![]() |
رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم ((41))
{ المقداد بن عمرو - أول فرسان الاسلام }
تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا: " أول من عدا به فرسه في سبيل الله، المقداد بن الأسود.. والمقداد بن الأسود، هو بطلنا ، هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه، فصار يدعى المقداد بن الأسود، حتى اذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني، نسب لأبيه عمرو بن سعد.. والمقداد من المبكّرين بالاسلام، وسابع سبعة جاهروا باسلامهم وأعلنوه، حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها في شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!! ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم.. يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله: " لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون صاحبه، أحبّ اليّ مما في الأرض جميعا". في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا ، حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد واصرارها العنيد، وخيلائها وكبريائها.. في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة، لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الاسلام، فهذه أول غزوة لهم يخوضونها.. ووقف الرسول معجبا بايمان الذين معه، واستعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه.. وراح يشاورهم في الأمر، وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي، فانه يفعل ذلك حقا، وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه، فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها، ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب.. وخاف المقدادا أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة، ويسهم في تشكيل ضميرها. ولكنه قبل أن يحرك شفتيه، كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن، وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن.. ثم تقدم المقداد وقال: " يا رسول الله.. امض لما أراك الله، فنحن معك.. والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون.. بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون..!! والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا الى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك".. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتهلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها واقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!! أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار، وقال: " يا رسول الله.. لقد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.. والذي بعثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا.. انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله".. وامتلأ قلب الرسول بشرا.. وقال لأصحابه:" سيروا وأبشروا".. والتقى الجمعان.. وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، والزبير بن العوّام، بينما كان بقية المجاهدين مشاة، أو راكبين ابلا.. ان كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل، لا تصور شجاعته فحسب، بل تصور لنا حكمته الراجحة، وتفكيره العميق.. وكذلك كان المقداد.. كان حكيما أريبا، ولم تكن حكمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات، بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة، وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحكمته وريا لفطنته.. ولاه الرسول على احدى الولايات يوما، فلما رجع سأله النبي: " كيف وجدت الامارة"..؟؟ فأجاب في صدق عظيم: " لقد جعلتني أنظر الى نفسي كما لو كنت فوق الناس، وهم جميعا دوني.. والذي بعثك بالحق، لا اتآمرّن على اثنين بعد اليوم، أبدا".. واذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟ واذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟ رجل لا يخدع عن نفسه، ولا عن ضعفه.. يلي الامارة، فيغشى نفسه الزهو والصلف، ويكتشف في نفسه هذا الضعف، فيقسم ليجنّبها مظانه، وليرفض الامارة بعد تلك التجربة ويتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!! لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هوذا: " ان السعيد لمن جنّب الفتن".. واذا كان قد رأى في الامارة زهوا يفتنه، أو يكاد يفتنه، فان سعادته اذن في تجنبها.. ومن مظاهر حكمته، طول أناته في الحكم على الرجال.. وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي.. وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس الى لحظة الموت، ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر، أو أي جديد بعد الموت..؟؟ وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله الينا أحد أصحابه وجلسائه، يقول: " جلسنا الى المقداد يوما فمرّ به رجل.. فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى اله عليه وسلم.. والله لوددنا لو أن رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال: ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله، لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم، وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم".. حكمة وأية حكمة..!! انك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله، الا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..! ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية.. ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم.. ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين. وأليس من الخير اذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الاسلام، فأخذه صفوا عفوا.. هذه نظرة المقداد، تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه، وتجاربه، وكلماته، كان الأريب الحكيم.. وكان حب المقداد للاسلام عظيما.. وكان الى جانب ذلك، واعيا حكيما.. والحب حين يكون عظيما وحكيما، فانه يجعل من صاحبه انسانا عليّا، لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته.. والمقداد بن عمرو من هذا الطراز.. فحبه للرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول، ولم يكن تسمع في المدينة فزعة، الا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه، ممتشقا مهنّده وحسامه..!! وحبه للاسلام، ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الاسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه.. خرج يوما في سريّة، تمكن العدو فيها من حصارهم، فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا، فخالفه، فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق، أو لعله لا يستحقها على الاطلاق.. فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح، فسأله، فأنبأه ما حدث فأخذ المقداد بيمينه، ومضيا صوب الأمير، وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له: " والآن أقده من نفسك.. ومكّنه من القصاص"..!! وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح، وانتشى المقداد بعظمة الموقف، وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة، فراح يقول وكأنه يغني: " لأموتنّ، والاسلام عزيز"..!! أجل تلك كانت أمنيته، أن يموت والاسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية المثابرة الباهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام: "ان الله أمرني بحبك.. وأنبأني أنه يحبك"... منقول |
رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم ((42))
{ عبدالله بن مسعود - أول صادح بالقرآن }
قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبدالله بن مسعود قد آمن به، وأصبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام.. هو اذن من الأوائل المبكرين.. ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا: يا غلام،هل عندك من لبن تسقينا..؟؟ فقلت: اني مؤتمن، ولست ساقيكما.. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل..؟ قلت: نعم.. فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: اقلص، فقلص.. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فقلت: علمني من هذا القول. فقال: انك غلام معلم"... لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!! وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتملؤها هدى ونور.. بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه مؤمنا بايمانه يضعف كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها.. فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله: (بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان). ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!! ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير.. انه الزبير رضي الله عنه يقول: " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه..؟؟ فقال عبدالله بن مسعود:أنا.. قالوا: ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه.. قال: دعوني، فان الله سيمنعني.. فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها.. فتأملوه قائلين: ما يقول ابن ام عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد.. فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ.. ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك.. فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا.. قالوا: حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!! أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!! ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب.. ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!! لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة.. بل ولا بعيدا عن الزحام..!! فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه.. فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر.. وهو في الجاه مغمور.. ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..! ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ..! ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!! ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا. يقول على نفسه: " أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد".. ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه.. ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول: " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد". ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته،ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن. يقول عليه السلام: " من أحب أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد".. " من أحب أن يقرأ القرآن كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!! ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود.. دعاه يوما الرسول، وقال له: " اقرأ عليّ يا عبد الله".. قال عبد الله: " أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله"؟! فقال له الرسول: "اني أحب أن أسمعه من غيري".. فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى: (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.. يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض.. ولا يكتمون الله حديثا).. فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود: أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود".. وتحدث هو بنعمة الله فقال: " والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!! ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: " لقد ملئ فقها".. وقال أبو موسى الأشعري: " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم" ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى. يقول عنه حذيفة: " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود... ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى"..!! واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقالوا له: "يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود.. قال علي: نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم..؟؟ قالوا: نعم.. قال: اللهم اني أشهدك.. اللهم اني أقول مثل ما قالوا أو أفضل.. لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه..فقيه في الدين، عالم بالسنة"..! وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون: " ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا".. وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيره ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر.. يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: "لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله".. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: " لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين، لأمّرت ابن أم عبد".. وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه: " تمسكوا بعهد ابن أم عبد"... وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد بقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" اذنك عليّ أن ترفع الحجاب".. فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار... وهكذا قال عنه أصحابه: " كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا".. ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا.. ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته... فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!! ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة.. يقول عمرو بن ميمون: " اختلفت الى عبدالله بن مسعود سنة، ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!! ويقول علقمة بن قيس: " كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت اليه وهو معتمد على عصا، فاذا عصاه ترتجف، وتتزعزع"..!! ويحدثنا مسروق عن عبدالله: " حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!! الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه..!! فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا..!! لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أبي جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله اليهم: " اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا". ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله.. واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات.. ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام.. ولقد بلغ من حبهم اياه أن أحاطوا به حين أراد الخليفةعثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه".. ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم: " ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!! ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخليفةعثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الامل،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة.. بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة.. وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة: " لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله". ويقول بعض أصحاب ابن مسعود: " ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط".. ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى. وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد.. لنستمع له مثلا وهو يلخص حياة عمر في تركيز باهر فيقول: " كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت امارته رحمة..". ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول: " ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!! ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول:" اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا.. ليس فيه شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة".. ومن كلماته الجامعة: " خير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم. هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه.. هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!! نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم.. له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام: " تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!! أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان.. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور.. ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته.. وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع خلفائه من بعده.. وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته.. ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته.. ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها.. ولنصغي اليه يحدثنا بكلماته عنها: " قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول: ادنيا اليّ أخاكما.. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال: اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!! تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه. وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه.. ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن..!! منقول |
رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم ((43))
{ عبادة بن الصامت - نقيب في حزب الله }
انه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار"..هوعبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار، فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم... وحينما جاء وفد الأنصار الأول الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام ، تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى، كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا، الذين سارعوا الى الاسلام، وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين، وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين... وحينما كان موعد الحج في العام التالي، يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني، مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة، كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار.. وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل، والفداء تتابع، كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية... ومنذ اختيار الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار.. كل ولائه لله، وكل طاعته لله، وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الايمان.. كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة.. ومنذ هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة، ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد، فشرع يهود المدينة يتنمّرون.. وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين.. ولا يكاد عبادة يرى موقفهم هذا، حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا: " انما أتولى الله، ورسوله، والمؤمنين... فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه، قائلا في آياته: ( ومن يتولى الله ورسوله، والذين آمنوا، فان حزب الله هم الغالبون)... لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله.. وحزب الله، هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق، والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم، مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم.. ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة، والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله.. وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه، لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة، بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا. أجل لقد أصبح عبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج ، رائدا من روّاد الاسلام ، وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل، ولا في جبلين، أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!! سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤولية الأمراء والولاة.. سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام ، عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق ، أو تعبث ذمته بمال ، فزلزل زلزالا، وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا..ولقد برّ بقسمه.. وفي خلافة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما، الا ّتعليم الانس وتفقيههم في الدين. أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة، مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى، المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء، والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا... وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك، معاوية.. كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة، فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!! ثم يرتد بصره الى حيث يقيم، في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا، ويعشق السلطان... وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية، وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله... عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته.. واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة، وقلبه ثقة، فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب.. فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس، فستكون الشقة بين الاثنين واسعة، وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!! يقول عبادة رضي الله عنه: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم".. وعبادة خير من يفي بالبيعة. واذن فهو لن يخشى معاوية بكل سلطانه، وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه.. ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا.. وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه.. ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع، فقال لمعاوية:" والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا".. وغادر فلسطين الى المدينة.. كان أمير المؤمنين عمر، عظيم الفطنة، بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين، كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة، وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده.. من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله:" ما الذي جاء بك يا عبادة"...؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر: " ارجع الى مكانك، فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!! ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه: " لا امرة لك على عبادة"..!! أجل ان عبادة أمير نفسه.. وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم، فانه يكون عظيما.. وقد كان عبادة عظيما في ايمانه، وفي استقامة ضميره وحياته... وفي العام الهجري الرابع والثلاثين، توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام، تاركا في الحياة عبيره وشذاه منقول |
{ عثمان بن مظعون - راهب صومعته الحياة }
اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم الزمني الى الاسلام فاعلم اذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون.. واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا، كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع.. واعلم أخيرا أن هذا الصحابي الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع، بل من رهبان الحياة...!! أجل.. كانت الحياة بكل جيشانها، ومسؤولياتها، وفضائلها هي صومعته.. وكانت رهبانيته عملا دائبا في سبيل الحق، وتفانيا مثابرا في سبيل الخير والصلاح... عندما كان الاسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته ، عليه الصلاة والسلام، التي يلقيها في بعض الأسماع سرا وخفية.. كان عثمان بن معظون هناك، وحدا من القلة التي سارعت الى الله والتفت حول رسوله.. ولقد نزل به من الأذى والضر، ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين.. وحين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا ايّاها بالهجرة الى الحبشة. مؤثرا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده، كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من المهاجرين، مصطحبا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل. وضراوة قريش، وهو عذابها.... وكشأن المهاجرين الى الحبشة في كلتا الهجرتين... الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه الا استمساكا بالاسلام. واعتصاما به.. والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان ظاهرة فريدة، ومجيدة في قضية الاسلام.. فالذين آمنوا بالرسول صلى الله وصدّقوه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاتها، وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو معجونة من صلصال..!! وحين هاجروا الى الحبشة واجهوا فيها دينا سائدا، ومنظما.. له كنائسه وأحباره ورهبانه.. وهو، مهما تكن نظرتهم اليه، بعيد عن الوثنية التي ألفوها في بلادهم، وعن عبادة الأصنام بشكلها المعروف وطقوسها التي خلفوها وراء ظهورهم.. ولا بدّ أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم، واقناعهم بالمسيحية دينا... ومع هذا كله نرى أولئك المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للاسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في شوق وقلق، ذلك أن اليوم القريب الذي يعودون فيه الى بلادهم الحبيبة، ليعبدوا الله وحده، وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان القتال، اذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال.. في الحبشة اذن عاش المهاجرون آمنين مطمئنين.. وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف، وما ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ، فراح يتسلى بهجائه ويتوعده: تريش نبالا لا يواتيك ريشها وتبري نبالا، ريشها لك أجمع وحاربت أقواما مراما أعزة وأهلكت أقواما بهم كنت تزغ ستعلم ان نابتك يوما ملمّة وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. اذ الأنباء تواتيهم أن قريش أسلمت، وسجد عم الرسول لله الواحد القهار.. هنالك حمل المهاجرون أمتعتهم وطاروا الى مكة تسبقهم أشواقهم، ويحدوهم حنينهم.. بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن اسلام قريش.. وساعتئذ سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!! وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن، تحيّن فرصته، وتأتي به مقاديره..!! كان الجوّار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والاجلال، فاذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمى منيع لا يهدر له دم، ولا يضطرب منه مأمن... ولم يكن العائدون سواء في القدرة على الظفر بجوار.. من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم قلة، كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة. وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا، ومضى يعبر دروبها، ويشهد ندواتها، لا يسام خسفا ولا ضيما. ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن، ويربيه محمد صلى الله عليه وسلم، يتلفت حواليه، فيرى اخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين، الذين لم يجدوا لهم جوارا ولا مجيرا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل سبيل.. بينما هو آمن في سربه، بعيد من أذى قومه، فيثور روحه الحر، ويجيش وجدانه النبيل، ويتفوق بنفسه على نفسه، ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد، وأن يسقط عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله، وشرف الشبه باخوانه المسلمين، طلائع الدنيا المؤمنة، وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا ايمانا، وتوحيدا، ونورا.. ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث: " لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله ان غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، واصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني، لنقص كبير في نفسي.. فمشى الى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك. وقد رددت اليك جوارك.. فقال له: لم يا ابن أخي.. لعله آذاك أحد من قومي..؟ قال.. لا. ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره... فانطلق الى المسجد فاردد عليّ جواري علانية .. فانطلقا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان.. قد جاء يردد عليّ جواري.. قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته وفيّا كريما الجوار، ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله.. ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشهدم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان: صدقت.. قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة لا يزول.. فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم..؟ فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله.. فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما. فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابه ، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي ان كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.. قال عثمان: بل والله ان عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس..!! فقا له الوليد: هلم يا بن أخي، ا ن شئت فعد الى جواري.. قال ابن مظعون: لا... وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكن روحه تتفجر عافية، وصلابة، وبشرا.. ولقد مضى في الطريق الى داره يتغنى بشعره هذا: فان تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحدا في الدين ليس بمهتدي فقد عوّض الرحمن منها ثوابه ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد فاني وان قلتم غويّ مضلل لأحيا على دين الرسول محمد أريد بذاك الله، والحق ديننا على رغم من يبغي علينا ويعتدي هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلا، هو له أهل، وبه جدير.. وهكذا شهدت الحياة انسانا شامخا يعطّر الوجود بموقفه الفذ هذا.. وبكلماته الرائعة الخالدة: " والله ان عيني الصحيحة، لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر"..!! ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها، وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك الأذىبمثابة الانر التي تنضج الايمان وتصهره وتزكّيه.. وهكذا سار مع اخوانه المؤمنين، لا يروعهم زجر.. ولا يصدّهم اثخان..!! ويهاجر عثمان الى المدينة، حيث لا يؤرّقه أبو جهل هناك، ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. ولا عتبة، ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم، وأدمت نهارهم.. يذهب الى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته، والذين لم يهاجروا الى المدينة ليستريحوا ويكسبوا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب الى كل أقطار الأرض حاملين راية الله، مبشرين بكلماته وآياته وهداه.. وفي دار الهجرة المنوّرة، يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فاذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب... واذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي الى صومعة يعتزل فيها الحياة.. بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله.. أجل.. راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معا.. ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم، كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل، فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه امعانا رائعا، أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة، وتسبيحة طويلة عذبة..!! وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.. فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن، ولا يأكل الا الطعام الجشب.. دخل يوما المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس، وكان يرتدي لباسا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة.. فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر الكعب..؟!".. قال الأصحاب: " وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش".. فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: " ان ذلك لكائن.. وأنتم اليوم خير منكم يومئذ".. وكان بديهيا، وابن مظعون يسمع هذا، أن يزداد اقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!! بل حتى الرفث الى زوجته نأى عنه وانتهى، لولا أن علم أن رسول الله عليه السلام علم عن ذلك فناداه وقال له: " ان لأهلك عليك حقا".. وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا عظيما.. وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأولهم ارتياد لطريق الجنة، كان الرسول عليه الصلاة والسلام، هناك الى جواره.. ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات اشراقه وجلاله.. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب: " رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الدنيا وما أصبت منها، ولا أصابت منك".. ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته، بل كان دائم الذكر له، والثناء عليه.. حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: " الحقي بسلفنا الخيّر، عثمان بن مظعون"..!!! |
{ عبدالله بن رواحة - يا نفس، الا تقتلي تموتي }
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مستخفيا من كفار قريش مع الوفد القادم من المدينة هناك عند مشترف مكة، يبايع اثني عشر نقيبا من الأنصار بيعة العقبة الأولى، كان هناك عبدالله بن رواحة واحدا من هؤلاء النقباء، حملة الاسلام الى المدينة، والذين مهدّت بيعتهم هذه للهجرة التي كانت بدورها منطلقا رائعا لدين الله، والاسلام.. وعندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبايع في العام التالي ثلاثة وسبعين من الأنصار أهل المدينة بيعة العقبة الثانية، كان ابن رواحة الصحابي الجليل واحدا من النقباء المبايعين... وبعد هجرة الرسول وأصحابه الى المدينة واستقرارهم بها، كان عبدالله بن رواحة من أكثر الأنصار عملا لنصرة الدين ودعم بنائه، وكان من أكثرهم يقظة لمكايد عبد الله بن أبيّ الذي كان أهل المدينة يتهيئون لتتويجه ملكا عليها قبل أن يهاجر الاسلام اليها، والذي لم تبارح حلقومه مرارة الفرصة الضائعة، فمضى يستعمل دهاءه في الكيد للاسلام. في حين مضى عبدالله بن رواحة يتعقب هذا الدهاء ببصيرةمنيرة، أفسدت على ابن أبيّ أكثر مناوراته، وشلّت حركة دهائه..!! وكان ابن رواحة رضي الله عنه، كاتبا في بيئة لا عهد لها بالكتابة الا يسيرا.. وكان شاعرا، ينطلق الشعر من بين ثناياه عذبا قويا.. ومنذ أسلامه ، وضع مقدرته الشعرية في خدمة الاسلام.. وكان الرسول يحب شعره ويستزيده منه.. جلس عليه السلام يوما مع أصحابه، وأقبل عبدالله بن رواحة، فسأله النبي: " كيف تقول الشعر اذا أردت أن نقول"..؟؟ فأجاب عبدالله:" أنظر في ذاك ثم أقول".. ومضى على البديهة ينشد: يا هاشم الخير ان الله فضّلكم على البريّة فضلا ما له غير اني تفرّست فيك الخير أعرفه فراسة خالفتهم في الذي نظروا ولو سألت أو استنصرت بعضهمو في حلّ أمرك ما ردّوا ولا نصروا فثّبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا فسرّ الرسول ورضي وقال له: "واياك، فثّبت الله".. وحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يطوف بالبيت في عمرة القضاء كان ابن رواحة بين يديه ينشد من رجزه: يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام ان لاقينا ان الذين قد بغوا علينا اذا أرادوا فتنة ألبنا وكان المسلمون يرددون أنشودته الجميلة.. وحزن الشاعر المكثر، حين تنزل الآية الكريمة: ( والشعراء يتبعهم الغاوون).. ولكنه يستردّ غبطة نفسه حين تنزل آية أخرى: ( الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا..) وحين يضطر الاسلام لخوض القتال دفاعا عن نفسه، يحمل ابن رواحة سيفه في مشاهد بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر جاعلا شعاره دوما هذه الكلمات من شعره وقصيده: " يا نفس الا تقتلي تموتي".. وصائحا في المشركين في كل معركة وغزوة: خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا، فكل الخير في رسوله وجاءت غزوة مؤتة.. وكان عبدالله بن رواحة ثالث الأمراء، كما أسلفنا في الحديث عن زيد وجفعر.. ووقف ابن رواحة رضي الله عنه والجيش يتأهب لمغادرة المدينة.. وقف ينشد ويقول: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع وتقذف الزبدا أو طعنة بيدي حرّان مجهرة بحربة تنفد الأحشاء والكبدا حتى يقال اذا مرّوا على جثثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا أجل تلك كانت أمنيته ولا شيء سواها.. ضربة سيف أ، طعنة رمح، تنقله الى عالم الشهداء والظافرين..!! وتحرّك الجيش الى مؤتة، وحين استشرف المسلمون عدوّهم حزروا جيش الروم بمائتي ألف مقاتل، اذ رأوا صفوفا لا آخر لها، وأعداد تفوق الحصر والحساب..!! ونظر المسلمون الى عددهم القليل، فوجموا.. وقال بعضهم: " فلنبعث الى رسول الله، نخبره بعدد عدوّنا، فامّا أن يمدّنا بالرجال، وأمّا أن يأمرنا بالزحف فنطيع".. بيد أن ابن رواحة نهض وسط صفوفهم كالنهار، وقال لهم: " يا قوم.. انّا والله، ما نقاتل الا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. فانطلقوا.. فانما هي احدى الحسنيين، النصر أو الشهادة"... وهتف المسلمون الأقلون عددا، الأكثرون ايمانا،.. هتفوا قائلين: "قد والله صدق ابن رواحة".. ومضى الجيش الى غايته، يلاقي بعدده القليل مائتي ألف، حشدهم الروم للقال الضاري الرهيب... والتقى الجيشان كما ذكرنا من قبل.. وسقط الأمير الأول زيد بن حارثة شهيدا مجيدا.. وتلاه الأمير الثاني جعفر بن عبد المطلب حتى أدرك الشهادة في غبطة وعظمة.. وتلاه ثالث الأمراء عبداله بن رواحة فحمل الراية من يمين جعفر.. وكان القتال قد بلغ ضراوته، وكادت القلة المسلمة تتوه في زحام العرمرم اللجب، الذي حشده هرقل.. وحين كان ابن رواحة يقاتل كجندي، كان يصول ويجول في غير تردد ولا مبالاة.. أما الآن، وقد صار أميرا للجيش ومسؤولا عن حياته، فقد بدا أمام ضراوة الروم، وكأنما مرّت به لمسة تردد وتهيّب، لكنه ما لبث أن استجاش كل قوى المخاطرة في نفسه وصاح.. أقسمت يا نفس لتنزلنّه مالي أراك تكرهين الجنّة؟؟ يا نفس الا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنّت فقد أعطيت ان تفعلي فعلهما هديت يعني بهذا صاحبيه الذين سبقاه الى الشهادة: زيدا وجعفر.. "ان تفعلي فعلهما هديت. انطلق يعصف بالروم عصفا.. ولو لا كتاب سبق بأن يكون موعده مع الجنة، لظلّ يضرب بسيفه حتى يفني الجموع المقاتلة.. لكن ساعة الرحيل قد دقّت معلنة بدء المسيرة الى الله، فصعد شهيدا.. هوى جسده، فصعدت الى الرفيق الأعلى روحه المستبسلة الطاهرة.. وتحققت أغلى أمانيه: حتى يقال اذا مرّوا على جدثي يا أرشد الله من غاز، وقد رشدا نعم يا ابن رواحة.. يا أرشد الله من غاز وقد رشدا..!! وبينما كان القتال يدور فوق أرض البلقاء بالشام، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في المدينة، يحادثهم ويحادثونه.. وفجأة والحديث ماض في تهلل وطمأنينة، صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسدل جفنيه قليلا.. ثم رفعهما لينطلق من عينيه بريق ساطع يبلله أسى وحنان..!! وطوفّت نظراته الآسية وجوه أصحابه وقال: "أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا. ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا".. وصمت قليلا ثم استأنف كلماته قائلا: " ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها، حتى قتل شهيدا".. ثم صمت قليلا وتألقت عيناه بومض متهلل، مطمئن، مشتاق. ثم قال: " لقد رفعوا الى الجنة"..!! أيّة رحلة مجيدة كانت.. وأي اتفاق سعيد كان.. لقد خرجوا الى الغزو معا.. وكانت خير تحيّة توجّه لذكراهم الخالدة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد رفعوا الى الجنة"..!! |
{ طلحة بن عبيد الله - صقر يوم أحد }
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا)... تلا الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، ثم استقبل وجوه أصحابه، وقال وهو يشير الى طلحة: " من سرّه أن ينظر الى رجل يمشي على الأرض، وقد قضى نحبه، فلينظر الى طلحة"..!! ولم تكن ثمة بشرى يتمنّاها أصحاب رسول الله، وتطير قلوبهم شوقا اليها أكثر من هذه التي قلّدها النبي طلحة بن عبيد الله.. لقد اطمأن اذن الى عاقبة أمره ومصير حياته.. فسيحيا، ويموت، وهو واحد من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولن تناله فتنة، ولن يدركه لغوب.. ولقد بشّره الرسول بالجنة، فماذا كانت حياة هذا المبشّر الكريم..؟؟ لقد كان في تجارة له بأرض بصرى حين لقي راهبا من خيار رهبانها، وأنبأه أن النبي الذي سيخرج من بلاد الحرم، والذي تنبأ به الأنبياء الصالحون قد أهلّ عصره وأشرقت أيامه.. وحّرص طلحة ألاّ يفوته موكبه، فانه موكب الهدى والرحمة والخلاص.. وحين عاد طلحة الى بلده مكة بعد شهور قضاها في بصرى وفي السفر، الفى بين أهلها ضجيجا.. وسمعهم يتحدثون كلما التقى بأحدهم، أو بجماعة منهم عن محمد الأمين.. وعن الوحي الذي يأتيه.. وعن الرسالة التي يحملها الى العرب خاصة، والى الناس كافة.. وسأل طلحة أول ما سأل أبي بكر فعلم أنه عاد مع قافلته وتجارته من زمن غير بعيد، وأنه يقف الى جوار محمد مؤمنا منافحا، أوّابا.. وحدّث طلحة نفسه: محمد، وأبو بكر..؟؟ تالله لا يجتمع الاثنان على ضلالة أبدا.!! ولقد بلغ محمد الأربعين من عمره، وما عهدنا عليه خلال هذا العمر كذبة واحدة.. أفيكذب اليوم على الله، ويقول: أنه أرسلني وأرسل اليّ وحيا..؟؟ وهذا هو الذي يصعب تصديقه.. وأسرع طلحة الخطى ميمما وجهه شطر دار أبي بكر.. ولم يطل الحديث بينهما، فقد كان شوقه الى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعته أسرع من دقات قلبه.. فصحبه أبو بكر الى الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث أسلم وأخذ مكانه في القافلة المباركة.. وهكذا كان طلحة من المسلمين المبكرين. وعلى الرغم من جاهه في قومه، وثرائه العريض، وتجارته الناجحة فقد حمل حظه من اضطهاد قريش، اذ وكل به وبأبي بكر نوفل بن خويلد، وكان يدعى أسد قريش، بيد أن اضطهادهما لم يطل مداه، اذ سرعان ما خجلت قريش من نفسها، وخافت عاقبة أمرها.. وهاجر طلحة الى المدينة حين أمر المسلمون بالهجرة، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدا غزوة بدر، فان الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ندبه ومعه سعيد بن زيد لمهمة خارج المدينة.. ولما أنجزاها ورجعا قافلين الى المدينة، كان النبي وصحبه عائدين من غزوة بدر، فآلم نفسيهما أن يفوتهما أجر مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد في أولى غزواته.. بيد أن الرسول أهدى اليهما طمأنينة سابغة، حين انبأهما أن لهما من المثوبة والأجر مثل ما للمقاتلين تماما، بل وقسم لهما من غنائم المعركة مثل من شهدوها.. وتجيء غزوة أحد لتشهد كل جبروت قريش وكل بأسها حيث جاءت تثأر ليوم بدر وتؤمّن مصيرها بانزال هزيمة نهائية بالمسلمين، هزيمة حسبتها قريش أمرا ميسورا، وقدرا مقدورا..!! ودارت حرب طاحنة سرعان ما غطّت الأرض بحصادها الأليم.. ودارت الدائرة على المشركين.. ثم لما رآهم المسلمون ينسحبون وضعوا أسلحتهم، ونزل الرماة من مواقعهم ليحوزوا نصيبهم من الغنائم.. وفجأة عاد جيش قريش من الوراء على حين بغتة، فامتلك ناصية الحرب زمام المعركة.. واستأنف القتال ضراوته وقسوته وطحنه، وكان للمفاجأة أثرها في تشتيت صفوف المسلمين.. وأبصر طلحة جانب المعركة التي يقف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألفاه قد صار هدفا لقوى الشرك والوثنية، فسارع نحو الرسول.. وراح رضي الله عنه يجتاز طريقا ما أطوله على قصره..! طريقا تعترض كل شبر منه عشرات السيوف المسعورة وعشرات من الرماح المجنونة!! ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعيد يسيل من وجنته الدم ويتحامل على نفسه، فجنّ جنونه، وقطع طريق الهول في قفزة أو قفزتين وأمام الرسول وجد ما يخشاه.. سيوف المشركين تلهث نحوه، وتحيط به تريد أن تناله بسوء.. ووقف طلحة كالجيش اللجب، يضرب بسيفه البتار يمينا وشمالا.. ورأى دم الرسول الكريم ينزف، وآلامه تئن، فسانده وحمله بعيدا عن الحفرة التي زلت فيها قدمه.. كان يساند الرسول عليه الصلاة والسلام بيسراه وصدره، متأخرا به الى مكان آمن، بينما بيمينه، بارك الله يمينه، تضرب بالسيف وتقاتل المشركين الذين أحاطوا بالرسول، وملؤا دائرة القتال مثل الجراد..!! ولندع الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه يصف لنا المشهد.. تقول عائشة رضي الله عنها: " كان أبو بكر اذا ذكر يوم أحد يقول: ذلك كله كان يوم طلحة.. كنت أول من جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجرّاح: دونكم اخاكم.. ونظرنا واذا به بضع وسبعون بين طعنة.. وضربة ورمية.. واذا أصبعه مقطوع. فأصلحنا من شانه" . وفي جميع المشاهد والغزوات، كان طلحة في مقدّمة الصفوف يبتغي وجه الله، ويفتدي راية رسوله. ويعيش طلحة وسط الجماعة المسلمة، يعبد الله مع العابدين، ويجاهد في سبيله مع المجاهدين، ويرسي بساعديه مع سواعد اخوانه قواعد الدين الجديد الذي جاء ليخرج الناس من الظلمات الى النور.. فاذا قضى حق ربه، راح يضرب في الأرض، ويبتغي من فضل الله منمّيا تجارته الرابحة، وأعماله الناجحة. فقد كان طلحة رضي الله عته من أكثر المسلمين ثراء، وأنماهم ثروة.. وكانت ثروته كلها في خدمة الدين الذي حمل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته... كان ينفق منها بغير حساب.. وكان الله ينمّيها له بغير حساب! لقد لقّبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الفيّاض اطراء لجوده المفيض. وما أكثر ما كان يخرج من ثروته مرة واحدة، فاذا الله الكريم يردها اليه مضاعفة. تحدّثنا زوجته سعدى بنت عوف فتقول: " دخلت على طلحة يوما فرأيته مهموما، فسألته ما شانك..؟ فقال المال الذي عندي.. قد كثر حتى أهمّني وأكربني.. وقلت له ما عليك.. اقسمه.. فقام ودعا الناس، واخذ يقسمه عليهم حتى ما بقي منه درهم"... ومرّة أخرى باع أرضا له بثمن مرتفع، ونظر الى كومة المال ففاضت عيناه من الدمع ثم قال: " ان رجلا تبيت هذه الأموال في بيته لا يدري ما يطرق من أمر، لمغرور بالله"... ثم دعا بعض أصحابه وحمل معهم أمواله هذه، ومضى في شوارع المدينة وبيوتها يوزعها، حتى أسحر وما عنده منها درهم..!! ويصف جابر بن عبدالله جود طلحة فيقول: " ما رأيت أحد اعطى لجزيل مال من غير مسألة، من طلحة بن عبيد الله".وكان أكثر الناس برّا بأهله وبأقربائه، فكان يعولهم جميعا على كثرتهم.. وقد قيل عنه في ذلك: ".. كان لا يدع أحدا من بني تيم عائلا الا كفاه مؤنته، ومؤنة عياله.. وكان يخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم".. ويقول السائب بن زيد: " صجبت طلحة بن عبيدالله في السفر والحضر فما وجدت أحدا، أعمّ سخاء على الدرهم، والثوب والطعام من طلحة"..!! وتنشب الفتنة المعروفة في خلافة عثمان رضي الله عنه.. ويؤيد طلحة حجة المعارضين لعثمان، ويزكي معظمهم فيما كانوا ينشدونه من تغيير واصلاح.. أكان بموقفه هذا، يدعو الى قتل عثمان، أو يرضى به..؟؟ كلا... ولو كان يعلم أن الفتنة ستتداعى حتى تتفجر آخر الأمر حقدا مخبولا، ينفس عن نفسه في تلك الجناية البشعة التي ذهب ضحيتها ذو النورين عثمان رضي الله عنه.. نقول: لو كان يعلم أن الفتنة ستتمادى الى هذا المأزق والمنتهى لقاومها، ولقاومها معه بقية الأصحاب الذين آزروها أول أمرها باعتبارها حركة معارضة وتحذير، لا أكثر.. على أن موقف طلحة هذا، تحوّل الى عقدة حياته بعد الطريقة البشعة التي حوصر بها عثمان وقتل، فلم يكد الامام عليّ يقبل بيعة المسلمين بالمدينة ومنهم طلحة والزبير، حتى استأذن الاثنان في الخروج الى مكة للعمرة.. ومن مكة توجها الى البصرة، حيث كانت قوات كثيرة تتجمّع للأخذ بثأر عثمان.. وكانت وقعة الجمل حيث التقى الفريق المطالب بدم عثمان، والفريق الذي يناصر عليّا.. وكان عليّ كلما أدار خواطره على الموقف العسر الذي يجتازه الاسلام والمسلمون في هذه الخصومة الرهيبة، تنتفض همومه، وتهطل دموعه، ويعلو نشيجه..!! لقد اضطر الى المأزق الوعر.. فبوصفه خليفة المسلمين لا يستطيع، وليس من حقه أن يتسامح تجاه أي تمرّد على الدولة، أو أي مناهضة مسلحة للسلطة المشروعة.. وحين ينهض لقمع تمرّد من هذ النوع، فان عليه أن يواجه اخوانه وأصحابه وأصدقاءه، وأتباع رسوله ودينه، أولئك الذين طالما قاتل معهم جيوش الشرك، وخاضوا معا تحت راية التوحيد معارك صهرتهم وصقلتهم، وجعلت منهم اخوانا بل اخوة متعاضدين.. فأي مأزق هذا..؟ وأي ابتلاء عسير..؟ وفي سبيل التماس مخرج من هذا المأزق، وصون دماء المسلمين لم يترك الامام علي وسيلة الا توسّل بها، ولا رجاء الا تعلق به. ولكن العناصر التي كانت تعمل ضدّ الاسلام، وما أكثرها، والتي لقيت مصيرها الفاجع على يد الدولة المسلمة، أيام عاهلها العظيم عمر، هذه العناصر كانت قد أحكمت نسج الفتنة، وراحت تغذيها وتتابع سيرها وتفاقمها... بكى عليّ بكاء غزيرا، عندما أبصر أم المؤمنين عائشة في هودجها على رأس الجيش الذي يخرج الآن لقتاله.. وعندما أبصر وسط الجيش طلحة والزبير، حوراييّ رسول الله.. فنادى طلحة والزبير ليخرجا اليه، فخرجا حتى اختلفت أعناق أفراسهم.. فقال لطلحة: " يا طلحة، أجئت بفرس رسول الله تقاتل بها. وخبأت فرسك في البيت"..؟؟ ثم قال للزبير: " يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مرّ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمكان كذا، فقال لك: يا زبير، ألا تحبّ عليّا..؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي، وابن عمي، ومن هو على ديني..؟؟ فقال لك: يا زبير، أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم"..!! قال الزبير رضي الله عنه: نعم أذكر الآن، وكنت قد نسيته، والله لا أقاتلك.. وأقلع الزبير وطلحة عن الاشتراك في هذه الحرب الأهلية.. أقلعا فور تبيّنهما الأمر، وعندما أبصرا عمار بن ياسر يحارب في صف عليّ، تذكرا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمّار: " تقتلك الفئة الباغية".. فان قتل عمّار اذن في هذه المعركة التي يشترك فيها طلحة، فسيكون طلحة باغيا... انسحب طلحة والزبير من القتال، ودفعا ثمن ذلك الانسحاب حياتهما، ولكنهما لقيا الله قريرة أعينهما بما منّ عليهما من بصيرة وهدى.. أما الزبير فقد تعقبه رجل اسمه عمرو بن جرموز وقتله غيلة وغدرا وهو يصلي..!! وأما طلحة فقد رماه مروان بن الحكم بسهم أودى بحياته.. كان مقتل عثمان قد تشكّل في نفسية طلحة، حتى صار عقدة حياته.. كل هذا، مع أنه لم يشترك بالقتل، ولم يحرّض عليه، وانما ناصر المعارضة ضدّه، يوم لم يكن يبدو أن المعارضة ستتمادى وتتأزم حتى تتحول الى تلك الجريمة البشعة.. وحين أخذ مكانه يوم الجمل مع الجيش المعادي لعلي بن أبي طالب والمطالب بدم عثمان، كان يرجو أن يكون في موقفه هذا كفّارة تريحه من وطأة ضميره.. وكان قبل بدء المعركة يدعو ويضرع بصوت تخنقه الدموع، ويقول: " اللهم خذ مني لعثمان اليوم حتى ترضى".. فلما واجهه عليّ هو والزبير، أضاءت كلمات عليّ جوانب نفسيهما، فرأيا الصواب وتركا أرض القتال.. بيد أن الشهادة من حظ طلحة يدركها وتدركه أيّان يكون.. ألم يقل الرسول عنه: " هذا ممن قضى نحبه، ومن سرّه أن يرى شهيدا يمشي على الأرض، فلينظر الى طلحة"..؟؟ لقي الشهيد اذن مصيره المقدور والكبير، وانتهت وقعة الجمل. وأدركت أم المؤمنين أنها تعجلت الأمور فغادرت البصرة الى البيت الحرام فالمدينة، نافضة يديها من هذا الصراع، وزوّدها الامام علي في رحلتها بكل وسائل الراحة والتكريم.. وحين كان عليّ يستعرض شهداء المعركة راح يصلي عليهم جميعا، الذين كانوا معه، والذين كانوا ضدّه.. ولما فرغ من دفن طلحة، والزبير، وقف يودعهما بكلمات جليلة، اختتمها قائلا: " اني لأرجو أن أكون أنا، وطلحة والزبير وعثمان من الذين قال الله فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)".. ثم ضمّ قبريهما بنظراته الحانية الصافية الآسية وقال: " سمعت أذناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلحة والزبير، جاراي في الجنّة"... |
{ عمير بن سعد - نسيج وحده }
أتذكرون سعيد بن عامر..؟؟ ذلك الزاهد العابد الأوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول امارة الشام وولايتها.. لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا، ورأينا من زهده وترفعه، ومن ورعه العجب كله.. وها نحن أولاء، نلتقي على هذه الصفات بأخ له، بل توأم، في الورع وفي الزهد، وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!! انه عمير بن سعد.. كان المسلمون يلقبونه نسيج وحده!! وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله، وبما معهم من فضل وفهم ونور..!! أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية. ولقد اصطحب ابنه الى الرسول، فبايع النبي وأسلم.. ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله. يهرب من الأضواء، ويفيئ الى سكينة الظلال. هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى، الا أن تكون صلاة، فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. والا أن يكون جهاد، فهو يهرول الى الصفوف الأولى، راجيا أن يكون من المستشهدين..! وفيما عدا هذا، فهو هناك عاكف على نفسه ينمي برّها، وخيرها وصلاحها وتقاها..!! متبتل، ينشد أوبه..!! أوّاب، يبكي ذنبه..!! مسافر الى الله في كل ظعن، وفي كل مقام... ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ودّا، فكان قرّة أعينهم ومهوى أفئدتهم.. ذلك أن قوة ايمانه، وصفاء نفسه، وهدوء سمته، وعبير خصاله، واشراق طلعته، كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه، أو يراه. ولم يكن يؤثر على دينه أحدا، ولا شيئا. سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت، وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا، لنحن شرّ من الحمر"..!! وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا. سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة.. الغيظ، لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة.. والحيرة، لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر.. ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟ كيف، والمجالس بالأمانة..؟؟ أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟ كيف؟؟ وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة، وأخرجهم من ظلمة..؟ لكن حيرته لم تطل، فصدق النفس يجد دائما لصاحبه مخرجا.. وعلى الفور تصرّف عمير كرجل قوي، وكمؤمن تقي.. فوجه حديثه الى جلاس بن سويد.. " والله يا جلاس انك لمن أحب الناس الي، وأحسنهم عندي يدا، وأعزهم عليّ أن يصيبه شيء يكرهه.. ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمتّ عليها، ليهلكن ديني، وان حق الدين لأولى بالوفاء، واني مبلغ رسول الله ما قلت"..! وأرضى عمير ضميره الورع تماما.. فهو أولا أدّى أمانة المجلس حقها، وارتفع بنفسه الكبيرة عن ان يقوم بدور المتسمّع الواشي.. وهو ثانيا أدى لدينه حقه، فكشف عن نفاق مريب.. وهو ثالثا أعطى جلاس فرصة للرجوع عن خطئه واستغفار الله منه حين صارحه بأنه سيبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو أنه فعل آنئذ، لاستراح ضمير عمير ولم تعد به حاجة لابلاغ الرسول عليه السلام.. بيد أن جلاسا أخذته العزة بالاثم، ولم تتحرك شفتاه بكلمة أسف أو اعتذار، وغادرهم عمير وهو يقول: " لأبلغنّ رسول الله قبل أن ينزل وحي يشركني في اثمك"... وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب جلاس فأنكر أنه قال، بل حلف بالله كاذبا..!! لكن آية القرآن جاءت تفصل بين الحق والباطل: ( يحلفون بالله ما قالوا.. ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد اسلامهم، وهمّوا بما لم ينالوا.. وما نقموا الا أن أغناهم الله ورسوله من فضله.. فان يتوبوا خيرا لهم، وان يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة،وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير).. واضطر جلاس أن يعترف بمقاله، وأن يعتذر عن خطيئته، لا سيما حين رأى الآية الكريمة التي تقرر ادانته، تعده في نفس اللحظة برحمة الله ان تاب هو وأقلع: " فان يتوبوا، يك خيرا لهم".. وكان تصرّف عمير هذا خيرا وبركة على جلاس فقد تاب وحسن اسلامه.. وأخذ النبي بأذن عمير وقال له وهو يغمره بسناه: " يا غلام.. وفت اذنك.. وصدّقك ربك"..!! لقد سعدت بلقاء عمير لأول مرة، وأنا أكتب كتابي بين يدي عمر.( هذا ماقاله مؤلف الكتاب ـــ رجال حول الرسول ــــ والذي مازلنا بصدد قراءة صفحاته المشرقة ) واستطرد قائلا : وبهرني، كما لم يبهرني شيء، نبأه مع أمير المؤمنين.. هذا النبأ الذي سأرويه الآن لكم، لتشهدوا من خلاله العظمة في أبهى مشارقها.. تعلمون أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يختار ولاته وكأنه يختار قدره..!! كان يختارهم من الزاهدين الورعين، والأمناء الصادقين.. الذين يهربون من الامارة والولاية، ولا يقبلونها الا حين يكرههم عليها أمير المؤمنين.. وكان برغم بصيرته النافذة وخبرته المحيطة يتأني طويلا، ويدقق كثيرا في اختيار ولاته ومعاونيه.. وكان لا يفتأ يردد عبارته المأثورة: " أريد رجلا اذا كان في القوم، وليس أميرا عليهم بدا وكأنه أميرهم.. واذا كان فيهم وهو عليهم امير، بدا وكأنه واحد منهم..!! أريد واليا، لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن.. يقيم فيهم الصلاة.. ويقسم بينهم بالحق.. ويحكم فيهم بالعدل.. ولا يغلق بابه دون حوائجهم".. وفي ضوء هذه المعايير الصارمة، اختار ذات يوم عمير بن سعد واليا على حمص.. وحاول عمير أن يخلص منها وينجو، ولكن أمير المؤمنين ألزمه بها الزاما، وفرضها عليه فرضا.. واستخار الله ،ومضى الى واجبه .. وفي حمص مضى عليه عام كامل، لم يصل الى المدينة منه خراج.. بل ولم يبلغ أمير المؤمنين رضي الله عنه منه كتاب.. ونادى أمير المؤمنين كاتبه وقال له: " اكتب الى عمير ليأتي الينا".. وهنا أستأذنكم في أن أنقل صورة اللقاء بين عمر وعمير، كما هي في كتابي ـــ بين يدي عمرـــ. " ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا، من طول ما لاقى من عناء، وما بذل من جهد.. على كتفه اليمنى جراب وقصعة.. وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..! وانه ليتوكأ على عصا، لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!! ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة.. السلام عليك يا امير المؤمنين.. ويرد عمر السلام، ثم يسأله، وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء: ما شأنك يا عمير..؟؟ شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرّها بقرنيها..؟؟!! قال عمر: وما معك..؟ قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي.. وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي..!! قال عمر: أجئت ماشيا.. عمير: نعم.. عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها..؟ عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم.. عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به...؟ عمير: أتيت البلد الذي يعثتني اليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم، حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!! عمر: فما جئتنا بشيء..؟ عمير: لا.. فصاح عمر وهو منبهر سعيد: جدّدوا لعمير عهدا.. وأجابه عمير في استغناء عظيم: تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك، ولا لأحد بعدك"..!! هذه لصورة ليست سيناريو نرسمه، وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية، شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته. فأي طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون..؟!! وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول: " وددت لو أن لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين".. ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي، وحياتنا الشائكة.. ويوم كتب على هذا القدّيس التقي أن يجتاز تجربة الولاية والحكم، لم يزدد ورعه بها الاّ مضاء ونماء وتألقا.. ولقد رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق المنبر. وها هي ذي: " ألا ان الاسلام حائط منيع، وباب وثيق فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق.. فاذا نقض الحائط، وحطّم الباب، استفتح الاسلام. ولا يزال الاسلام منيعا ما اشتدّ السلطان وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف، ولا ضربا بالسوط.. ولكن قضاء بالحق، وأخذا بالعدل"..!! والآن نحن نودّع عميرا.. ونحييه في اجلال وخشوع، تعالو نصلي على : خير المعلمين: محمد.. لامام المتقين: محمد.. لرحمة الله المهداة الى الناس في قيظ الحياة عليه من الله صلاته. وسلامه.. وتحياته وبركاته.. وسلام على آله الآطهار.. وسلام على أصحابه الأبرار... |
{ أبو أيوب الأنصاري - انفروا خفافا وثقالا }
كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس.. وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله.. وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين: " يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا العدد والعدة والمنعة".. ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة: " خلوا سبيلها فانها مأمورة". ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فحيّ بني ساعدة، فحي بني الحارث بن الخزرج، فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة: " خلوا سبيلها فانها مأمورة.. لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف، أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم، ورسول جاء ليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم للله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون. أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه.. من اجل هذا، ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه، وابتهل اليه بلسانه: " اللهم خر لي، واختر لي".. وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان، ثم عادت الى مبركها الأول، واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وبنزول الرسول صلى الله عليه وسلم عم الخير و اليمن والبركة.. أتدرون من كان هذا السعيد الموعود الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟ انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، حفيد مالك بن النجار.. لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله.. فمن قبل، وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين، مناصرين. والآن رسول الله يشرف المدينة، ويتخذها عاصمة لدين الله، فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم، والرسول الكريم. ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة، ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما، وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!! وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه.. ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد، وبناء حجرة له بجواره.. ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل، وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله.. منذ تلك البداية، واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله. ففي بدر، وأحد والخندق، وفي كل المشاهد والمغازي، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله رب العالمين.. وبعد وفاة الرسول، لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها، مهما يكن بعد الشقة، وفداحة المشقة..! وكان شعاره الذي يردده دائما، في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى: ( انفروا خفافا وثقالا).. مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين، ولم يقتنع أبو أيوب بامارته. مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه، ويقول: " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟ ثم لم يفته بعد ذلك قتال!! كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام، يقاتل تحت رايته، ويذود عن حرمته.. ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية، وقف مع علي في غير تردد، لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة لمعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة، الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى، وبين صفوف المجاهدين.. وهكذا، لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه، وحمل سيفه، وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!! وفي هذه المعركة أصيب. وذهب قائد جيشه ليعوده، وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله.. فسأله القائد، وكان يزيد بن معاوية: " ما حاجتك أبا أيوب"؟ ترى، هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟ كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان..!! لقد طلب من يزيد، اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، وهنالك يدفنه، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، فيدرك آنئذ أنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!! أتحسبون هذا شعرا..؟ لا.. ولا هو بخيال، بل واقع، وحق شهدته الدنيا ذات يوم، ووقفت تحدق بعينيها، وبأذنيها، لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!! ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب.. وفي قلب القسطنطينية، وهي اليوم استامبول، ثوى جثمان رجل عظيم، جدّ عظيم..!! وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع، كان أهل القسطنطينية من الروم، ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس... وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون: " وكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!! وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيوب، والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح، على الرغم من ذلك، فان حياته كانت هادئة، نديّة كنسيم الفجر.. ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه: " واذا صليت فصل صلاة مودّع.. ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه.. والزم اليأس مما في أيدي الناس"... وهكذا لم يخض في لسانه فتنة.. ولم تهف نفسه الى مطمع.. وقضى حياته في أشواق عابد، وعزوف مودّع.. فلما جاء أجله، لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية التي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها: " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"... كان يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع، وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضيائه.. ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك، في عاصمة تلك البلاد، حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب، أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها، فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصلصلة سيوفها..!! وانه اليوم لثاو هناك.. لا يسمع صلصلة السيوف، ولا صهيل الخيول.. قد قضي الأمر، واستوت على الجوديّ من أمد بعيد.. لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه، روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق.. أن: الله أكبر.. الله أكبر.. وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها، وسنا مجدها: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله.... |
{ البراء بن مالك - الله، والجنّة }
هو ثاني أخوين عاشا في الله، وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نما وأزهر مع الأيام.. أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام. أخذته أمه أم سليم الى الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت: "يا رسول الله.. هذا أنس غلامك يخدمك، فادع الله له".. فقبّله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة.. دعا له لرسول فقال: " اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له، وأدخله الجنة".. فعاش تسعا وتسعين سنة، ورزق من البنين والحفدة كثيرين، كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق، بستانا رحبا ممرعا، كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!! وثاني الأخوين، هو البراء بن مالك.. عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره: " الله، والجنة".. ومن كان يراه، وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجبا يفوق العجب.. فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. انما كان يبحث عن الشهادة.. كانت كل أمانيه، أن يموت شهيدا، ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الاسلام والحق.. من أجل هذا، لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة.. وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه، فقرأ وجوههم ثم قال: " لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي.. لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"..!! ولقد صدّق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام..!! ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا، لأن جسارته واقدامه، وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!! وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الاسلام تحت امرة خالد تتهيأ للنزال، وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين، قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف.. وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها، كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!! أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية.. حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق.. ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة، يميل على أثرها جسده الى الأرض ، على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء، وأعياد المباركين..!! ونادى خالد: الله أكبر، فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك.. وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه.. لم يكن جيش مسيلمة هزيلا، ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا.. وكان بأعداده، وعتاده، واستماتة مقاتليه، خطرا يفوق كل خطر.. ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع. وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله.. وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه.. وناداه القائد خالد تكلم يا براء.. فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة، والدّلالة، القوة.. تلك هي: " يا أهل المدينة.. لا مدينة لكم اليوم.. انما هو الله والجنة".. كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله. أجل.. انما هو الله، والجنة..!! وفي هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر.. حتى المدينة، عاصمة الاسلام، والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها، لأنهم اذا هزموا اليوم، فلن تكون هنالك مدينة.. وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟ ان أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها.. فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى.. ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول.. المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر. والمشركون يتسا قطون في حضيض هزيمة منكرة.. والبراء هناك مع اخوانه يسيرون لراية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم.. واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها.. وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه.. وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح: " يا معشر المسلمين.. احملوني وألقوني عليهم في الحديقة".. ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!! ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته..!! فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!! ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الاسلام.. ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه.. وصدق أبو بكر رضي الله عنه: " احرص على الموت.. توهب لك الحياة"..!! صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه.. ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى.. بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة.. ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة.. فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب..!! ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة.. وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده.. ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق.. وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها.. فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا.. وكان البراء وأخوه أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون.. ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس فك السلسلة ليخلص نفسه، اذ كانت تتوهج لهبا ونارا.. وأبصرالبراء المشهد واسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!! لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!! وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء.. أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟ بلى آن..!! وهاهي ذي موقعة تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد.. احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين.. وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا.. وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته: " اجعل امير الجند سهيل بن عديّ.. وليكن معه البراء بن مالك".. والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية.. كان الاخوان الباسلان بين الحنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك.. وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس.. ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفريقين كليهما في كثرة كاثرة.. واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين: " أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك..؟ يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا".. ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا: " اللهم امنحنا أكنافهم.. اللهم اهزمهم.. وانصرنا عليهم.. وألحقني اليوم بنبيّك".. ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريب منه.. نظرة طويلة، كأنه يودّعه.. وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم.. ونصروا نصرا مبينا. ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حفنة من تراب مضمّخة بدمه الطهور.. لقد بلغ المسافر داره.. وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا: ( أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون).... |
{ أسيد بن خضير - بطل يوم السقيفة }
ورث المكارم كابرا عن كابر.. فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء.. وفيه يقول الشاعر: لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة لهبن خضيرا يوم غلّق واقما يطوف به، حتى اذا الليل جنّه تبوأ منه مقعدا متناغما وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ.. فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه. وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم.. ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا.. فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله. يومئذ، جلس أسيد بن خضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو اى دين جديد لا يعرفونه.. وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره".. وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام. وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير.. وفجأهم أسيد بغضبه وثورته.. وقال له مصعب: " هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، ون كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟ كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله.. فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب: لقد أنصفت: هات ما عندك.. وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته. ويقول الذين حضروا هذا المجلس: " والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم.. عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!! لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا: " ما أحسن هذا الكلام وأجمله.. كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟ قال له مصعب: " تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي".. ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة.. ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!! كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه.. وعاد الى سعد.. وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله: " أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!! أجل.. لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي.. وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!! وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا.. انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره.. ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير.. لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة.. اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى.. فكيف السبيل لهذا..؟ كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة.. وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ.. هنالك قال أسيد لسعد: " لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك".. وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين.. ولما اقترب من المجلس لم يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم.. هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير. ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!! كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا.. وكان ايمانه يفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما.. وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة: " لقد أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم.. أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم.. أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل".. سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام: أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟ قال أسيد: وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟ قال الرسول: عبدالله بن أبيّ!! قال أسيد: وماذا قال..؟؟ قال الرسول: زعم انه ان رجع الى المدينة لخرجنّ الأعز منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز.. ثم قال أسيد: " يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا".. بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة.. وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد اتجاهه.. وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه: " تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين.. فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين.. ولقد كنا أنصار رسول الله.. وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته".. وكانت كلماته، بردا، وسلاما.. ولقد عاش أسيد بن خضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه : " اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض".. ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق و حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا. وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها.. ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه.. وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد.. وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه.. وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم.. وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه: " نعم الرجل.. أسيد بن خضير".. |
{ سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو }
في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم.. وفي السابع والثلاثين مات شهيدا.. وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله.. انظروا.. أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟ انه هو.. يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة ليرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام.. أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!! ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية.. ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه.. وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حربته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!! أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة.. وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!! وتجيء غزوة بدر.. ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر. وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول: " أشيروا عليّ أيها الناس.." ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول: " يا رسول الله.. لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا.. فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك.. ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.. انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء.. ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك... فسر بنا على بركة الله"... أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين: " سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم".. وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع المباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ.. لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير.. وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا.. وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة.. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين.. واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو.. وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش.. وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير.. واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم.. ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين. وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق.. فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم: " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!! عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة.. وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم.. واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه.. قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب.. وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال: " يا رسول الله.. أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟ قال الرسول: " بل أمر أختاره لكم.. والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما".. وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان.. هنالك قال: " يا رسول الله.. قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أو بيعا.. أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟ والله ما لنا بهذا من حاجة.. ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!! وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به.. وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا.. والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية.. ولبس المسلمون لباس الحرب. وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين.. وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه.. وحمل المسلمون فتاهم البطل الى مكانه في مسجد الرسول.. ورفع سعد بصره الى السماء وقال: " اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه.. وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة.. ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..! لك الله يا سعد بن معاذ..! فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟ ولقد استجاب الله دعاءه.. فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه.. ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة.. ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة.. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه.. هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة. وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما.. ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية.. أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد.. جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض.. وقال له الرسول: " يا سعد احكم في بني قريظة". وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت للمدينة تهلك فيها بأهلها.. وقال سعد: " اني أرى أن يقتل مقاتلوهم.. وتسبى ذراريهم.. وتقسّم أموالهم.." وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة.. كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة.. وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا: " اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..! وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما.. فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال: " السلام عليك يا رسول الله.. أما اني لأشهد أنك رسول الله".. وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال: " هنيئا لك يا أبا عمرو". يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "كنت ممن حفروا لسعد قبره" وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد".. وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما .. ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول: " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ".. |
{ عبدالرحمن بن أبي بكر- بطل حتى النهاية }
هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده.. فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش.!! وفي غزوة بدر، خرج مقاتلا مع جيش المشركين.. وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين.. وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة.. ووقف عبدالرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه.. ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه، ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده. ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه.. اذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه، ولم يعد للفكاك منه سبيل، اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف، وبلا خداع. فعلى الرغم من اجلال عبدالرحمن أباه، وثقته الكاملة برجاحة عقله، وعظمة نفسه وخلقه، فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه. ولم يغره اسلام أبيه باتباعه. وهكذا بقي واقفا مكانه، حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته، يذود عن آلهة قريش، ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين.. والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز، لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى.. فأصالة جوهرهم، ونور وضوحهم، يهديانهم الى الصواب آخر الأمر، ويجمعانهم على الهدى والخير. ولقد دقت ساعة الأقدار يوما، معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق.. لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروحه، فاذا هو من المسلمين..! ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله، أوّأبا الى دينه الحق. وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله. لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال. فلا طمع يدفعه، ولا خوف يسوقه. وانما هو اقتناع رشيد سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه. وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله، ورسوله والمؤمنين... في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو، ولم يقعد عن جهاد مشروع.. ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثباته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله، فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين.. وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا.. فولاؤه لاقتناعه، وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا، ورفضه المداجاة والمداهنة... كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد السيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد.. وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال: " والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!! لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الاسلام لو أنجز معاوية أمره هذا، وحوّل الحكم في الاسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها، الى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!! لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع، حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر.. ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف.. لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة، وبعث اليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم، يريد أن يتألفه بها، فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية: " ارجع اليه وقل له: ان عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه".. ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما الى المدينة غادرها من فوره الى مكة.. وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه.. فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت الى الله روحه،، وحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة حيث دفن هناك، تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته.. وشهدت اسلامه..!! وكان اسلام رجل صادق، حرّ شجاع... |
عمران بن حصين - شبيه الملائكة
عام خيبر، أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا.. ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير، فعاهد نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب، وكريم.. هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق. وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق، والزهد، والورع، والتفاني وحب الله وطاعته... وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا، ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي، ويبكي، ويقول: " يا ليتني كنت رمادا، تذروه الرياح"..!! ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب، فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب.. انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله ، وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته، فمهما يضرعوا، ويركعوا، ومهما يسجدوا، ويعبدوا.. ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: " يا رسول الله، مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا دنيانا، وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك، ولقينا أهلنا، وأولادنا، ودنيانا، أنكرنا أنفسنا..؟؟" فأجابهم عليه السلام: " والذي نفسي بيده، لو تدومون على حالكم عندي، لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن ساعة.. وساعة. وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!! وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله، وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به، ويستضيؤن بتقواه. قال الحسن البصري، وابن سيرين: " ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين" كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل، استغرق في العبادة، واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها.. أجل.. صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة، يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم.. ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين، بين فريق علي وفريق معاوية، لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب، بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس: " لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت، أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم ، أخطأ أم أصاب".. وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا: " الزم مسجدك.. فان دخل عليك، فالزم بيتك.. فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله".. وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح، حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما، ما ضجر منه ولا قال: أفّ.. بل كان مثابرا على عبادته قائما، وقاعدا وراقدا.. وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة، ابتسم لها وقال: " ان أحبّ الأشياء الى نفسي، أحبها الى الله"..!! وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت: " اذا رجعتم من دفني، فانحروا وأطعموا".. أجل لينحروا ويطعموا، فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا انما هو حفل زفاف عظيم، ومجيد، تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين... |
عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة }
يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة. لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة. وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، تبوأ ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول. هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه. لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة. وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا. فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهد مجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول.. وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه.. هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه.. وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها.. يقول عن نفسه: " ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول: " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار: هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير. فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟ فترك ذلك ، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!! هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء. وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!! سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟ فأجاب: " بلسان سؤول.. وقلب عقول".. فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة.. ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات: " ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس.. ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله".. وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال: " ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس.. ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه.. ولا أفقه في رأي منه.. ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه.. ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها.. وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!! ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال: " انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث.. آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث.. وبحسن الاستماع اذا حدّث.. وبأيسر الأمرين اذا خولف.. وتارك المراء.. ومصادقة اللئام.. وما يعتذر منه"..!! وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا على يديه.. حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال: " لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر.. رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب.. فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد.. ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم. ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام.. فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم.. ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا.. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم.. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر.. فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!! وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة.. كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار.. ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته.. ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل.. بعث به الامام عليّ رضي الله عنه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب.. ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة.. سألهم ابن عباس: " ماذا تنقمون من عليّ..؟" قالوا: " ننتقم منه ثلاثا: أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله.. والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!! والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.." وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال: " أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟ ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم.. فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!! وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه: " وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟ وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم.. وانتقل ابن عباس الى الثالثة: " وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك.. فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!! واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!! ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء. فهو في جوده وسخائه امام وعلم.. انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!! ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون: " ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!! وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا. وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس.. يقول عن نفسه: " اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم.. واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!! واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!" وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن.. فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه. وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته. وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر.. عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره. وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين.. صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين. وعاش ابن عباس يملأ دنياه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه.. وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان. وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق: ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) |
{ أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون }
عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال: " ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتار بكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!! وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب.. فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه: " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟ انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري.. غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق.. وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين.. وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله ، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر.. ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا.. وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة.. وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين.. ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة.. وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم: " ان الأشعريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة. " فهم مني.. وانا منهم"..!! ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها.. أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة.. فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال.. وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!! وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل: " قضاة هذه الأمة أربعة: " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!! ثم هو مع هذا، صاحب فطرة بريئة، من خدعه في الله، انخدع له..!! وهو عظيم الولاء والمسؤولية.. وكبير الثقة بالناس.. لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة: " الاخلاص وليكن ما يكون".. في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه: " سيّد الفوارس، أبو موسى"..!! وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول: " خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!! وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال.. فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد.. ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم.. بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة.. ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!! وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم.. وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة.. ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء.. واتقى الجيشان.. جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا.. وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة.. وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته.. وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة. ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما. واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه.. على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور... يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول: " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..! كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له: " شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى".. كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله.. أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا. ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها. ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية. هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه. بيد أن الموقف كما سنراه، وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ، انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل، عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق، وبالناس، ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا، كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية. نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد. ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا، وليتنازل عنها معاوية، على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون. هكذا ناقش أبو موسى القضية، وهكذا كان حله. صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة. وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام، في رأي أبي موسى، قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية، لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار.. بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب. فازاحة أسباب النزاع والحرب، وتنحية أطرافه، مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص.. ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم، أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس، أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا. وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية، بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم.. ولم يكن في دين أبي موسى، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك نوايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين، ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد، تزيد الأمور سوءا... بدأ التحيكم بين الفريقين.. أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي.. وعمرو بن العاص، يمثل جانب معاوية. والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية. ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين، الأشعري، وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله. ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها.. ان مغزى اقتراح أبي موسى، أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي.. ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عمر.. وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته، فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله. ولم يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم، فأجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم، فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار.. وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية.. ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما: أبو موسى: يا عمرو، هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟ عمرو: وما هو..؟ أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب. عمرو: وأين أنت من معاوية..؟ أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها. عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوما..؟ أبو موسى: بلى.. عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان، وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا، اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه.. أبو موسى: اتق الله يا عمرو.. أمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟ وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه عمرو بن عثمان.. ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر.. عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟ أبو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر.. عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر..!! أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة. عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين، عليّا ومعاوية، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يحبوا.. عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه.. ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه.. ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة.. بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء.. فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف.. اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية.. واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه، فابن عثمان رضي الله عنه، اولى بهذه الولاية من معاوية.. لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده.. فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتخنار خليفتها.. ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي.. ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة، سيلجأ الى المناورة، همه يكن اقتناعه بمعاوية.. ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه.. حذره من مناورات عمرو وقال له: " أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم أنت بعده"..! لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو، ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه.. واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي، وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية.. ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له: " ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!! وتقدم أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين. وقال: " أيها الناس.. انا قد نظن فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة، ويصلح أمرها، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية، وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها.. واني قد خلعت عليا ومعاوية.. فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"... وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية، كما خلع أبو موسى عليا، تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس... وصعد عمرو المنبر، وقال: " أيها الناس، ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه، ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.."!! ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة.. وعاد من جديد الى عزلته، وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام.. كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم... ففي حياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن.. وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليحمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم.. وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة.. وولاه الخليفة عثمان الكوفة.. وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا.. ومن كلماته المضيئة عن القرآن: " اتبعوا القرآن.. ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!! وكان من اهل العبادة المثابرين.. وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول: " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة".. وذات يوم رطيب جاءه أجله.. وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه. والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها. تلك هي: " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"... |
{ سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن }
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال: " خذوا القرآن من أربعة: عبدالله بن مسعود.. وسالم مولى أبي حذيفة.. وأبيّ بن كعب.. ومعاذ بن جبل.." ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأبيّ،ومعاذ.. فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟ انه سالم ، مولى أبي حذيفة.. كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها.. ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة.. وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة. ذلك أنه كان رقيقا وأعتق.. وآمن بالله ايمانا مبكرا.. وأخذ مكانه بين السابقين الأولين.. وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش.. وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة.. وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها.. وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني.. وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه.. فـزيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة.. ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة تؤكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!! ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا.. فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخوانهم في الله وفي الاسلام.. ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!! وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقيقا، لا يعرف أبوه.. لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!! تلك عظمة الاسلام الفريدة.. بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!! لقد آمن سالم ايمان الصادقين.. وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين.. فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار.. لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم... أساس تلخصه الآية الجليلة: " ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!! والحديث الشريف: " ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى".. و" ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى".. في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا.. بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!! وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!! أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء.. وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!! وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له: " الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!! وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه: " سالم من الصالحين"..!! ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة.. كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد.. كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق. وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا.. انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها.. ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها.. بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين.. وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد.. وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء.. هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول: " اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!! والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول: " ان في سيف خالد رهقا".. وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب.. ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت.. وخالد البطل القائد، والبطل الصنديد في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة.. لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا. لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!! ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب.. ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول: " الدين النصيحة.. الدين النصيحة.. الدين النصيحة". ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد.. سأل عليه السلام قائلا: " هل أنكر عليه أحد"..؟؟ ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!! وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له: " نعم.. راجعه سالم وعارضه".. وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين.. لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة.. وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا.. وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى.. وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين.. وجاء يوم اليمامة.. وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها.. وخرج المسلمون للقتال.. وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة.. وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته.. وجمعهم خالد بن الوليد من جديد.. وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة.. وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة.. وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!! كان أبو حذيفة ينادي: " يا أهل القرآن.. زينوا القرآن بأعمالكم". وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب. وكان سالم يصيح: " بئس حامل القرآن أنا.. لو هوجم المسلمون من قبلي"..!! حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!! وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام.. وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب... ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة: ( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)... ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!! وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل مسيلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين.. وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير.. وسألهم: ما فعل أبو حذيفة..؟؟ قالوا: استشهد.. قال: فأضجعوني الى جواره.. قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!! وابتسم ابتسامته الأخيرة.. ولم يعد يتكلم..!! لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!! معا أسلما.. ومعا عاشا.. ومعا استشهدا.. يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!! وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت: " لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!! ******* وهكذا عشنا مع عبق السيرة العطرة لأصحاب خير الأنام النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكيف كان ولاؤهم وثباتهم وإخلاصهم لله ولرسوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ورضي الله على صحابته أجمعين 0 أرجو اني قد وفقت في إعداد هذا الجهد المتواضع الذي أسأل الله عز وجل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم كما لايفوتني أن أشكر كل من شارك بتعقيب أو رد من إخواني أعضاء المنتدى وأخص بالذكر الأخ الكريم الأدهم الذي أسعدني حقا بمشاركاته وردوده الطيبة الجميلة فله جزيل الشكر والتقدير والإمتنان وكذلك الأخ الكريم خربوط النت و الأخ الكريم أبو تركي فلهم جميعا كل الشكر والتقدير والشكر موصول إلى كل زائر وزائرة لهذا الموضوع الذي أتمنى أن حقق الفائدة المرجوة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين |
الساعة الآن 08:30 PM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By
Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها