جامعي متميز
09-03-2009, 09:06 PM
أحمد بن سعود : النزعة الشعوبية هدفت إلى الاستنقاص من سلوك وعادات العرب
الحارثــي: التشريعات الإسلامية تحمل في طياتها الهداية للبشرية
الأغبـري : القيم الأخلاقية والمعاني السامية تقوّم السلوك الفردي والجماعي
مسقط ـ أحمد الحارثي :
يطل علينا شهر ربيع الأول من كل عام وهو يحمل بين جنباته ذكرى ملأت الدنيا ضياء ونورا وفاح أريج شذاها في الأرض والسماء وسطرها التاريخ بأحرف من ذهب إنها ذكرى ميلاد خير خلق الله وصفوة الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتتجدد هذه الحادثة العظيمة الجليلة كل عام لتدفعنا إلى أخذ العظات النافعة والدروس البالغة من أبعادها التي لو أردنا أن نحصيها لعجزنا ولكننا نحاول أن نكتشف مكنوناتها وأسرارها .
وفي هذا التحقيق سنحاول التركيز على بعض من جوانبها حيث سنقف على قوله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " لنتعرف على أبعاد هذه المقولة وما تحمله من دلالات ومعاني وسنتطرق كذلك إلى شمولية الرسالة من خلال قوله تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وكيف لنا أن نستجلي المعاني والدلالات التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ، كما سنتحدث عن كيفية استثمار هذه المناسبة العظيمة في بعث الهمم إلى اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والبداية كانت مع أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء حيث سألناه السؤال التالي : يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " مما يوحي أن العرب كانوا يعيشون فترة ازدهار فكري وحضاري ، كيف يمكن توضيح هذا المفهوم في ظل الهجمة الشعوبية إبان ازدهار الحضارة العربية الإسلامية آنذاك؟
فأجاب : من المعلوم أن - خليل الله - إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء وهو صاحب رسالة كبرى وهو من أولي العزم وقد انتشر دين إبراهيم عليه السلام قبل مجئ نبي الله موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام خاصة في الجزيرة العربية حيث أن الديانة الإبراهيمية انتشرت في الجزيرة العربية والعرب ظلوا محافظين أوفياء على الديانة الإبراهيمية ولم يتأثروا بالديانة اليهودية والمسيحية إلا مؤخرا ببعض التأثيرات المحدودة إن صح التعبير فالعرب بقوا على دين الله إبراهيم ثم بمرور الزمن وخفوت نور النبوة بدأت تتسرب إلى العرب بعض الأمور في العقيدة ووصلت إلى أمور شركية كعبادة الأصنام وعبادة الأوثان لأنهم رأوا الشعوب المجاورة يعبدونها كما قيل ان عمر بن لحي الخزاعي وهو من خزاعة القبيلة التي كانت مسيطرة على الحرم ذهب إلى الشام ووجدهم يعبدون أصناما فسألهم ما هذه؟ فقالوا له هذه أصنام نستغيثها فتغيثنا ونستنصرها فتنصرنا ويتعلقون بها ويحسون بمردود ذلك التعلق وهي أشياء وهمية فجاء بصنم من الشام فوضعه عند الكعبة فهو أول صنم وضع في الجزيرة العربية وفي الحرم بالذات ويسمى ( هبل ) وهو يعتبر أبو الأصنام – إن صح التعبير- في الجزيرة العربية فعندما تغلب المشركون على المسلمين في معركة أحد كان أبو سفيان بن حرب قائد المشركين يصيح بأعلى صوته "أعل هبل " فرد عليه المسلمون " الله أكبر " الله أعلى وأكبر.
مشيرا إلى أنه وبالرغم من أن العرب أعتنقوا أمورا شركية وفي مقدمتها عبادة الأصنام لكنهم ظلوا في الأمور الاجتماعية وفي مناسك الحج متمسكين بدين النبي إبراهيم " الديانة الإبراهيمية " ماعدا أن قريش حرفت في بعض المناسك الداعية إلى التميز باعتبارهم هم حماة الحرم وسدنة البيت العتيق فوضعوا لأنفسهم بعض التميز في قضية الإفاضة والنفرة فادعوا ذلك التميز وبقيت معظم مناسك الحج كما جاءت في الديانة الإبراهيمية أما الأمور الاجتماعية فظلوا متمسكين بها وأوفياء لها كإكرام الضيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وحرمة الجار وحماية الجار والابتعاد عن الكذب والتمسك بالصدق والأمانة والوفاء بالعهد هذه كلها مفردات اجتماعية عظيمة أقرها الإسلام وظل العرب متمسكين بها نتيجة بقائها من الديانة الإبراهيمية فتمسك بها العرب اجتماعيا إلى حد كبير ومنقطع النظير وأقرها الإسلام ،
مضيفا أن الإنسان عندما يقرأ كتب التاريخ وكتب الأدب يجد في الحقيقة ما يبهره من تمسك العرب بتلك المفردات الاجتماعية العظيمة و العربي كان لا يمكن أن يسئ إلى جاره وجاء في مقولتهم " الجار قبل الدار " وكان العربي لا يمكن أن يسئ إلى امرأة جاره كقول الشاعر العربي عنترة :
وأغض طرفي إن بدأت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وهذه من حقوق حماية الجار ، وبما أن شرائع الأنبياء في العقيدة هي واحدة لأن العقيدة متصلة بالصفات الإلهية فهذه لا يوجد بها تغيير أو تبديل فالله تعالى في أسمائه وصفاته لا يتغير وهو هو في الأزل وفيما لا يزال ، والشرائع وإن جاءت نسبيا مختلفة إلا أنها في منظومتها العامة هي متفقة كلها تحل الحلال وتحرم الحرام وتحرم الخبائث وتبيح الطيبات وفي المنظومة الإيمانية هي متفقة فالإسلام أقر هذه العادات الاجتماعية والأعراف الاجتماعية عند العرب وإنما هذب بعضها أو رتبها أو حسنها إذا كانت دخل بها شيء من الشرك ولكن بصورة إجمالية وضعها على حالها هذا هو السر عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " هذه هي مكارم الأخلاق .و عندما بنى العرب دولتهم دولة الخلافة الراشدة وتوسعوا بها على حساب الدول الأخرى على حساب إمبراطورية الفرس والروم ودخلت تلك الشعوب في مجملها في الإسلام في إطار الإسلام المحرر إن صح التعبير ويقال لها "الفتوحات الإسلامية" وأنا أسميها "التحريرات الإسلامية" لأنها حررت تلك الشعوب من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة فالإنسان ينطلق في هذه الدنيا حسب المفاهيم الإسلامية وفي ظل العبودية للخالق الواحد وليس في ظل العبودية للبشر أو لصنم أو لأي كائن آخر، ونتيجة لذلك أن كثيرا من أولئكم القوم رأوا أن في هؤلاء المسلمين الذين كانوا يستحقرونهم قبل الإسلام ويعتبرونهم أهل بداوة وأهل التخلف الحضاري وأنهم بقلتهم وانحصارهم في الجزيرة العربية في ظل حياة جافة لا مطر ولاشجر ولا أنهار ولا أشجار يأتون ويسيطرون على هذه الممالك الكبرى ذات الزراعة وذات الأنهار وذات الأمطار والخيرات الوفيرة يأتون ويطيحون بهذه القوى العسكرية الضخمة سواء التي كانت تحت هيمنة الروم أو هيمنة الفرس فنتيجة لذلك داخلهم شيء من الاستياء فجاءت مرحلة الهجمة الأعجمية على الدولة الإسلامية بعدما انتهت دولة الخلافة وجاءت الدولة الأموية التي كانت ذات نزعة قومية عربية شديدة فأججت مشاعر الأقوام الأخرى غير العربية تجاه العرب وسيطرة العرب واستئثار العرب بالإمكانيات وبالدولة فأخذوا يبحثون عن ما يصمون به العرب وهذه تسمى بـ"النزعة الشعوبية" أي جاءت شعوب أخرى كثيرة وهي شعوب أعجمية فجاءت بنزعتها واستيائها من سيطرة العرب عليهم وإطاحة العرب بممتلكاتهم أطاحوا بها في ظل الإسلام فأخذوا ينتقصون من العرب من عاداتهم ومن سلوكهم وجاء في أدبياتهم الكثير من ذلك.
الرد على الشعوبين
و في المقابل ظهر هنالك أدباء عرب في مقدمتهم الجاحظ وغيره من المؤلفين الموسوعيين وأخذوا يردون على أولئكم الشعوبيين فيما ينتقصون به العرب ويظهرون فضل العرب وعظمتهم فكانت هذه الهجمة الشعوبية كبيرة وقوية لاسيما وأنهم في الدولة العباسية هيمنوا على مقدرات الدولة العباسية ومقدرات الأمة الإسلامية بشكل عام وفي ظل الخلافة العباسية وانحسر الدور العربي فهيمن الفرس أولا على الخلافة العباسية ثم الترك ثم جاءت الشعوب الأخرى كالديلم والسلاجقة وشعوب أسيا الصغرى والوسطى هيمنوا على الدولة العباسية وعلى مقدرات الأمة الإسلامية وهذا أيضا ما جعل أن يظهر كتّاب ومؤلفون آخرون كالجاحظ وغيره في الرد على الشعوبية فأبرزوا محاسن العرب وتاريخ العرب وأمجاد العرب وعظمة العرب في عاداتهم وأخلاقهم وفي مجتمعاتهم ومنها كتاب البخلاء للجاحظ على سبيل المثال فقد ألفه في الرد على أولئك الشعوبيين .
ولنتعرف على شمولية الرسالة المحمدية والدلالات والمعاني التي تحملها الآية الكريمة " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " إلتقينا بالفاضل/ سالم بن سعيد الحارثي باحث بمكتب الإفتاء فقال :
يلحظ من هذه الآية الكريمة ملحظان اثنان الأول إتيان كلمة " رحمة " نكرة والثاني انتقاء كلمة "العالمين " دون أي كلمة أخرى ، وفي هذا قمة اللطف الرباني بالإنسانية إذ لم تكن الرحمة لفئة المسلمين دون غيرهم ولا لعرق دون آخر ولا لخلق دون آخر إذ يتضح ذلك جليا من تشريعات الإسلام التي تحمل في طياتها الهداية للبشرية بما تحويه خصائص الشمولية والتجدد والتوازن بين الروح والبدن ، كما إنها رحمة لغير المسلمين وهذا يتضح من التشريعات التي تحفظ حقوق غير المسلمين من إبلاغهم للهداية الربانية وحماية أهل الذمة منهم وإنصافهم ممن ظلمهم ولا أدل على ذلك من تعامله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين فقد وفى عهوده مع اليهود ومع مشركي قريش بل أحسن معاملة وفودهم وأكثر من ذلك أن فتح مكة كان نصرة لبعض الحلفاء الذين لم يكونوا على ملة الإسلام ،
وأضاف أن الرحمة الربانية التي بعث بها رسول الله شملت الحيوان حتى عند الذبح فقد أرشد إلى إحسان الذبح والقتل إذ جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " بل أخبر رسول الله عن الأجر في الإحسان لكل شيء حتى البهائم ففي الحديث المشهور عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا فقال في كل كبد رطبة أجر.
ويشاركنا في هذا التحقيق الدكتور / إسماعيل بن صالح الأغبري خبير الوعظ والإرشاد بالمديرية العامة للوعظ والإرشاد حيث سألناه عن كيفية استثمار هذه المناسبة في بعث الهمم واقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم.فقال : يمكن النظر إلى السلوك الفردي والجماعي في المجتمع من خلال تجسيد المعاني السامية والقيم الأخلاقية الإسلامية المحمدية الرفيعة كالصدق مع النفس ومع الآخر الذي من شأنه أن يقوي العلاقات بين الأفراد فكل يثق بالآخر ويطمئن إليه والأمانة بأوسع أبوابها والتي من شأنها أن ترسخ عرى الإيمان وتعلم الإنسان المراقبة الذاتية وتذكّر المرء بأن الله مطلع على الصغيرة والكبيرة فالأمانة خلق إسلامي محمدي لها أثرها الإيجابي على الفرد والمجتمعات ، ومن القيم الإسلامية المحمدية التسامح مع الآخر فيما جاز فيه التسامح فعدم احتكار الحق أو القطع بأن الصواب في القول الفلاني دون غيره مما يساهم في تلطيف الأجواء والتقريب بين أفراد المجتمع .
ويضيف أن إحسان الظن بالآخر وعدم التشكيك في كل قول وفعل مما يساهم في إشاعة روح الأخوة فسوء الظن يوغر الصدور ويورث الأحقاد ويولد الحسد والعداوة ومن المثل الإسلامية المحمدية تجنب الإشاعات المغرضة أو المسارعة إلى تصديق كل قول أو المساهمة في نشر الأخبار الكاذبة فالإشاعة تسبب البلبلة والضجيج في المجتمعات وتفقد الثقة بين الناس وهي مع ذلك محض كذب وافتراء وتدليس وتغرير يعود ضررها الدنيوي والأخروي على مختلقها ولها آثار سلبية كثيرة على أفراد المجتمع .مؤكدا أن التواضع خلق محمدي أصيل وهو إيجابي لا سلبي حسب مفاهيم كثير من الناس وهو لا يعني التفريط في الحق أو قبول الذل بل هو خلق معتبر بالمعنى الإيجابي .
الحارثــي: التشريعات الإسلامية تحمل في طياتها الهداية للبشرية
الأغبـري : القيم الأخلاقية والمعاني السامية تقوّم السلوك الفردي والجماعي
مسقط ـ أحمد الحارثي :
يطل علينا شهر ربيع الأول من كل عام وهو يحمل بين جنباته ذكرى ملأت الدنيا ضياء ونورا وفاح أريج شذاها في الأرض والسماء وسطرها التاريخ بأحرف من ذهب إنها ذكرى ميلاد خير خلق الله وصفوة الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وتتجدد هذه الحادثة العظيمة الجليلة كل عام لتدفعنا إلى أخذ العظات النافعة والدروس البالغة من أبعادها التي لو أردنا أن نحصيها لعجزنا ولكننا نحاول أن نكتشف مكنوناتها وأسرارها .
وفي هذا التحقيق سنحاول التركيز على بعض من جوانبها حيث سنقف على قوله صلى الله عليه وسلم " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " لنتعرف على أبعاد هذه المقولة وما تحمله من دلالات ومعاني وسنتطرق كذلك إلى شمولية الرسالة من خلال قوله تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " وكيف لنا أن نستجلي المعاني والدلالات التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ، كما سنتحدث عن كيفية استثمار هذه المناسبة العظيمة في بعث الهمم إلى اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
والبداية كانت مع أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء حيث سألناه السؤال التالي : يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " مما يوحي أن العرب كانوا يعيشون فترة ازدهار فكري وحضاري ، كيف يمكن توضيح هذا المفهوم في ظل الهجمة الشعوبية إبان ازدهار الحضارة العربية الإسلامية آنذاك؟
فأجاب : من المعلوم أن - خليل الله - إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء وهو صاحب رسالة كبرى وهو من أولي العزم وقد انتشر دين إبراهيم عليه السلام قبل مجئ نبي الله موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام خاصة في الجزيرة العربية حيث أن الديانة الإبراهيمية انتشرت في الجزيرة العربية والعرب ظلوا محافظين أوفياء على الديانة الإبراهيمية ولم يتأثروا بالديانة اليهودية والمسيحية إلا مؤخرا ببعض التأثيرات المحدودة إن صح التعبير فالعرب بقوا على دين الله إبراهيم ثم بمرور الزمن وخفوت نور النبوة بدأت تتسرب إلى العرب بعض الأمور في العقيدة ووصلت إلى أمور شركية كعبادة الأصنام وعبادة الأوثان لأنهم رأوا الشعوب المجاورة يعبدونها كما قيل ان عمر بن لحي الخزاعي وهو من خزاعة القبيلة التي كانت مسيطرة على الحرم ذهب إلى الشام ووجدهم يعبدون أصناما فسألهم ما هذه؟ فقالوا له هذه أصنام نستغيثها فتغيثنا ونستنصرها فتنصرنا ويتعلقون بها ويحسون بمردود ذلك التعلق وهي أشياء وهمية فجاء بصنم من الشام فوضعه عند الكعبة فهو أول صنم وضع في الجزيرة العربية وفي الحرم بالذات ويسمى ( هبل ) وهو يعتبر أبو الأصنام – إن صح التعبير- في الجزيرة العربية فعندما تغلب المشركون على المسلمين في معركة أحد كان أبو سفيان بن حرب قائد المشركين يصيح بأعلى صوته "أعل هبل " فرد عليه المسلمون " الله أكبر " الله أعلى وأكبر.
مشيرا إلى أنه وبالرغم من أن العرب أعتنقوا أمورا شركية وفي مقدمتها عبادة الأصنام لكنهم ظلوا في الأمور الاجتماعية وفي مناسك الحج متمسكين بدين النبي إبراهيم " الديانة الإبراهيمية " ماعدا أن قريش حرفت في بعض المناسك الداعية إلى التميز باعتبارهم هم حماة الحرم وسدنة البيت العتيق فوضعوا لأنفسهم بعض التميز في قضية الإفاضة والنفرة فادعوا ذلك التميز وبقيت معظم مناسك الحج كما جاءت في الديانة الإبراهيمية أما الأمور الاجتماعية فظلوا متمسكين بها وأوفياء لها كإكرام الضيف وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وحرمة الجار وحماية الجار والابتعاد عن الكذب والتمسك بالصدق والأمانة والوفاء بالعهد هذه كلها مفردات اجتماعية عظيمة أقرها الإسلام وظل العرب متمسكين بها نتيجة بقائها من الديانة الإبراهيمية فتمسك بها العرب اجتماعيا إلى حد كبير ومنقطع النظير وأقرها الإسلام ،
مضيفا أن الإنسان عندما يقرأ كتب التاريخ وكتب الأدب يجد في الحقيقة ما يبهره من تمسك العرب بتلك المفردات الاجتماعية العظيمة و العربي كان لا يمكن أن يسئ إلى جاره وجاء في مقولتهم " الجار قبل الدار " وكان العربي لا يمكن أن يسئ إلى امرأة جاره كقول الشاعر العربي عنترة :
وأغض طرفي إن بدأت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وهذه من حقوق حماية الجار ، وبما أن شرائع الأنبياء في العقيدة هي واحدة لأن العقيدة متصلة بالصفات الإلهية فهذه لا يوجد بها تغيير أو تبديل فالله تعالى في أسمائه وصفاته لا يتغير وهو هو في الأزل وفيما لا يزال ، والشرائع وإن جاءت نسبيا مختلفة إلا أنها في منظومتها العامة هي متفقة كلها تحل الحلال وتحرم الحرام وتحرم الخبائث وتبيح الطيبات وفي المنظومة الإيمانية هي متفقة فالإسلام أقر هذه العادات الاجتماعية والأعراف الاجتماعية عند العرب وإنما هذب بعضها أو رتبها أو حسنها إذا كانت دخل بها شيء من الشرك ولكن بصورة إجمالية وضعها على حالها هذا هو السر عندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " هذه هي مكارم الأخلاق .و عندما بنى العرب دولتهم دولة الخلافة الراشدة وتوسعوا بها على حساب الدول الأخرى على حساب إمبراطورية الفرس والروم ودخلت تلك الشعوب في مجملها في الإسلام في إطار الإسلام المحرر إن صح التعبير ويقال لها "الفتوحات الإسلامية" وأنا أسميها "التحريرات الإسلامية" لأنها حررت تلك الشعوب من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة فالإنسان ينطلق في هذه الدنيا حسب المفاهيم الإسلامية وفي ظل العبودية للخالق الواحد وليس في ظل العبودية للبشر أو لصنم أو لأي كائن آخر، ونتيجة لذلك أن كثيرا من أولئكم القوم رأوا أن في هؤلاء المسلمين الذين كانوا يستحقرونهم قبل الإسلام ويعتبرونهم أهل بداوة وأهل التخلف الحضاري وأنهم بقلتهم وانحصارهم في الجزيرة العربية في ظل حياة جافة لا مطر ولاشجر ولا أنهار ولا أشجار يأتون ويسيطرون على هذه الممالك الكبرى ذات الزراعة وذات الأنهار وذات الأمطار والخيرات الوفيرة يأتون ويطيحون بهذه القوى العسكرية الضخمة سواء التي كانت تحت هيمنة الروم أو هيمنة الفرس فنتيجة لذلك داخلهم شيء من الاستياء فجاءت مرحلة الهجمة الأعجمية على الدولة الإسلامية بعدما انتهت دولة الخلافة وجاءت الدولة الأموية التي كانت ذات نزعة قومية عربية شديدة فأججت مشاعر الأقوام الأخرى غير العربية تجاه العرب وسيطرة العرب واستئثار العرب بالإمكانيات وبالدولة فأخذوا يبحثون عن ما يصمون به العرب وهذه تسمى بـ"النزعة الشعوبية" أي جاءت شعوب أخرى كثيرة وهي شعوب أعجمية فجاءت بنزعتها واستيائها من سيطرة العرب عليهم وإطاحة العرب بممتلكاتهم أطاحوا بها في ظل الإسلام فأخذوا ينتقصون من العرب من عاداتهم ومن سلوكهم وجاء في أدبياتهم الكثير من ذلك.
الرد على الشعوبين
و في المقابل ظهر هنالك أدباء عرب في مقدمتهم الجاحظ وغيره من المؤلفين الموسوعيين وأخذوا يردون على أولئكم الشعوبيين فيما ينتقصون به العرب ويظهرون فضل العرب وعظمتهم فكانت هذه الهجمة الشعوبية كبيرة وقوية لاسيما وأنهم في الدولة العباسية هيمنوا على مقدرات الدولة العباسية ومقدرات الأمة الإسلامية بشكل عام وفي ظل الخلافة العباسية وانحسر الدور العربي فهيمن الفرس أولا على الخلافة العباسية ثم الترك ثم جاءت الشعوب الأخرى كالديلم والسلاجقة وشعوب أسيا الصغرى والوسطى هيمنوا على الدولة العباسية وعلى مقدرات الأمة الإسلامية وهذا أيضا ما جعل أن يظهر كتّاب ومؤلفون آخرون كالجاحظ وغيره في الرد على الشعوبية فأبرزوا محاسن العرب وتاريخ العرب وأمجاد العرب وعظمة العرب في عاداتهم وأخلاقهم وفي مجتمعاتهم ومنها كتاب البخلاء للجاحظ على سبيل المثال فقد ألفه في الرد على أولئك الشعوبيين .
ولنتعرف على شمولية الرسالة المحمدية والدلالات والمعاني التي تحملها الآية الكريمة " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " إلتقينا بالفاضل/ سالم بن سعيد الحارثي باحث بمكتب الإفتاء فقال :
يلحظ من هذه الآية الكريمة ملحظان اثنان الأول إتيان كلمة " رحمة " نكرة والثاني انتقاء كلمة "العالمين " دون أي كلمة أخرى ، وفي هذا قمة اللطف الرباني بالإنسانية إذ لم تكن الرحمة لفئة المسلمين دون غيرهم ولا لعرق دون آخر ولا لخلق دون آخر إذ يتضح ذلك جليا من تشريعات الإسلام التي تحمل في طياتها الهداية للبشرية بما تحويه خصائص الشمولية والتجدد والتوازن بين الروح والبدن ، كما إنها رحمة لغير المسلمين وهذا يتضح من التشريعات التي تحفظ حقوق غير المسلمين من إبلاغهم للهداية الربانية وحماية أهل الذمة منهم وإنصافهم ممن ظلمهم ولا أدل على ذلك من تعامله صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين فقد وفى عهوده مع اليهود ومع مشركي قريش بل أحسن معاملة وفودهم وأكثر من ذلك أن فتح مكة كان نصرة لبعض الحلفاء الذين لم يكونوا على ملة الإسلام ،
وأضاف أن الرحمة الربانية التي بعث بها رسول الله شملت الحيوان حتى عند الذبح فقد أرشد إلى إحسان الذبح والقتل إذ جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " بل أخبر رسول الله عن الأجر في الإحسان لكل شيء حتى البهائم ففي الحديث المشهور عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا فقال في كل كبد رطبة أجر.
ويشاركنا في هذا التحقيق الدكتور / إسماعيل بن صالح الأغبري خبير الوعظ والإرشاد بالمديرية العامة للوعظ والإرشاد حيث سألناه عن كيفية استثمار هذه المناسبة في بعث الهمم واقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم.فقال : يمكن النظر إلى السلوك الفردي والجماعي في المجتمع من خلال تجسيد المعاني السامية والقيم الأخلاقية الإسلامية المحمدية الرفيعة كالصدق مع النفس ومع الآخر الذي من شأنه أن يقوي العلاقات بين الأفراد فكل يثق بالآخر ويطمئن إليه والأمانة بأوسع أبوابها والتي من شأنها أن ترسخ عرى الإيمان وتعلم الإنسان المراقبة الذاتية وتذكّر المرء بأن الله مطلع على الصغيرة والكبيرة فالأمانة خلق إسلامي محمدي لها أثرها الإيجابي على الفرد والمجتمعات ، ومن القيم الإسلامية المحمدية التسامح مع الآخر فيما جاز فيه التسامح فعدم احتكار الحق أو القطع بأن الصواب في القول الفلاني دون غيره مما يساهم في تلطيف الأجواء والتقريب بين أفراد المجتمع .
ويضيف أن إحسان الظن بالآخر وعدم التشكيك في كل قول وفعل مما يساهم في إشاعة روح الأخوة فسوء الظن يوغر الصدور ويورث الأحقاد ويولد الحسد والعداوة ومن المثل الإسلامية المحمدية تجنب الإشاعات المغرضة أو المسارعة إلى تصديق كل قول أو المساهمة في نشر الأخبار الكاذبة فالإشاعة تسبب البلبلة والضجيج في المجتمعات وتفقد الثقة بين الناس وهي مع ذلك محض كذب وافتراء وتدليس وتغرير يعود ضررها الدنيوي والأخروي على مختلقها ولها آثار سلبية كثيرة على أفراد المجتمع .مؤكدا أن التواضع خلق محمدي أصيل وهو إيجابي لا سلبي حسب مفاهيم كثير من الناس وهو لا يعني التفريط في الحق أو قبول الذل بل هو خلق معتبر بالمعنى الإيجابي .