صمت الحزن
18-06-2008, 11:46 AM
عظم المكانة ..بعظم الأفعال!!..
كم كنا نتضايق ونحن صغار من تعليقات أطفال حارتنا الذين لم يكن ليفرق بيننا في الملبس والمأكل والمسكن شيء سوى لهجة حادت قليلا عن مسارها وبتفخيم في بعض ألفاظها..
لكم كنا نحنتق غيضا ونحن نصب جام غضبنا الطفولي الذي لا يتعدى تشابك بالأيدي وشد للشعر ، وضرب بالخيزرانة أحيانا اذا ما تعرضنا لهجوم مباغت من أبناء جلدتنا الذين لا يفصل بيننا وبينهم سوى جدار ليستر حرمتنا وليزيد من أواصر تقارب الكبار من أهلنا .. وإن كنا نعرضهم بمشاكلنا الصغيرة التافهة إلى إحراجات لدى جيرانهم ..
وكبرنا وتكبر معنا تلك الأحاسيس بأننا نختلف عنهم بشيء .. ولطالما كان يؤرق مضجعي ذاك التساؤل الذي لم يكن ليستمر لولا كتمي له سنيناً.. فأنا لم أكن منهم ممن ينعوتنا بهم وبتخلفهم .. لم أكن أنام على حصيرة من الرمل الذي يحرق وجنتي ساعة الظهيرة .. ويلسع جسدي الناحل عندما يجن الليل ..لم يكن لحافي سماءا زاهية بنجومها ذات زرقة تداخلت مع سمرة ليل إكتحل بسواد كأنه فاتنة يغازل حامها كل ليلة .. ولم يكن طعامي أرزا أبيض كعصيدة بلبن خالطها الزبد الذي اعتصرته أيادي نساء كادحات أناء الليل واطراف النهار من بقرة علقت حبالها على شجرة غاف فاتخذتها مؤنسا وحاميا لها .. لم أكن أشرب من ماء بئر قدر لفتاة في السابعة من عمرها أن تجذب ذاك الحبل الثقيل كبحار يشد شراعه ليسدل الستار على سفينته.. فتحمر أياديها المتجمدة من أثر السحب وتتشقق لتخرج دلو الماء من بئر يزاحمها الحي بأكمله فيه ولتبدأ رحلة الرجوع الشاقة التي لا تقل صعوبتها عن المجيء..
.لم أكن منهم حين كانوا يرتحلون بحثا عن الكلأ والماء .. تتخطفهم السبل ، تتماوج بهم الرمال كتموجاتها العصيبة .. لم أكن منهم حين لامست عيونهم القذى ..فإكتحلوها بالماء والملح بالمورد (المكحلة) .. ولم أكن منهم حين داهمهم القحط فخافوا على مواشيهم فراحوا يجتزون شجر الغاف .. ويتسلقونها هم ونسائهم سواء.. غير أبهين بعواقب سقوطهم .. وكم كانت نهاية بعضهم من هذه المغامرات .. لم أكن منهم لأرى التفاني والاصرار العجيب على تحدي الظروف القاسية .. والصمود كجبل صامت لا يهاب الرياح وإن سقطت صخوره..
لم أكن منهم ...حين أقيمت البنيان.. وزاد الصرح الشاهق فغطى نور الشمس عنهم .. ولم يبالوا .. طالما أن شمسهم قابعة هناك في مرافئهم تنتظرهم..
لم أكن منهم حين غزتني المدنية بكل مجالاتها .. فأخذتها راكضة لاهثة وراء سراب خلته سينتشل ألما كنت أحسبه ضاراً.. مخزيا.. في حين أنهم تركوها وولوا .. إلى حيث تلك الرمال الصافية بصفاء قلوبهم.. العظيمة بعظمة جلدهم وتحملهم.. إلى حيث بيت الشعر الذي يترنح مع إتجاه الريح .. وتقتلعه من شدتها فيعاودوا تثبيته.. كأنهم يصارعون عواصفا لم تخجل كعدو راح يضاربهم على مسكنهم فأبوا إلا التشبث بحفنة الرمل .. كأنهم يرسلون إشارات خفية إلى كل واحد منا .. الأرض ليست بألوانها ومنحدراتها .. الأرض بانتمائك لها .. بشعورك بأنك جزء منها.. قطعة إذا ما ساومك الاخرين عليها تأبى .. فهي عرضك .. كرامتك..
قد تشاهدون منظرهم وهم يصارعون عدوهم الخفي في تثبيت الوتد.. وتستهجنون تحمل المشاق والأتربة .. لكنهم .. يرونها أعظم من ذلك .. فهذه الخيمة ليست كتلك القصور الوارفة الظلال .. بل هي جزء حاكته أنامل.. أم وأخت وزوجة.. فطبعت على كل جزء فيه بصمة ..
لم أكن منهم .. ولن أكون .. فهم أعظم من أن أكون منهم.. فبوركتم أيها البدو.. وعظم شأنكم .. بمبادئكم.. بإصراركم.. بمدارسكم التي .. لم يكن لها سقف ..أو كتب ..أومناهج .
وبورك شعبنا .. الذي لم تنجب أرضنا إلا نماذجاً تشرفها ..
رسالة أخيرة
أرسل رسالتي هذه إلى صديقة صادفتها أثناء دراستي بالخارج.. فسألتني لأني في نظرها بدوية .. وطبعا في قواميس تلك الصديقة أن البداوة مرتبطة..بجمل وبيت شعر وصحراء ..كيف هو سكننا في تلك الخيمة .فأجبتها بصيغة ممتعض من سؤالها ..نعم أسكنها ولكن يوجد بها جهاز تكييف ، وتلفزيون بستالايت ..وموقد كهربائي..ومضيت عنها وهي بحيرتها .. وتمر السنين.. وأتذكرها الآن .. لأني أملك الإجابة .. فإليها أرسل إجاباتي :
فذاك البيت الذي إستهزأتي منه لم أتشرف بسكنه بعد .. ولكن أظنني لامست جنباته .. فوجدت أن جهاز التكييف ماهو إلا ثقوب راحت تضخ ذاك الهواء والنسمات العليلة بعدما حبستها بين أضلعها .. وموقدهم ماهو إلا ثلاث صخور صفت بشكل بيضاوي وتوسطتها ألسنة لهب أبت إلا أن تأكل كل الحطب التي إجتزتها يد الأم ساعة النشور من أشجار الغاف .
وأما فضائياتهم ماهي إلا جلسات سمر في ليلة مقمرة .. وونات وشلات .. تنافس مطربي عصرنا .. وإن علمت أن هذا الفن أصبح مطورا لدى الدول الاخرى .. وذا شهرة !!1
وإذا ما داهمهم الملل .. وقلما يصادفونه في حياتهم .. تجد الرمال متنفسهم .. وتعليلات الليل السرمدي متكأهم .. وتلك النيران التي تتطاير شرارتها لتضيء فضاءهم كنجوم أبت إلا أن تعوضهم غياب القمر من لياليهم ..
جميلة تلك الحياة .. والأجمل صمود هؤلاء الرجال .. وجلدهم .. وإيمانهم بغد مشرق .. بغد يجمع الاصالة بالحداثة دونما تغيير في المبادئ أوالمعتقدات ..
همس القلم :
قالوا بدوية ..قلت فخرا..وعزا ..ومجدا.
قالوا تخلف ..وجهل .. قلت بل علمكم فاق الوصف والحدا.
ودمتم برعاية الله ..
ملاحظة/ تم نشره في جريدة عمان على دفعتين ..
كم كنا نتضايق ونحن صغار من تعليقات أطفال حارتنا الذين لم يكن ليفرق بيننا في الملبس والمأكل والمسكن شيء سوى لهجة حادت قليلا عن مسارها وبتفخيم في بعض ألفاظها..
لكم كنا نحنتق غيضا ونحن نصب جام غضبنا الطفولي الذي لا يتعدى تشابك بالأيدي وشد للشعر ، وضرب بالخيزرانة أحيانا اذا ما تعرضنا لهجوم مباغت من أبناء جلدتنا الذين لا يفصل بيننا وبينهم سوى جدار ليستر حرمتنا وليزيد من أواصر تقارب الكبار من أهلنا .. وإن كنا نعرضهم بمشاكلنا الصغيرة التافهة إلى إحراجات لدى جيرانهم ..
وكبرنا وتكبر معنا تلك الأحاسيس بأننا نختلف عنهم بشيء .. ولطالما كان يؤرق مضجعي ذاك التساؤل الذي لم يكن ليستمر لولا كتمي له سنيناً.. فأنا لم أكن منهم ممن ينعوتنا بهم وبتخلفهم .. لم أكن أنام على حصيرة من الرمل الذي يحرق وجنتي ساعة الظهيرة .. ويلسع جسدي الناحل عندما يجن الليل ..لم يكن لحافي سماءا زاهية بنجومها ذات زرقة تداخلت مع سمرة ليل إكتحل بسواد كأنه فاتنة يغازل حامها كل ليلة .. ولم يكن طعامي أرزا أبيض كعصيدة بلبن خالطها الزبد الذي اعتصرته أيادي نساء كادحات أناء الليل واطراف النهار من بقرة علقت حبالها على شجرة غاف فاتخذتها مؤنسا وحاميا لها .. لم أكن أشرب من ماء بئر قدر لفتاة في السابعة من عمرها أن تجذب ذاك الحبل الثقيل كبحار يشد شراعه ليسدل الستار على سفينته.. فتحمر أياديها المتجمدة من أثر السحب وتتشقق لتخرج دلو الماء من بئر يزاحمها الحي بأكمله فيه ولتبدأ رحلة الرجوع الشاقة التي لا تقل صعوبتها عن المجيء..
.لم أكن منهم حين كانوا يرتحلون بحثا عن الكلأ والماء .. تتخطفهم السبل ، تتماوج بهم الرمال كتموجاتها العصيبة .. لم أكن منهم حين لامست عيونهم القذى ..فإكتحلوها بالماء والملح بالمورد (المكحلة) .. ولم أكن منهم حين داهمهم القحط فخافوا على مواشيهم فراحوا يجتزون شجر الغاف .. ويتسلقونها هم ونسائهم سواء.. غير أبهين بعواقب سقوطهم .. وكم كانت نهاية بعضهم من هذه المغامرات .. لم أكن منهم لأرى التفاني والاصرار العجيب على تحدي الظروف القاسية .. والصمود كجبل صامت لا يهاب الرياح وإن سقطت صخوره..
لم أكن منهم ...حين أقيمت البنيان.. وزاد الصرح الشاهق فغطى نور الشمس عنهم .. ولم يبالوا .. طالما أن شمسهم قابعة هناك في مرافئهم تنتظرهم..
لم أكن منهم حين غزتني المدنية بكل مجالاتها .. فأخذتها راكضة لاهثة وراء سراب خلته سينتشل ألما كنت أحسبه ضاراً.. مخزيا.. في حين أنهم تركوها وولوا .. إلى حيث تلك الرمال الصافية بصفاء قلوبهم.. العظيمة بعظمة جلدهم وتحملهم.. إلى حيث بيت الشعر الذي يترنح مع إتجاه الريح .. وتقتلعه من شدتها فيعاودوا تثبيته.. كأنهم يصارعون عواصفا لم تخجل كعدو راح يضاربهم على مسكنهم فأبوا إلا التشبث بحفنة الرمل .. كأنهم يرسلون إشارات خفية إلى كل واحد منا .. الأرض ليست بألوانها ومنحدراتها .. الأرض بانتمائك لها .. بشعورك بأنك جزء منها.. قطعة إذا ما ساومك الاخرين عليها تأبى .. فهي عرضك .. كرامتك..
قد تشاهدون منظرهم وهم يصارعون عدوهم الخفي في تثبيت الوتد.. وتستهجنون تحمل المشاق والأتربة .. لكنهم .. يرونها أعظم من ذلك .. فهذه الخيمة ليست كتلك القصور الوارفة الظلال .. بل هي جزء حاكته أنامل.. أم وأخت وزوجة.. فطبعت على كل جزء فيه بصمة ..
لم أكن منهم .. ولن أكون .. فهم أعظم من أن أكون منهم.. فبوركتم أيها البدو.. وعظم شأنكم .. بمبادئكم.. بإصراركم.. بمدارسكم التي .. لم يكن لها سقف ..أو كتب ..أومناهج .
وبورك شعبنا .. الذي لم تنجب أرضنا إلا نماذجاً تشرفها ..
رسالة أخيرة
أرسل رسالتي هذه إلى صديقة صادفتها أثناء دراستي بالخارج.. فسألتني لأني في نظرها بدوية .. وطبعا في قواميس تلك الصديقة أن البداوة مرتبطة..بجمل وبيت شعر وصحراء ..كيف هو سكننا في تلك الخيمة .فأجبتها بصيغة ممتعض من سؤالها ..نعم أسكنها ولكن يوجد بها جهاز تكييف ، وتلفزيون بستالايت ..وموقد كهربائي..ومضيت عنها وهي بحيرتها .. وتمر السنين.. وأتذكرها الآن .. لأني أملك الإجابة .. فإليها أرسل إجاباتي :
فذاك البيت الذي إستهزأتي منه لم أتشرف بسكنه بعد .. ولكن أظنني لامست جنباته .. فوجدت أن جهاز التكييف ماهو إلا ثقوب راحت تضخ ذاك الهواء والنسمات العليلة بعدما حبستها بين أضلعها .. وموقدهم ماهو إلا ثلاث صخور صفت بشكل بيضاوي وتوسطتها ألسنة لهب أبت إلا أن تأكل كل الحطب التي إجتزتها يد الأم ساعة النشور من أشجار الغاف .
وأما فضائياتهم ماهي إلا جلسات سمر في ليلة مقمرة .. وونات وشلات .. تنافس مطربي عصرنا .. وإن علمت أن هذا الفن أصبح مطورا لدى الدول الاخرى .. وذا شهرة !!1
وإذا ما داهمهم الملل .. وقلما يصادفونه في حياتهم .. تجد الرمال متنفسهم .. وتعليلات الليل السرمدي متكأهم .. وتلك النيران التي تتطاير شرارتها لتضيء فضاءهم كنجوم أبت إلا أن تعوضهم غياب القمر من لياليهم ..
جميلة تلك الحياة .. والأجمل صمود هؤلاء الرجال .. وجلدهم .. وإيمانهم بغد مشرق .. بغد يجمع الاصالة بالحداثة دونما تغيير في المبادئ أوالمعتقدات ..
همس القلم :
قالوا بدوية ..قلت فخرا..وعزا ..ومجدا.
قالوا تخلف ..وجهل .. قلت بل علمكم فاق الوصف والحدا.
ودمتم برعاية الله ..
ملاحظة/ تم نشره في جريدة عمان على دفعتين ..