شهقت بالدمع ولم استطع الغناء .
المناوبة !!! :
كنت مناوباً في الليلة ذاتها . دخلتُ عليه الغرفة دون كمامة وجه . كان ضغطه منخفضاً للغاية ، ونبضه متسارع بشدة رغم كل المحاليل والأدوية الرافعة للضغط . قال والإعياء بادٍ عليه : " أشكرك . أشاهد وجهك دون نقص للمرة الأخيرة في هذه الحياة " . أمسكت يديه الباردتين . تأملته كثيراً . ثم سحبتها وخرجت لأكتب رسالة تطلب الدعاء بعثتها لمن أثق بدعواته : " الدعاء . إنه يموت ولا سبيل لإنقاذه إلا بالدعاء " . عدتُ فجلست معه أتامل ملامحه . قلت : " أيؤلمك شيء ؟! " . رد : " لا شيء ... وكل شيء " ... بعد دقائق فتح عينيه والتقت أعيننا فبكيت . قال بابتسامةٍ غريبة : : " أخائفٌ من الموت يا أبا هاجر " . قلت له : " أخاف عليك " ، كانت تلك آخر عبارة له قبل الدخول في غيبوبة الموت . جلستُ معه حتى فارق الحياة . كتبتُ بنفسي شهادة رسمية تثبت وفاة بعضي وسلمتها لذويه .
غلاف :
وقفت محتاراً بين غلافين لمجموعتي : " العابرون فوق شظاياهم " . استشرتُ عدداً من الأصدقاء فازدادت حيرتي . ذهبتُ لخالد كي يختار . تأملهما فترة ، ثم قال : " سأخبرك بطريقة . أعط الغلافين لأمك كي تختار " . وقفت مذهولاً . كيف غابت عني هذه الفكرة ؟! . قال : " أنتظر المجموعة بفارغ الصبر . لمن ستكون النسخة الأولى ؟! . قلت : " لهاجر " . ضحك . كان يعد معي الأيام لقدوم النسخ الأولى .. وقبل ليلة من وصولها رحل . ويوم استلمت النسخة الأولى طلبت محادثة هاجر واستأذنتها :
" النسخة الأولى لخالد .أعندك مانع ؟!" .
أخذت موافقتها وكتبت الإهداء :
" خالد : كيف وجدت الغريب ؟! .
أشعر أني لم أفارقك ...
سحابة واحدة كفتنا ...
أحبك ..."
ما أفعل بهذه النسخة ؟ أأضعها على قبره ؟
عبدالعزيز الفارسي
قبل الرحيل يمطرُ القلب وجعاً .. فلا تلمني إن هذى الغيم داخلي .
نبوءة :
يهديكم خالدُ السلامَ ، فقد عانق الغريبَ وهاجر .
قبل يومين من رحيله ، كنا نتأملُ السُحب عبر حاجزٍ زجاجي مُلوّنٍ يفصلُ غرفة العزل بالمستشفى عن الخارج . لم يكن لون السماء أزرقنا المعهود ، لكننا تعودنا على هذا المزيج من الزرقة المشوبة بعتمة الحواجز . ضحك مشيراً بالسبابة والوسطى لسحابتين . ظهر زنده ناحلاً ، و قد اسودّت عروقه من أثر العلاج الكيماوي . سألته : " ما الذي يضحكك ؟! " . رد : " السحابة الأولى جاءت بالأمس لتحملني إلى السماء ، واكتشفتْ عدم اتساعها لروحي .. جاءت اليوم تجر السحابة الثانية الأكبر . أنظر .. أظنها كافية لروحي " . لم ألتفت إليه لحظتها ، علّمني الحديث عن الموت بجسارة دون البحث عن وقعه في العيون . وداعبته : " أنسيت أن روحي ملتصقة بروحك ؟! . لن تكفي السحابة " .. ابتسم بثقة : " صدقني ستكفي " . ثم صمتنا نتأمل منارات الجامع الأكبر مشوبة بعتمة الحواجز ! .
فيروز البداية :
كان بإمكانه أن يظل مريضاً عادياً بالنسبة لي . " رجلٌ في الأربعين من عمره أصيب بسرطان الدم ودخل المستشفى ليأخذ العلاج الكيماوي " . هكذا كنتُ سأتحدثُ لو لم أدخل عليه أول مرة لأفحصه ، وتلاقت أعيننا فسألني دون مقدمات : " أنت تحب فيروز . أليس كذلك ؟ " . سألته :
- كيف عرفت ؟! .
- لعشاق فيروز عيونٌ تكشفهم .
- فضحتني عيناي إذن . ما أغنيتك المفضلة ؟!
- " أنا عندي حنين "
وابتسمت ُ لاتفاقنا على نفس الأغنية . رأيتُ على الطاولة المجاورة كتاباً أبيض اللون . اقتربت فوجدته كتاب : " ذكرياتي " لطاغور . تعجبت . قلت له : " من أنت بالضبط ؟ يبدو أن لك تاريخاً حافلاً " . عاجلني بالصمت .. فعرفت أنه من أرواحنا . لضيق الوقت وكثرة المرضى وعدته بزيارة أخرى في نهاية اليوم .
البوح الأول :
" خالد ........ "
هذا اسمي الكامل . الأخ الأكبر بين ثلاثة رجال . توفي والدي وعمري عشر سنين ، ورحلت والدتي قبل سنتين . أعشق القراءة منذ الصغر . أحبُ الشِعر ، ويعجبني المتنبي . أحبُ الروايات أيضاً وقرأت كل أعمال نجيب محفوظ ، و أمين معلوف لكن يعجبني عبدالرحمن منيف . أنهيت الثانوية ، ولم أستطع مواصلة الدراسة لضيق ذات اليد ، وحاجة إخواني لمن يعيلهم . عملتُ في أعمال عدة ؛ حكومية ، وخاصة . أحُرقُ نفسي عملاً ، ولكني إن شعرتُ بقلة التقدير أو الإجحاف ، أو تكبّر الرؤساء أترك العمل دون تردد وأبحث عن غيره . آخر عملٍ كان في شركة للمنتجات البلاستيكية وتركته قبل خمسة أشهر .لم أبحث عن غيره لظهور أعراض المرض . كنتُ متزوجاً ، لكني انفصلت بعد سنة ونصف لخلافات شديدة ، ربما نتجت من اختلاف أطباعنا ، و كرهي لأي قيد أو التزام اجتماعي ، أو ربما لأني أعشق أمي وإخواني كثيراً ، وأفضّلهم على نفسي ، وكان ذلك يستفز زوجتي كثيراً . حدث ذلك قبل خمس سنوات . لم أرزق بأي طفل فقد أجهضت طليقتي مرتين أثناء زواجنا ، وحين تزوجت من رجل آخر أنجبت توأماً ! . هاك انظر إلى صورتهما .....
قرار :
جلس يتأملُ خطة العلاج الكيماوي ، بتفاصيلها المعقدة ، ويتأمل الزمن اللازم لإنهاء العلاج ، والخطط البديلة في حالة الفشل . يبتسم ، يقطب حاجبيه ، ثم يبتسم . بعد فترة قصيرة جداً قال : " موافق . هل نبدأ الآن ؟" . دُهشتُ فقد جهزّتُ نفسي كي أجيب على الأسئلة الأصعب والمحيرة : " ما نسبة نجاح العلاج ؟ " .. " كم تبقى لدي لأعيش ؟ " .. " هل العلاج بالخارج أفضل ؟ " .. " هل سينمو شعري بشكل طبيعي فيما بعد ؟ ".." ماذا لو فشلت كل الخطط . سأخسر حياتي ؟! " . لكنه لم يسأل .
اقترحت عليه : " خالد .. ألا تريد معرفة نسبة النجاح ؟ " .
رد : " اسمعني يا " دختر " .. لو أن نسبة النجاح 99 % ، لن يمنع هذا وقوعي ضمن نسبة 1 % التي ستفشل ، والعكس صحيح . دعها للسماء يا صديقي " الدختر " . المهم عندي شيء واحد : إذا فشل العلاج ومت .. لن أموت إلا أثناء مناوبتك !! .هيا نبدأ "
العزل :
تساقط شعره ... لم يأبه لذلك . كانت الجرعات الأولى صعبة عليه ، وأنهكه القيء المتكرر . حين يُسئل : " أثمة ما تشتكي منه ؟! " ، يبتسم ويوميء نفياً ، و نحن نعلم الارتفاع المستمر لحرارته ، وفقدان الشهية ، والإسهال ! . حين تجاوز الأيام الأولى .. انخفضت مناعته ، واستلزم عزله لحمايته . دخلت عليه الغرفة وقد لبست كمامة الوجه ، والقفازات . وجدته يتأمل الفراغ . اقتربت منه فأحسست بحرارته العالية . قال : " أنتظرك .. تأخرت عليّ " . أخبرته أني أجّلت فحصه للنهاية حتى أمضي معه أكبر وقت ممكن . عالجنا اللحظات ببعض الصمت . ضحك قائلاً :
- أجمل ما في عزلكم هذا .. أنكم لا تحجبون عنا رؤية الأعين . تختفي الأفواه والأنوف والأيادي ، وتظل الأعين . لذا أنا سعيد برؤية عينيك المرهقتين دائماً .
- وما أسوأ ما فيه ؟
- الفراغ . لا يوجد تلفاز بهذه الغرفة . غير مسموح بدخول جهاز التسجيل لأسمع فيروز . و إحدى الممرضات الجدد أخذت كتاب طاغور بحجة أنه قد ينقل العدوى . تخيّل : طاغور معدي ؟ .
ضحكت على تعليقه . خرجت فوراً وبحثت في غرفة الممرضات عن كتاب طاغور فوجدته . أعطيته لخالد . ووعدته بمجموعة من الكتب في زيارتي القادمة . في الغد أعطيته " البئر الأولى " و " شارع الأميرات " لجبرا .. وأحضرت المجلد الأول من أعمال السيّاب .. وجدارية درويش ، ومجموعتي الأولى . تخيلتُ أنه لن ينتبه لها إلا بعد أيام ، خصوصاً إذا بدأ بقراءة أعمال جبرا . في الغد استقبلني بابتسامة :
- لِم لم تخبرني بأنك تكتب القصة ؟
- افترضت أنك تعرف .. عرفت فيروز في عيني ولم تعرف الحروف ؟!
- ظننتها حروفاً لغيرك .. كالحروف التي في عيني .
- حسناً . لن نختلف . لا تخف لن أكتبك .
- لست خائفاً .. ليس فيما عشتُ ما أخشى ظهوره للناس . لكن أريد منك شيئاً . اقرأ لي قصة بصوتك ... من خلف كمامة الوجه هذه !!!.
في المساء عدتُ إلى غرفته وقرأت عليه " المسيرون " . حين انتهيت قال : " دوري الآن " .. وراح يغني " نسّم علينا الهوا .. " لفيروز . لم أملك إلا الترديد معه . حين انتهينا كانت دموعه تسيل . قال : " ومن جمال كمامات وجوهكم أنها لا تخفي دموعكم يا دختر " . فضحكنا بنشوة ! .
معاً ضدك يا سرطان :
قال خالد ، ولم يزل بعد في غرفة العزل : " ما رأيك لو تناوبنا على قراءة الجدارية ؟ . أقرأ ثلاث صفحات ، وتقرأ أنت ثلاثاً " . أعجبتني الفكرة وبدأت أقرأ ، ثم قرأ ، وقرأت ، و قرأ حتى أنهينا الجدارية مرة أولى ، ثم ثانية . نتوقف عند بعض المقاطع ونكررها مرتين وثلاث , كان يعجبه هذا المقطع :
من أَيِّ ريح جئتِ ؟
قولي ما اسمَُ جُرْحِكِ أَعرِف
الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ!
وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني
إلى زَمَنٍ خرافيّ . ويوجعني دمي
والملحُ يوجعني .. ويوجعني الوريدُ "
قال لي : " لا أخاف السرطان ولا الموت. عشتُ بمافيه الكفاية ، ومستعدٌ لمجابهته بكل ما أوتيتُ من عزيمة . لم أرتكب سخافة أندم عليها ، ومقتنع بما فعلتُ طيلة عمري . أشعر أن الجدارية ترسمني في كثير من مقاطعها ". أخبرته اشتياقي لملاقاة الموت ورغبتي الجامحة في مكافحة السرطان حتى يستل أحدٌ منا الآخر ... وسيكون تخصصي الفرعي علاج السرطان . قال : " سنكوّن فريقاً إذن .. أنت بالعلم وأنا بالتجربة . اتفقنا ؟! " . خلعتُ القفاز الطبي لأضع يدي في يديه مؤكداً الاتفاق .
أطفال :
كان يحب الأطفال كثيراً . يشتهي لو أنه طفلٌ صغيرٌ يتمرغُ في التراب ، ويمشي حافي القدمين دون مساءلة . سألني عن أطفالي فأخبرته ، وطلب صورة سعود ليحتفظ بها قرب صورة التوأمين . أسرّ بأنه يحن لطفلةٍ جميلة يسميها " حنين " ، ومازحني : " سأزوجها لسعود " . عاش معي انتظار ميلاد هاجر وطلب مني تصويرها له . وبعد نصف ساعة من ميلادها انطلقت عائداً من مستشفى صحار إلى مسقط لأريه الصور الأولى المأخوذة بواسطة جهاز الهاتف . فرح كثيراً بهذا الجنون وأوصاني بجنون آخر : " عد الآن إليها " .. فعدت ! . وعدته بصورة مطبوعة لهاجر حين يعود شعرها للظهور بعد سطوة الموسى الذي استخدمته أمها حين أتمت الطفلة أسبوعها ورحل خالد قبل نمو شعرك يا هاجر ! . قال : " أشتهي الخروج من العزل لرؤية طفليك " .
عيد :
مر العيدُ ومناعته لم تزل هابطة ، وتعذر إخراجه لقضاء أجازة العيد مع أخويه . كنتُ مناوباً ، وخرجتُ قبل العيد بيوم . كانت المناوبة مزدحمة و مرهقة جداً ، وتعذر نومي
فيها لمدة 32 ساعة متواصلة . مررتُ عليه في غرفته لأودعه قبل الرحيل لشناص . ضحك حين رآني وقال : " والميزة الأخرى لكمامات الوجه أنها تظهر تعب المناوبات بشكل أوضح على العينين !! . أريد هدية العيد " . سألته : " ماذا تريد من هدايا ؟ "
رد :
- قصيدة .
- قصيدة ؟! . تعرف أني لست بشاعر ، ولا يمكنني حتى منحك قصة وأنا بهذه الحال
- ومن طلب منك أن تكون شاعراً يا الدختر ؟! . أريد قصيدة للمتنبي . ألم تخبرني بأنك تضع ديوان المتنبي دائماً في حقيبة المناوبة ؟! . هيا اذهب وأحضره .
ذهبت وأحضرت الديوان . طلب مني قصيدة : " عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ ؟ " . فقرأتها وهو يتأمل عيني وحركات كمامات الوجه تتحرك مع شفتي . قال لي بعد الاستماع : " صوتك وهو متعب ألذ .. وألذ !!!! " . و دون وعي مني قلتُ له : " هيا أسمعني صوتك وأنت تقرأ هذه القصيدة " . فتناول الديوان وقرأ .. سالت دموعه وبللت الصفحات . كان صوته غرائبياً كأنه من السماء وكل كلمة يقولها تخترقني وتشعرني بالقشعريرة الباردة وبكيت .. بكيت حتى ابتلت كمامة الوجه وكادت قاب قوسين أو أدنى من السقوط من على وجهي . فخرجت . ناداني من على الباب بلهجة عمانية : " كل " شوا " عني وعنك .. ما أوصيك . ترانا محرومين منه لحم العيد " .
قبل الرحيل :
بعد أشهرٍ من العذاب ، استنفدت كل الاحتمالات . كلما جرب بروتوكول كيماوي فشل ... واتضح أن المرض يتسارع . قال الاستشاري : " إنها النهاية . صارحوه " . واتجهت الأنظار لي : " أنت الأقرب فأخبره بطريقتك " . قضيت قبلها يومين دون نوم . كيف أخبره ؟ . أي البدايات أختار ؟ . وحين استجمعت عزيمتي ودخلت ابتسم لي . جلستُ صامتاً . سالت دموعي ثم أجهشت بالبكاء . اقترب مني وأزال كمامة الوجه : " أبو هاجر .. هوّن عليك . هذا قضاء الله .أخذت كفايتي من الحياة ولا أهاب الموت .أفهمها جيداً ، وتشبثت بها كثيراً . واكتفيت . صدقني لست حزيناً . هيا امسح دموعك " .
قلت : " كيف عرفت ؟! " .
رد : " أنا أعلم بجسدي من أي شخص آخر .. أخبرني أنه سيتوقف عن الحياة . لكني لست حزيناً . لم أرتكب كبيرة فمم أخاف ؟! . بالعكس أشتهي الآن سماع فيروز . هيا نغني معاً : " أنا عندي حنين ..." . شهقت بالدمع ولم استطع الغناء .
المناوبة !!! :
كنت مناوباً في الليلة ذاتها . دخلتُ عليه الغرفة دون كمامة وجه . كان ضغطه منخفضاً للغاية ، ونبضه متسارع بشدة رغم كل المحاليل والأدوية الرافعة للضغط . قال والإعياء بادٍ عليه : " أشكرك . أشاهد وجهك دون نقص للمرة الأخيرة في هذه الحياة " . أمسكت يديه الباردتين . تأملته كثيراً . ثم سحبتها وخرجت لأكتب رسالة تطلب الدعاء بعثتها لمن أثق بدعواته : " الدعاء . إنه يموت ولا سبيل لإنقاذه إلا بالدعاء " . عدتُ فجلست معه أتامل ملامحه . قلت : " أيؤلمك شيء ؟! " . رد : " لا شيء ... وكل شيء " ... بعد دقائق فتح عينيه والتقت أعيننا فبكيت . قال بابتسامةٍ غريبة : : " أخائفٌ من الموت يا أبا هاجر " . قلت له : " أخاف عليك " ، كانت تلك آخر عبارة له قبل الدخول في غيبوبة الموت . جلستُ معه حتى فارق الحياة . كتبتُ بنفسي شهادة رسمية تثبت وفاة بعضي وسلمتها لذويه .
غلاف :
وقفت محتاراً بين غلافين لمجموعتي : " العابرون فوق شظاياهم " . استشرتُ عدداً من الأصدقاء فازدادت حيرتي . ذهبتُ لخالد كي يختار . تأملهما فترة ، ثم قال : " سأخبرك بطريقة . أعط الغلافين لأمك كي تختار " . وقفت مذهولاً . كيف غابت عني هذه الفكرة ؟! . قال : " أنتظر المجموعة بفارغ الصبر . لمن ستكون النسخة الأولى ؟! . قلت : " لهاجر " . ضحك . كان يعد معي الأيام لقدوم النسخ الأولى .. وقبل ليلة من وصولها رحل . ويوم استلمت النسخة الأولى طلبت محادثة هاجر واستأذنتها :
" النسخة الأولى لخالد .أعندك مانع ؟!" .
أخذت موافقتها وكتبت الإهداء :
" خالد : كيف وجدت الغريب ؟! .
أشعر أني لم أفارقك ...
سحابة واحدة كفتنا ...
أحبك ..."
ما أفعل بهذه النسخة ؟ أأضعها على قبره ؟
عبدالعزيز الفارسي