عملة نادرة
13-03-2010, 06:06 PM
أُحجية الخرَف .
1
_اللعنة على هذه الكرة الأرضية ألم تجد بُقعة تلفظني فيها سوى هُنا و أنا مسجى على ملاءات بيضاء تناوب عليها الكثير ممن عبثت بهم الأنواء , و حلَّت بهم النوائب فصنعّت منهم رجالا لا يجود بهم الدَّهر إلا فرادى ..وَ ماذا عن هذه الجُدران القرمزية التي اكْترع من رطوبتها الدَّهر و لم يزل ظمأه .. و ماذا عن زواياها القائمة التي تأبى الانحناء و التواطؤ مع جزء مني مع ظهري الذي لشد ما اضطلع جهودا ناءت \ أبت أن تحملها أكتاف الرجال وقتذاك و الآن أؤمن و في قرارة نفسي إني كنت ظلوما جهولا .
تُطل المُمرضة مِن خلْف الباب ، يُبحلق فيها بنظرات فارغة يُتمتم بصوته المتحشرج :
_يا للسخف !
_ امتقع وجهها و وقفت و هي فارهة الفاه .
_اغربي عن وجهي .
_ حقنه الأنسولين يا عم .
_ ما عدت بحاجة إليها ، غدتي البنكرياسية تُفرز فائضاً من الأنسولين .
_ من أخبرك بهذا؟
_ اغربي عن وجهي ...هيا .
تخرج و هي تصفق الباب خلفها , و لم تكد تبتعد عن غرفة هذا الكهل تسمع صوت ضحكاته تجلجل في الجناح .
2
بشقِ الأنفس يقف على سريره و هو متهدج الأوداج يُحدِّث نفسه بلغة لا تكاد تُفهم بغيةَ لفت أنظار \أسماع المرضى في الأسرة المجاورة , يلقي نظرة خاطفة فيجد أن أعينهم ما زالت معلقة به يتنفس ملء رئتيه و يتمتم :
من الصعب جداً أن تجد نفسك في موقع جغرافي لا يناسبك , أن تعيش في زمان لا يمت لك بصلة , أن تُخلق عملاقا في جـيل يتَفشى فيه الأقزام , أن تمتاز بحنكة و حذق وسط أناس يمتازون بالصفاقة , حاليَ أشبه ما يكون بـدم الحمام _الياقوت_الذي يُحشر في كومةِ فضة صدئة . لا يكاد يكمل عبارته لتلتقط أذناه ذبذبة في جزء نائي من الغرفة يلتفت لمصدر الصوت نصف التفاتة فيجد شابين باسقين كالنخيل لكنّ طلعهما إما أن يكون يانعا و إمَّا أن يكون في طوره لأن يتمم نُضجه ,فالأول منهما يرتدي نظارة سميكة تُضفي عليه سيماء المُثقفين تُطوِّقه كَومة منَ الكُتُبِ . وَ الآخر يزِم شفتيهِ بين العبارةِ وَ الأخرى و التملمُل يُهيمن على ملامحِ وجههْ .
يُحوقل العجوز ترتفعُ يداهُ لصَدِغيهِ تارة , يُمسد لحيته تارةً أخرى وَ هو يبحثُ عن طَريقٍ مُعبَّد باحترامٍ مُفتعلٍ ليُقحمَ بنفسهِ بين البصلة و قشرتها دون أن يُثير غضبَ الشَّابينْ فَهو يكادُ يجزم بأنَّ كبار السن أمثاله إن وجدوا في نقاش ما ففرضَ آراءهم يتأتى بسهولة و علاوة على ذلك فالنِّقاشات تحت ظل وجودهم لا تحتدم إطلاقا فكبار السن في مجالسنا أشبه ما يكونون بالحُرمة التي لا يجوز تعديها مهما اقتضت الضرورة .
يعود أدراجه لوضعيته الأولى و يقتعد سريره و بعد برهة يقف ليذرع الغرفة جيئة و ذهابا فيقترب من الشابين أكثر و لا يفصله عنهما إلا منضدة مطلية بطلاء باهت و يسألهما :
- ما خطبكما
الأول – لا شيء
الشاب المتململ مخاطباً الشاب الأول – بزغ الحق و زهق الباطل يبدو لي أنَّك تتهرب من المواجهة و هذه أولى أمارات الثقة المتزعزعة واجهه و بتهكم يكمل حديثه ..هاه صحيح نسيت أنك" أسدٌ عليَّ و في الحروبِ نعامةٌ "فهذا هو ديدنكم أنتم الشعراء تأمرون النّاس بالبر و تنسون أنفسكم , يا كهل , عذراً أقصد يا عم كنتُ أتحدث معه عن الأدب عن الأدب المعاصر عن القصائد الملأى بالترهات عن المواضيع التي تُفرد لها صفحات و صفحات لكنها لا تسمن و لا تغني من جوع و عن ...
الشاب الأول بنبرة غضب – حسبك يا رجل ما هكذا تقاس الأمور ...
لا يكاد يكمل عبارته ليجده قد أقحم نفسه و قال – النقاش معك مضيعة للوقت ليس إلَّا ..يا عم افتنا ..بربك أليس معي الحق بكل حرف تفوهتُ به .
يصمت العجوز لدقائق حسبها الشَّابين ساعات ثُمَّ ألقى عبارتيه على مسامعهما
- (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون)
- "لا تجادل أحمقا فقد يخطئ الناس التفريق بينكما "
بنظرة خاطفة تأمَّل الكتب المبعثرة على سرير أحد الشابين و تناول مسرحية الملك أوديب و عاد أدراجه و لكأنَّه لم يخلف دمارا شاملاَ في نفسية الشابين .
استشاط الشَّابين غيضا فهذا الكهل عوضا عن تهدئة الأوضاع فهو زادها حدَّةً و رحل و كلُّ منها يود أن يصب جام غضبه على الآخر بدأ الأمر بحرب باردة ثم بمناوشات و تطور الأمر بالتراشق اللفظي و انتهى بقصف و استجواب من قبل إدارة مشفى الأمراض النفسية و فصل غرفهما كُل على حدة .
3
خيَّم الليلُ على المشفى و بعض المتعالجين كانوا يلوذون بصمتهم و آخرون كانوا يغطون في سبات عميق و الساعة كانت تزحفُ ببطئ شديد ,و الكهل كان يفتكه انتظار الصبح فهسيس الحشرات في هذا الوقت من الليل تكاد تصم أذنيه , يقلب أفكاره لعل هذه السَّاعات ذات الوقع الثقيل على قلبه تنزاح .يتذكر أمر مسرحية الملك أوديب يتظاهر بقراءتها يقلب صفحات المسرحية و هو لم يعقد النية على قراءتها بعد , تقع عيناه على اللغز الذي نقل أوديب من حياة التشرد و توَّجه ملكاً , كوْنه لم يُلملم كل أطراف القصة أطلق ضحكة رنانة تعالت أصداءها في أطراف الغرفة و أخذ يطرح اللغز :
"ما هو الكائن الذي يمشي على أربع و بعدها يمشي على اثنتين و بعدها يمشي على ثلاث ؟ "
و يعيد اللغز ثانية و ثالثة و لا يعير تأفف المرضى في الأسرة المجاورة أدنى اهتمام و يرمي بتهديداتهم عرض الحائط .
الحنق بدا جليا على مُحيا المرضى فقد أخرجهم عن طورهم و أفقدهم صوابهم و الضجة أثيرت في تلك الغرفة مما اضطر الممرضين المناوبين على فصل هذا الكهل في غرفة أخرى بغية توفير جو هادئ للمرضى , حين اقترب الممرضين منه حاول استدرارا عطفهم لكن محاولاته باءت بفشل ذريع و بعدها أخذ يزبد و يرعد و هم يأخذونه لغرفة أخرى .
4
كل شيء في الغرفة هذه متواطئ مع مزاجية هذا الكهل الألوان هنا حيادية و حادة في آن واحد , الأثاث هُنا يذكره بأثاث مكتبه في الشركة , الحال في هذه الغرفة ليس كحال غرف مشفى الأمراض النفسية .. لا يُعقل أنهم ألقوني هنا بمحض صدفة ..إذن فمن ذا الذي يجرؤ على التجسس على أفكاري و تسريبها أيضا لهم .
لا يهم , ما يهمني الآن هُو ...
5
- يبدو أن هذا الكهل أحكم غلق الباب .
- بما أنه لم يغفُ له جفن ليلة البارحة فعلى أغلب الظن أن يكون نائما الآن .
- فلنعاود إيقاظه بعد سويعات .
- حان دوره مع الطبيب و لن يُرجئ الطبيب هذا الموعد إلا بعد فترة طويلة .
يطرقون الباب بعنف , يحاولون استراق السمع و لكن لا حراكْ الأمر الذي يضطرهم إلى فتح الباب عنوة .
هالهم المنظر الكهل متكئا على منسأته و بجانبه أوراق و حبر مُسال ,تبين لهم أن الكهل توفي دون أن تأكل دابة الأرض منسأته !
يخرجون به من الغرفة و لا تبقى سوى الممرضة لتعيد الأشياء لموقعها , و لتصلح من حال الغرفة ..تجمعُ الأوراق فتجد أنَّه ثمة عبارات خُطت على هذه الورقة .
"
مساؤكم يباب يا صِغار , أقصد يا كِبار
فالتصرفات التي بدرت منكم من المُحال أن تبدر من الصِّغار ..حاشاهم الصغارمن فعلتكم تلك .
مساؤكم بلاقع كتلك التي تستوطن قلوبكم .
مساؤكم جفاء لم أتمكن من استئصال جذوره التي ما اكتشفت وجودها إلا بعد أن تأصَّلت في ذواتكم .
مساؤكم تحليق بأجنحة الكبر لا إخضاع بأجنحة الذل .
تطرق باب ذاكرتي الآن مئات الاستفهامات و لكني لم أجد لها أيَّا من الأجوبة التي تقنعني أنا , أهو تقصير من طرفي أنا أم أنه إنكار للجميل من لدنكم أنتم , أم أنه التدليل المفرط الذي أغدقته عليكم .
أي خزي و أي عار هذا الذي ألحقتموه بكم و بأبنائكم و بمناصبكم التي لما تقلدتموها لولاي .
سيَّاف : لا تنسَ بني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرب و زوجتك تلك التي تصدر أحكاما جزافية , و تخترع فلسفات لم يخترعها أفلاطون لتقول " من زاد علمه قل عقله " و تقصدني بنظرياتها تلك , و أنت تقتفي أثرها و لئن دخلت هي جحر ضب لدخلته أنت معها ..!
عصام : كنتَ أقربهم إلي , كنت تسكن سويداء القلب , و لذلك تعمَّد الموت انتقاءك دون الآخرين .
سهام : سهامكِ معقوفة بُنية و لم تُصيبي الرَّمية هذه المرَّة , أنتِ آخر العنقودِ المدللة التِي لطالما ناقشتكِ في عُمْرٍ من القناعات كنتِ تمجدينها و أنا بدوري لم أحط من قدرها يوما , أتذكرين أيا سهام آخر أحاديثنا قبل أن تزجي بي أنتِ و أخوك هنا ..كنَّا نتحدث عن تصادم الأجيال عن جُملتك التي كنت تُرددينها مرارا " نحن أبناء جيل يرافقنا الكثير من اللبس في لحظة إكرام الضيف فنتردد بأي يدٍ نمسك بدلة القهوة و بأيهما نصب الفنجان " و الكثير من التفاصيل الموجعة يا سهام "
قد أكون سلبتكم حقوقكم يوما , لكنَّ الأمر لا يستدعي ادِّعاءكم إصابتي بخللٍ عقلي ,
أيَّا يكن عفا الله عما سلف
و للمرضة و الشُّبان هُنا أسألكم العفو و الصفح
و استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
كان يوما ما أباً لكم , لكنه اليوم يُعرف ببضعة أرقام مُعلقة على سريره في مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية .
"
2010\3\12
1
_اللعنة على هذه الكرة الأرضية ألم تجد بُقعة تلفظني فيها سوى هُنا و أنا مسجى على ملاءات بيضاء تناوب عليها الكثير ممن عبثت بهم الأنواء , و حلَّت بهم النوائب فصنعّت منهم رجالا لا يجود بهم الدَّهر إلا فرادى ..وَ ماذا عن هذه الجُدران القرمزية التي اكْترع من رطوبتها الدَّهر و لم يزل ظمأه .. و ماذا عن زواياها القائمة التي تأبى الانحناء و التواطؤ مع جزء مني مع ظهري الذي لشد ما اضطلع جهودا ناءت \ أبت أن تحملها أكتاف الرجال وقتذاك و الآن أؤمن و في قرارة نفسي إني كنت ظلوما جهولا .
تُطل المُمرضة مِن خلْف الباب ، يُبحلق فيها بنظرات فارغة يُتمتم بصوته المتحشرج :
_يا للسخف !
_ امتقع وجهها و وقفت و هي فارهة الفاه .
_اغربي عن وجهي .
_ حقنه الأنسولين يا عم .
_ ما عدت بحاجة إليها ، غدتي البنكرياسية تُفرز فائضاً من الأنسولين .
_ من أخبرك بهذا؟
_ اغربي عن وجهي ...هيا .
تخرج و هي تصفق الباب خلفها , و لم تكد تبتعد عن غرفة هذا الكهل تسمع صوت ضحكاته تجلجل في الجناح .
2
بشقِ الأنفس يقف على سريره و هو متهدج الأوداج يُحدِّث نفسه بلغة لا تكاد تُفهم بغيةَ لفت أنظار \أسماع المرضى في الأسرة المجاورة , يلقي نظرة خاطفة فيجد أن أعينهم ما زالت معلقة به يتنفس ملء رئتيه و يتمتم :
من الصعب جداً أن تجد نفسك في موقع جغرافي لا يناسبك , أن تعيش في زمان لا يمت لك بصلة , أن تُخلق عملاقا في جـيل يتَفشى فيه الأقزام , أن تمتاز بحنكة و حذق وسط أناس يمتازون بالصفاقة , حاليَ أشبه ما يكون بـدم الحمام _الياقوت_الذي يُحشر في كومةِ فضة صدئة . لا يكاد يكمل عبارته لتلتقط أذناه ذبذبة في جزء نائي من الغرفة يلتفت لمصدر الصوت نصف التفاتة فيجد شابين باسقين كالنخيل لكنّ طلعهما إما أن يكون يانعا و إمَّا أن يكون في طوره لأن يتمم نُضجه ,فالأول منهما يرتدي نظارة سميكة تُضفي عليه سيماء المُثقفين تُطوِّقه كَومة منَ الكُتُبِ . وَ الآخر يزِم شفتيهِ بين العبارةِ وَ الأخرى و التملمُل يُهيمن على ملامحِ وجههْ .
يُحوقل العجوز ترتفعُ يداهُ لصَدِغيهِ تارة , يُمسد لحيته تارةً أخرى وَ هو يبحثُ عن طَريقٍ مُعبَّد باحترامٍ مُفتعلٍ ليُقحمَ بنفسهِ بين البصلة و قشرتها دون أن يُثير غضبَ الشَّابينْ فَهو يكادُ يجزم بأنَّ كبار السن أمثاله إن وجدوا في نقاش ما ففرضَ آراءهم يتأتى بسهولة و علاوة على ذلك فالنِّقاشات تحت ظل وجودهم لا تحتدم إطلاقا فكبار السن في مجالسنا أشبه ما يكونون بالحُرمة التي لا يجوز تعديها مهما اقتضت الضرورة .
يعود أدراجه لوضعيته الأولى و يقتعد سريره و بعد برهة يقف ليذرع الغرفة جيئة و ذهابا فيقترب من الشابين أكثر و لا يفصله عنهما إلا منضدة مطلية بطلاء باهت و يسألهما :
- ما خطبكما
الأول – لا شيء
الشاب المتململ مخاطباً الشاب الأول – بزغ الحق و زهق الباطل يبدو لي أنَّك تتهرب من المواجهة و هذه أولى أمارات الثقة المتزعزعة واجهه و بتهكم يكمل حديثه ..هاه صحيح نسيت أنك" أسدٌ عليَّ و في الحروبِ نعامةٌ "فهذا هو ديدنكم أنتم الشعراء تأمرون النّاس بالبر و تنسون أنفسكم , يا كهل , عذراً أقصد يا عم كنتُ أتحدث معه عن الأدب عن الأدب المعاصر عن القصائد الملأى بالترهات عن المواضيع التي تُفرد لها صفحات و صفحات لكنها لا تسمن و لا تغني من جوع و عن ...
الشاب الأول بنبرة غضب – حسبك يا رجل ما هكذا تقاس الأمور ...
لا يكاد يكمل عبارته ليجده قد أقحم نفسه و قال – النقاش معك مضيعة للوقت ليس إلَّا ..يا عم افتنا ..بربك أليس معي الحق بكل حرف تفوهتُ به .
يصمت العجوز لدقائق حسبها الشَّابين ساعات ثُمَّ ألقى عبارتيه على مسامعهما
- (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون)
- "لا تجادل أحمقا فقد يخطئ الناس التفريق بينكما "
بنظرة خاطفة تأمَّل الكتب المبعثرة على سرير أحد الشابين و تناول مسرحية الملك أوديب و عاد أدراجه و لكأنَّه لم يخلف دمارا شاملاَ في نفسية الشابين .
استشاط الشَّابين غيضا فهذا الكهل عوضا عن تهدئة الأوضاع فهو زادها حدَّةً و رحل و كلُّ منها يود أن يصب جام غضبه على الآخر بدأ الأمر بحرب باردة ثم بمناوشات و تطور الأمر بالتراشق اللفظي و انتهى بقصف و استجواب من قبل إدارة مشفى الأمراض النفسية و فصل غرفهما كُل على حدة .
3
خيَّم الليلُ على المشفى و بعض المتعالجين كانوا يلوذون بصمتهم و آخرون كانوا يغطون في سبات عميق و الساعة كانت تزحفُ ببطئ شديد ,و الكهل كان يفتكه انتظار الصبح فهسيس الحشرات في هذا الوقت من الليل تكاد تصم أذنيه , يقلب أفكاره لعل هذه السَّاعات ذات الوقع الثقيل على قلبه تنزاح .يتذكر أمر مسرحية الملك أوديب يتظاهر بقراءتها يقلب صفحات المسرحية و هو لم يعقد النية على قراءتها بعد , تقع عيناه على اللغز الذي نقل أوديب من حياة التشرد و توَّجه ملكاً , كوْنه لم يُلملم كل أطراف القصة أطلق ضحكة رنانة تعالت أصداءها في أطراف الغرفة و أخذ يطرح اللغز :
"ما هو الكائن الذي يمشي على أربع و بعدها يمشي على اثنتين و بعدها يمشي على ثلاث ؟ "
و يعيد اللغز ثانية و ثالثة و لا يعير تأفف المرضى في الأسرة المجاورة أدنى اهتمام و يرمي بتهديداتهم عرض الحائط .
الحنق بدا جليا على مُحيا المرضى فقد أخرجهم عن طورهم و أفقدهم صوابهم و الضجة أثيرت في تلك الغرفة مما اضطر الممرضين المناوبين على فصل هذا الكهل في غرفة أخرى بغية توفير جو هادئ للمرضى , حين اقترب الممرضين منه حاول استدرارا عطفهم لكن محاولاته باءت بفشل ذريع و بعدها أخذ يزبد و يرعد و هم يأخذونه لغرفة أخرى .
4
كل شيء في الغرفة هذه متواطئ مع مزاجية هذا الكهل الألوان هنا حيادية و حادة في آن واحد , الأثاث هُنا يذكره بأثاث مكتبه في الشركة , الحال في هذه الغرفة ليس كحال غرف مشفى الأمراض النفسية .. لا يُعقل أنهم ألقوني هنا بمحض صدفة ..إذن فمن ذا الذي يجرؤ على التجسس على أفكاري و تسريبها أيضا لهم .
لا يهم , ما يهمني الآن هُو ...
5
- يبدو أن هذا الكهل أحكم غلق الباب .
- بما أنه لم يغفُ له جفن ليلة البارحة فعلى أغلب الظن أن يكون نائما الآن .
- فلنعاود إيقاظه بعد سويعات .
- حان دوره مع الطبيب و لن يُرجئ الطبيب هذا الموعد إلا بعد فترة طويلة .
يطرقون الباب بعنف , يحاولون استراق السمع و لكن لا حراكْ الأمر الذي يضطرهم إلى فتح الباب عنوة .
هالهم المنظر الكهل متكئا على منسأته و بجانبه أوراق و حبر مُسال ,تبين لهم أن الكهل توفي دون أن تأكل دابة الأرض منسأته !
يخرجون به من الغرفة و لا تبقى سوى الممرضة لتعيد الأشياء لموقعها , و لتصلح من حال الغرفة ..تجمعُ الأوراق فتجد أنَّه ثمة عبارات خُطت على هذه الورقة .
"
مساؤكم يباب يا صِغار , أقصد يا كِبار
فالتصرفات التي بدرت منكم من المُحال أن تبدر من الصِّغار ..حاشاهم الصغارمن فعلتكم تلك .
مساؤكم بلاقع كتلك التي تستوطن قلوبكم .
مساؤكم جفاء لم أتمكن من استئصال جذوره التي ما اكتشفت وجودها إلا بعد أن تأصَّلت في ذواتكم .
مساؤكم تحليق بأجنحة الكبر لا إخضاع بأجنحة الذل .
تطرق باب ذاكرتي الآن مئات الاستفهامات و لكني لم أجد لها أيَّا من الأجوبة التي تقنعني أنا , أهو تقصير من طرفي أنا أم أنه إنكار للجميل من لدنكم أنتم , أم أنه التدليل المفرط الذي أغدقته عليكم .
أي خزي و أي عار هذا الذي ألحقتموه بكم و بأبنائكم و بمناصبكم التي لما تقلدتموها لولاي .
سيَّاف : لا تنسَ بني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرب و زوجتك تلك التي تصدر أحكاما جزافية , و تخترع فلسفات لم يخترعها أفلاطون لتقول " من زاد علمه قل عقله " و تقصدني بنظرياتها تلك , و أنت تقتفي أثرها و لئن دخلت هي جحر ضب لدخلته أنت معها ..!
عصام : كنتَ أقربهم إلي , كنت تسكن سويداء القلب , و لذلك تعمَّد الموت انتقاءك دون الآخرين .
سهام : سهامكِ معقوفة بُنية و لم تُصيبي الرَّمية هذه المرَّة , أنتِ آخر العنقودِ المدللة التِي لطالما ناقشتكِ في عُمْرٍ من القناعات كنتِ تمجدينها و أنا بدوري لم أحط من قدرها يوما , أتذكرين أيا سهام آخر أحاديثنا قبل أن تزجي بي أنتِ و أخوك هنا ..كنَّا نتحدث عن تصادم الأجيال عن جُملتك التي كنت تُرددينها مرارا " نحن أبناء جيل يرافقنا الكثير من اللبس في لحظة إكرام الضيف فنتردد بأي يدٍ نمسك بدلة القهوة و بأيهما نصب الفنجان " و الكثير من التفاصيل الموجعة يا سهام "
قد أكون سلبتكم حقوقكم يوما , لكنَّ الأمر لا يستدعي ادِّعاءكم إصابتي بخللٍ عقلي ,
أيَّا يكن عفا الله عما سلف
و للمرضة و الشُّبان هُنا أسألكم العفو و الصفح
و استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
كان يوما ما أباً لكم , لكنه اليوم يُعرف ببضعة أرقام مُعلقة على سريره في مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية .
"
2010\3\12