بنت المالكي
16-06-2009, 11:47 AM
القناعة.. الكنز المفقود!
يعيش الناس جلهم ليكنزوا ما استطاعوا؛ ليواجهوا ما لا يأمنون … ولأنها حقًّا حياة متقلبة، فقد ينفد أغلب ما يكنزون، إلا من شيء استخلصه العرب في حِكَمهم فقالوا: "القناعة كنز لا ينفد!"
لنتفقد سويًّا هذا الكنز؛ عسى أن يعرف كل منا هل صادفه أم لا؟
وأول ما نبدأ به هو إزالة الخلط عن الأذهان بتحديد معنى القناعة، فالقناعة هي الرضا.. فيكون المرء راضيًا بنفسه وراضيًا عنها، وكذلك عن مستواه المادي أو الثقافي، أو ما إلى ذلك مما حباه الله به.
وفرق كبير بين القناعة الحقيقية التي تعني أن يرضى الإنسان بنفسه وإمكانياته، فيثق بقدراته، ويسعى للأفضل، ويجتهد للوصول إليه في ظل هذا الرضا واليقين، وبين ما يتوهمه البعض من أن القناعة هي حالة من الاستسلام للأمر الواقع من ذل ويأس وقلة حيلة، فالقناعة مضادها الطمع، لا الطموح، وقد قال الله تعالى: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا" وقال تعالى: "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله".
فالله – عز وجل - إذ ينهانا أن نطمع فيما يملكه غيرنا، وما هو إلا متاع يختبره الله فيه، وإن بدا جميلاً زاهيًا، يأمرنا أن نطمع في فضله، فجاء بالأمر "انتشروا" ليبين لنا أن السعي لا حدود له؛ في كل اتجاه كل له سبيله، وما يجمعنا هو "ابتغوا من فضله" ونبتغي أي نروم ونريد، وهذه الإرادة هي دافع العمل، والسعي لنيل فضل الله الذي لا حدود له.
وهذا الخلط ينطق به واقعنا بشدة وألم، واقع طغت فيه النظرة المادية للأمور فساد قانون الغابة "البقاء للأقوى" وعُرِّفت القوة بأنها القوة الاقتصادية، فمر الإنسان بشيوعية جعلت منه أداة لتحقيق الرخاء للدولة، ورأسمالية تجعل منه أداة لتحقيق الرخاء لإنسان آخر!
ويقف هذا الإنسان "الأداة" الفقير أو الأفقر حالًا أمام القوي الغني الذي لا يكتفي باستخدامه، بل يعمل على استفزازه بكل ما أوتي من قوة، يعمل على امتصاص كل ما عنده؛ ليزداد غنى؛ فيتحقق بذلك أحد الأمَرَّيْن: إما أن يستسلم "الأداة" ويزهد في دنياه، فلا يعمل ولا ينتج واهمًا نفسه في أحيان كثيرة بأن يأسه قناعة، وإما أن يقرر أنه لن يكون أداة بعد اليوم، ويأخذ بالمذهب "الميكافلي" فيتحول إلى مستخدم لأدوات أخرى مبررًا لنفسه كل الوسائل، واهمًا أن طمعه طموح!
ومن قراءة تاريخنا نرى أن بداية التصوف المصحوب بالزهد والتفرغ للذكر ما كانت إلا نتيجة الترف الذي طغى على حياة الملوك والأمراء، وباتخاذ هذا المسلك يتحقق ما تحقق من قبل من وجود أفراد وشعوب مستسلمة في يأس وخاضعة في ذل؛ فيتولد ما يسمى "القابلية للاستعمار" وهناك بالطبع من يتربص لاغتنام الفرصة فتذهب بذلك كل الثروات؛ ما كان للغني وما لم يكن للفقير.
ومن قراءة واقعنا نرى أن الكثيرين ممن تمردوا على كونهم أدواتًا، طفح طمعهم على باقي الأخلاق، فلا عجب أن تزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء، فمن لم يستطع أن يكون غنيًّا مستخدِما سيكون فقيرًا مستخدَمًا.
حضارة التزيين
وفي الحضارة الغربية الحديثة نجد مقابل كلمة القناعة كلمة Satisfaction وهي تعني إرضاء بالإشباع، فلا قناعة إذن إلا أن يتم الاشباع، وهو ما لا يتحقق في الحياة الدنيا، فالرغبات والشهوات لا حد لها، وإن أشبعت رغبات البدن فرغبات النفس لا تشبع.
إذن لا يوجد في الحضارة الحديثة Satisfaction ولا قناعة!
هذا وفي ظل عولمة الطمع تتلاشى القناعة شيئًا فشيئًا، فالحضارة الاقتصادية والإعلامية بل التعليمية الحاضرة إنما تقوم على التزيين؛ فيجد الفرد نفسه محاطا طوال الوقت بالمروجات والإعلانات؛ إعلانات عن كل شيء وأي شيء، وكل إعلان يبرز سلعته على أنها ضرورة لا غنى عنها، وأنها ستحقق ما لم تحققه سواها من منافع، وكل تاجر يدعي أنه يعمل لإرضاء المستهلك إلا أن واقع الأمر يقول: إن التاجر لا يرضيه أبدًا أن يرضى المستهلك أو أن يقنع بما لديه، فارتفع بذلك سقف الطلبات وزاد الاهتمام بالكماليات، بل إن حالة عامة من الالتباس انتشرت بين الناس حول ما يصنف على أنه ضروريات، وما يصنف على أنه كماليات أو تحسينات، ومع ازدياد عدد الواقعين في فخ هذه الحضارة تزيد واردات الدول؛ فيزداد العجز بميزانها التجاري، وتزداد الدول الفقيرة فقرًا، ويزداد شعبها احتياجًا وذلا، وما كان لهم به حاجة سوى أنه زين لهم!
ويتم إغراء المرء وإغوائه باقتناء المزيد والمزيد من الكماليات بتذليلها له وتيسير الحصول عليها، فهذا إعلان يقول له: "اثنان بسعر واحد، فرصة العمر التي لن تتكرر"، فلا يتمهل ليرى أيحتاج هذا في المقام الأول؟ وهذا آخر يقول له: "اشتر دجاجة واكسب مزرعة" فيشتريها وإن كان نباتيًّا لا يحتاج إلى دجاج، ولكنه يحلم بالمزرعة.
بل إن المرء يمكنه أن يعد على أصابع اليد عدد مواقع الشبكة الدولية التي لا يجد فيه عبارة "انقر هنا لتكسب..$"، وبالطبع ينقر الكثيرون بل إن بعضهم قد يتفرغ لهذا العمل وكيف لا وهذا الأمر يهيئ له ثروة بلا سعي، فتعم حالة من البطالة حتى بين مثقفي العالم مستخدمي شبكة المعلومات!! فمن ذا يقنع بعمل يدر عليه بعض الربح وفي استطاعته أن يجرب حظه ويحصل على ثروة بلا جهد.
ومع كثرة الحديث عن ازدياد حاجة البشرية الآن إلى اتباع النظام الذي يطلق عليه الغرب "الطريق الثالث" فلابد وأن يمضي البشر في هذا الطريق متسلحين بأخلاق تحميهم من الردة وفي أولها القناعة.
تلك القناعة التي تجعل الفرد والمجتمع فالأمة في حالة رضا بما يملكون فيحيون في عزة تدفعهم للتميز، فيما يملكون من إمكانيات، ومع التخصص تزيد الكفاءة فتتحسن الأوضاع شيئا فشيئا، وما ارتفعت أمم ونهضت إلا وكانت قد مارست سياسة "عفّ نفسك عما لا تُنتِج".
وتولد هذه القناعة الإحساس بالغنى فبدلا من أن يشعر المرء أنه فقير يحتاج إلى من يعطيه، يبادر هو بالعطاء لشعوره بالغنى، فترقى بذلك كل الطبقات، ولا تتآكل طبقة لصالح الأخرى، وهنا يصبح الانتقال من طبقة لأخرى متوقفًا على من يعمل أفضل لا من يملك أكثر؛ فيزيد الإنتاج ويرتفع مستوى المعيشة.
كما أن قناعة الأفراد بامتلاك ما يحتاجونه من الضروريات وما يدر عليهم النفع من الكماليات يحدث حالة من الركود للسلع التي تملأ أسواقنا، ولا حاجة لنا بها سوى أنها زينت في الأعين فاشتهتها النفس؛ فينصرف أصحاب الأموال ليستثمروها فيما ينفع البشر حتى تلقى بضائعهم الرواج.
وعندما يقنع المرء بإمكاناته الشخصية وينقب تتولد لديه الطاقات؛ لتغيير واقعه أيًّا كان، والارتقاء به وكذلك حال الشعوب والأمم، فلا ينشغل بما يملكه غيره وما وصل إليه قدر انشغاله بالاستفادة مما يملك وتعظيم منفعته.
هذا ومن لم يقنع لم يشكر والله تعالى يقول: "ولئن شكرتم لأزيدنكم" وبهذا يكون الرضا في حد ذاته سببًا لزيادة الثروة وإحلال البركة، فيتضاعف الرزق بالشكر وتتضاعف المنفعة بالبركة.
ولكي يصل المرء للقناعة عليه أن يدرك عدة نقاط أهمها: 1-
تحديد الأساسيات والضروريات: فقد يفاجأ المرء عند تحديده لضرورياته أن كثيرًا مما يملك يزيد عن احتياجه وأن كثيرًا مما يريد ليس في حاجة إليه بالفعل!
2- من بين تلك الضروريات هناك أولويات: قد يشعر المرء أنه يحتاج لضروريات كثيرة في وقت واحد، ولا يتمكن من الحصول عليها؛ فيتولد عنده نوع من السخط على حاله، إلا أنه بتفكير قليل يقنع أن من بين تلك الضروريات يوجد من له الأولوية، فيركز سعيه لنيله؛ فيرضى ويتشجع للحصول على الباقي.
3- أن يزن الأمور جيدًّا فيما يتعلق بالإنفاق والادخار، والبيع والشراء وما إلى ذلك من معاملات فلا يجري وراء تزيين زائف ولا يندفع وراء شهوة عابرة.
4- أن يتعرف على إمكانياته فيحدد مهاراته ويرتب اهتماماته، ثم يستغل ما توصل إليه بيقين وقناعة للوصول لما يتمناه، ولا يضيع وقته وجهده في أعمال هو غير مقتنع بها.
5- وقبل كل شيء وبعده: أن يكون المرء على قناعة تامة ويقين صادق أن الأرزاق والأقدار بيد الله تعالى، وأن الله يبتلي المرء فيما آتاه، فلا يشغل نفسه بما عند غيره، وقد يُهلك صاحبه ولا ينسى أن يؤدي الشكر - قولًا وعملًا- فيما يملك وألا يكون كافرًا بنعمة ربه؛ فليسع لنيل رزقه متوكلا على ربه داعيًا إياه أن يلهمه الجد في السعي والقناعة بالرزق، وليتذكر قول نبيه الكريم:
"لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
وليتذكر حكمة العرب القائلة: "عز من قنع وذل من طمع"
شاهدوا معي هذا المقطع المؤثر لهذه العجوز الضريرة والقنوعة بما اقتسمه الله لها في هذه الدنيا.. لاحظوا كيف تردد "لك الحمد والشكر يا رب" رغم مصروفها الستين جنيه شهريا والذي يعادل حوالي 4 ريال عماني.. يا رب جازها خيراً وأجراً واهدها الجنة إن شاء الله
http://www.youtube.com/watch?v=0Ytf6aXp9Zg
هناك قصيدة لبدر شاكر السياب يقول فيها
لك الحمد مهما استطال البلاء ومـهـمـا اســتـبـد الألــــم
لك الحمد إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام وأعطيتني أنت هذا السحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح تـــمــزق جــنـبـي مـثـل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
ولكن أيوب إن صاح صاح لك الحمد إن الرزايا ندى
فالحمدلله
يعيش الناس جلهم ليكنزوا ما استطاعوا؛ ليواجهوا ما لا يأمنون … ولأنها حقًّا حياة متقلبة، فقد ينفد أغلب ما يكنزون، إلا من شيء استخلصه العرب في حِكَمهم فقالوا: "القناعة كنز لا ينفد!"
لنتفقد سويًّا هذا الكنز؛ عسى أن يعرف كل منا هل صادفه أم لا؟
وأول ما نبدأ به هو إزالة الخلط عن الأذهان بتحديد معنى القناعة، فالقناعة هي الرضا.. فيكون المرء راضيًا بنفسه وراضيًا عنها، وكذلك عن مستواه المادي أو الثقافي، أو ما إلى ذلك مما حباه الله به.
وفرق كبير بين القناعة الحقيقية التي تعني أن يرضى الإنسان بنفسه وإمكانياته، فيثق بقدراته، ويسعى للأفضل، ويجتهد للوصول إليه في ظل هذا الرضا واليقين، وبين ما يتوهمه البعض من أن القناعة هي حالة من الاستسلام للأمر الواقع من ذل ويأس وقلة حيلة، فالقناعة مضادها الطمع، لا الطموح، وقد قال الله تعالى: "ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا" وقال تعالى: "فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله".
فالله – عز وجل - إذ ينهانا أن نطمع فيما يملكه غيرنا، وما هو إلا متاع يختبره الله فيه، وإن بدا جميلاً زاهيًا، يأمرنا أن نطمع في فضله، فجاء بالأمر "انتشروا" ليبين لنا أن السعي لا حدود له؛ في كل اتجاه كل له سبيله، وما يجمعنا هو "ابتغوا من فضله" ونبتغي أي نروم ونريد، وهذه الإرادة هي دافع العمل، والسعي لنيل فضل الله الذي لا حدود له.
وهذا الخلط ينطق به واقعنا بشدة وألم، واقع طغت فيه النظرة المادية للأمور فساد قانون الغابة "البقاء للأقوى" وعُرِّفت القوة بأنها القوة الاقتصادية، فمر الإنسان بشيوعية جعلت منه أداة لتحقيق الرخاء للدولة، ورأسمالية تجعل منه أداة لتحقيق الرخاء لإنسان آخر!
ويقف هذا الإنسان "الأداة" الفقير أو الأفقر حالًا أمام القوي الغني الذي لا يكتفي باستخدامه، بل يعمل على استفزازه بكل ما أوتي من قوة، يعمل على امتصاص كل ما عنده؛ ليزداد غنى؛ فيتحقق بذلك أحد الأمَرَّيْن: إما أن يستسلم "الأداة" ويزهد في دنياه، فلا يعمل ولا ينتج واهمًا نفسه في أحيان كثيرة بأن يأسه قناعة، وإما أن يقرر أنه لن يكون أداة بعد اليوم، ويأخذ بالمذهب "الميكافلي" فيتحول إلى مستخدم لأدوات أخرى مبررًا لنفسه كل الوسائل، واهمًا أن طمعه طموح!
ومن قراءة تاريخنا نرى أن بداية التصوف المصحوب بالزهد والتفرغ للذكر ما كانت إلا نتيجة الترف الذي طغى على حياة الملوك والأمراء، وباتخاذ هذا المسلك يتحقق ما تحقق من قبل من وجود أفراد وشعوب مستسلمة في يأس وخاضعة في ذل؛ فيتولد ما يسمى "القابلية للاستعمار" وهناك بالطبع من يتربص لاغتنام الفرصة فتذهب بذلك كل الثروات؛ ما كان للغني وما لم يكن للفقير.
ومن قراءة واقعنا نرى أن الكثيرين ممن تمردوا على كونهم أدواتًا، طفح طمعهم على باقي الأخلاق، فلا عجب أن تزداد الهوة بين الفقراء والأغنياء، فمن لم يستطع أن يكون غنيًّا مستخدِما سيكون فقيرًا مستخدَمًا.
حضارة التزيين
وفي الحضارة الغربية الحديثة نجد مقابل كلمة القناعة كلمة Satisfaction وهي تعني إرضاء بالإشباع، فلا قناعة إذن إلا أن يتم الاشباع، وهو ما لا يتحقق في الحياة الدنيا، فالرغبات والشهوات لا حد لها، وإن أشبعت رغبات البدن فرغبات النفس لا تشبع.
إذن لا يوجد في الحضارة الحديثة Satisfaction ولا قناعة!
هذا وفي ظل عولمة الطمع تتلاشى القناعة شيئًا فشيئًا، فالحضارة الاقتصادية والإعلامية بل التعليمية الحاضرة إنما تقوم على التزيين؛ فيجد الفرد نفسه محاطا طوال الوقت بالمروجات والإعلانات؛ إعلانات عن كل شيء وأي شيء، وكل إعلان يبرز سلعته على أنها ضرورة لا غنى عنها، وأنها ستحقق ما لم تحققه سواها من منافع، وكل تاجر يدعي أنه يعمل لإرضاء المستهلك إلا أن واقع الأمر يقول: إن التاجر لا يرضيه أبدًا أن يرضى المستهلك أو أن يقنع بما لديه، فارتفع بذلك سقف الطلبات وزاد الاهتمام بالكماليات، بل إن حالة عامة من الالتباس انتشرت بين الناس حول ما يصنف على أنه ضروريات، وما يصنف على أنه كماليات أو تحسينات، ومع ازدياد عدد الواقعين في فخ هذه الحضارة تزيد واردات الدول؛ فيزداد العجز بميزانها التجاري، وتزداد الدول الفقيرة فقرًا، ويزداد شعبها احتياجًا وذلا، وما كان لهم به حاجة سوى أنه زين لهم!
ويتم إغراء المرء وإغوائه باقتناء المزيد والمزيد من الكماليات بتذليلها له وتيسير الحصول عليها، فهذا إعلان يقول له: "اثنان بسعر واحد، فرصة العمر التي لن تتكرر"، فلا يتمهل ليرى أيحتاج هذا في المقام الأول؟ وهذا آخر يقول له: "اشتر دجاجة واكسب مزرعة" فيشتريها وإن كان نباتيًّا لا يحتاج إلى دجاج، ولكنه يحلم بالمزرعة.
بل إن المرء يمكنه أن يعد على أصابع اليد عدد مواقع الشبكة الدولية التي لا يجد فيه عبارة "انقر هنا لتكسب..$"، وبالطبع ينقر الكثيرون بل إن بعضهم قد يتفرغ لهذا العمل وكيف لا وهذا الأمر يهيئ له ثروة بلا سعي، فتعم حالة من البطالة حتى بين مثقفي العالم مستخدمي شبكة المعلومات!! فمن ذا يقنع بعمل يدر عليه بعض الربح وفي استطاعته أن يجرب حظه ويحصل على ثروة بلا جهد.
ومع كثرة الحديث عن ازدياد حاجة البشرية الآن إلى اتباع النظام الذي يطلق عليه الغرب "الطريق الثالث" فلابد وأن يمضي البشر في هذا الطريق متسلحين بأخلاق تحميهم من الردة وفي أولها القناعة.
تلك القناعة التي تجعل الفرد والمجتمع فالأمة في حالة رضا بما يملكون فيحيون في عزة تدفعهم للتميز، فيما يملكون من إمكانيات، ومع التخصص تزيد الكفاءة فتتحسن الأوضاع شيئا فشيئا، وما ارتفعت أمم ونهضت إلا وكانت قد مارست سياسة "عفّ نفسك عما لا تُنتِج".
وتولد هذه القناعة الإحساس بالغنى فبدلا من أن يشعر المرء أنه فقير يحتاج إلى من يعطيه، يبادر هو بالعطاء لشعوره بالغنى، فترقى بذلك كل الطبقات، ولا تتآكل طبقة لصالح الأخرى، وهنا يصبح الانتقال من طبقة لأخرى متوقفًا على من يعمل أفضل لا من يملك أكثر؛ فيزيد الإنتاج ويرتفع مستوى المعيشة.
كما أن قناعة الأفراد بامتلاك ما يحتاجونه من الضروريات وما يدر عليهم النفع من الكماليات يحدث حالة من الركود للسلع التي تملأ أسواقنا، ولا حاجة لنا بها سوى أنها زينت في الأعين فاشتهتها النفس؛ فينصرف أصحاب الأموال ليستثمروها فيما ينفع البشر حتى تلقى بضائعهم الرواج.
وعندما يقنع المرء بإمكاناته الشخصية وينقب تتولد لديه الطاقات؛ لتغيير واقعه أيًّا كان، والارتقاء به وكذلك حال الشعوب والأمم، فلا ينشغل بما يملكه غيره وما وصل إليه قدر انشغاله بالاستفادة مما يملك وتعظيم منفعته.
هذا ومن لم يقنع لم يشكر والله تعالى يقول: "ولئن شكرتم لأزيدنكم" وبهذا يكون الرضا في حد ذاته سببًا لزيادة الثروة وإحلال البركة، فيتضاعف الرزق بالشكر وتتضاعف المنفعة بالبركة.
ولكي يصل المرء للقناعة عليه أن يدرك عدة نقاط أهمها: 1-
تحديد الأساسيات والضروريات: فقد يفاجأ المرء عند تحديده لضرورياته أن كثيرًا مما يملك يزيد عن احتياجه وأن كثيرًا مما يريد ليس في حاجة إليه بالفعل!
2- من بين تلك الضروريات هناك أولويات: قد يشعر المرء أنه يحتاج لضروريات كثيرة في وقت واحد، ولا يتمكن من الحصول عليها؛ فيتولد عنده نوع من السخط على حاله، إلا أنه بتفكير قليل يقنع أن من بين تلك الضروريات يوجد من له الأولوية، فيركز سعيه لنيله؛ فيرضى ويتشجع للحصول على الباقي.
3- أن يزن الأمور جيدًّا فيما يتعلق بالإنفاق والادخار، والبيع والشراء وما إلى ذلك من معاملات فلا يجري وراء تزيين زائف ولا يندفع وراء شهوة عابرة.
4- أن يتعرف على إمكانياته فيحدد مهاراته ويرتب اهتماماته، ثم يستغل ما توصل إليه بيقين وقناعة للوصول لما يتمناه، ولا يضيع وقته وجهده في أعمال هو غير مقتنع بها.
5- وقبل كل شيء وبعده: أن يكون المرء على قناعة تامة ويقين صادق أن الأرزاق والأقدار بيد الله تعالى، وأن الله يبتلي المرء فيما آتاه، فلا يشغل نفسه بما عند غيره، وقد يُهلك صاحبه ولا ينسى أن يؤدي الشكر - قولًا وعملًا- فيما يملك وألا يكون كافرًا بنعمة ربه؛ فليسع لنيل رزقه متوكلا على ربه داعيًا إياه أن يلهمه الجد في السعي والقناعة بالرزق، وليتذكر قول نبيه الكريم:
"لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
وليتذكر حكمة العرب القائلة: "عز من قنع وذل من طمع"
شاهدوا معي هذا المقطع المؤثر لهذه العجوز الضريرة والقنوعة بما اقتسمه الله لها في هذه الدنيا.. لاحظوا كيف تردد "لك الحمد والشكر يا رب" رغم مصروفها الستين جنيه شهريا والذي يعادل حوالي 4 ريال عماني.. يا رب جازها خيراً وأجراً واهدها الجنة إن شاء الله
http://www.youtube.com/watch?v=0Ytf6aXp9Zg
هناك قصيدة لبدر شاكر السياب يقول فيها
لك الحمد مهما استطال البلاء ومـهـمـا اســتـبـد الألــــم
لك الحمد إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام وأعطيتني أنت هذا السحر؟
فهل تشكر الأرض قطر المطر وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح تـــمــزق جــنـبـي مـثـل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح ولا يمسح الليل أوجاعه بالردى
ولكن أيوب إن صاح صاح لك الحمد إن الرزايا ندى
فالحمدلله