منتديات حصن عمان - قراءة في رواية على مشجب الذاكرة "البؤساء" لفيكتو هيجو()
منتديات حصن عمان

منتديات حصن عمان (http://www.hesnoman.com/vb/index.php)
-   برج الكتب الإلكترونية (http://www.hesnoman.com/vb/forumdisplay.php?f=120)
-   -   قراءة في رواية على مشجب الذاكرة "البؤساء" لفيكتو هيجو() (http://www.hesnoman.com/vb/showthread.php?t=42380)

مداد 09-04-2013 05:08 PM

قراءة في رواية على مشجب الذاكرة "البؤساء" لفيكتو هيجو()
 
قراءة في رواية "البؤساء" لفيكتو هيجو
لأن هذه الرواية ترتبط معي بالطفولة الندية ؛ قرأتها منذ سنين ولت إلا أنها لازالت في مشجب الذاكرة بكل شخوصها
قدمت هذه القرءاة كتقرير لمادة اختيارية في الجامعة ()

البؤساء فِي حياةِ فيكتو هيجو :
ولد فيكتو هيجو في السادس والعشرين من فبراير من عام 1802م في "بيزانسون" بباريس من أب كان ضابطا في جيش الإمبراطورية ثم غدا جنرالا مناصرا للحكم الجمهوري ؛وبالمقابل كانت أمه كاثولكية حد النخاع ومؤيدة للحكمِ الملكي وقد انفصلت عن زوجها فيما بعد ؛ وبذلك تولت الإشراف على تربية وتعليم فيكتو ومما لا شك فِيه أن تلك التربية انعكست عَلى أعمالِ فيكتو فجائت أعماله الأولى من الشعر والأدب القصصي مناصرةً لكلٍ من الدين والملك ؛ ولم يتمرد فيكتو هيجو على تربيتهِ الكاثولوكية التي تدين بالولاءِ للحكمِ الملكي إلى بعد اندلاع ثورة 1848 م فِي فرنسا ؛وبدلا من ذلك بدأ بمناصرة الحكم الجمهوري والدعوة إليه ؛ عاش فيكتو هيجو أغلب سنواتِ عمرهِ في فرنسا إلا أنه في عام 1851م في الوقت الذي استولى فيه "نابليون الثالث" على الحكم في فرنسا غادر فرنسا منفيا مع زوجتهِ وأولاده ؛ نُفي فيكتو هيجو لأنه قاوم حكم نابليون منافحا عن الحرية والديموقراطية بل وحرض بقلمه وخرج إلى الشارع طالبا من الشعبِ أن يثور ضد من سماهُ " الطاغية" ؛ داعيا إياهم للتحرر من حكمه والتعبير عن آرائهم الفكرية ضد الحكم الديكتاتوري ؛ وبسبب مواقفهِ السياسية وتجنيده نفسه في خدمةِ الأفكار الديموقراطية والجمهورية عاش منفيا لخمسة عشر عاما شكلت أفكارهُ واتجاهاتهِ فِي الحياة ممثلا الرومانسية الفرنسية بعيونة وقلبه المفتوحين على التغيرات الإجتماعية إبان حكم "نابليون" ؛فحتظن بقلمه وقلبه البؤساء والمنكوبين ؛ نادى مِن منفاه بالشفقةِ والإحسانِ للضعفاء ؛ نداءا صادقا بالتضامن والإخاء مازال صداه لليوم يرجع تلك المعاني لكل من غفلها ؛ وفي عام 1862م أخرج من منفاه رواية "البؤساء" بعد سبعة عشر عاما قضاها فِي كتابتها وتحقيقها .
منهج فيكتو هيجو الأدبي :
يقول فيكتو هيجو "من الممكن مقاومة غزو الجيوش ولكن ليس من الممكن مقاومة الأفكار"
اهتم فيكتو بالعدالة الإجتماعية اهتماما بالغا رغبةً منه فِي تحسين ظروف المواطنين العادين والمهمشين فِي فرنسا ؛ ونرى أن نتاجه الأدبي تشكل منذ عمر الخامسة عشر اذ اشترك في مسابقة نظمتها الأكادمية الفرنسية وفاز بجائزة شعرية عن قصيدته " حسنات الدراسة" ؛ وفي أواخر عام 1819م أسس مع أخويهِ مجلة المحافظ الأدبي التي لم تكمل ربيعها الأول ؛أقبل على الأدب الفرنسي وقرأ ما أنتجته قرائح الأدباء قراءة فاحص متأمل ناقد ولا يفوتني أن أذكر هنا مدى حب وىتعلق فيكتو بالأديب الفرنسي " شاتوبريان" دون سواه من الأدباء وتأثر به كثيراً حتى أنه قال "إما أن أكون مثل شاتوبريان وإلا فلا"؛ وفي عام 1802م أصدر أول ديوان له أسماه "أغاني وقصائد مختلفة " وهنا ابتسم له الحظ وحظي بإهتمام واسع من لويس الثامن عشر الذي كان يحب القراءة وأعجب بديوانه أيما إعجاب ؛ وقد ظهر أول أعماله الناظجة في المجال القصصي عام 1829 م وعكس الإلتزام الشديد الذي كان يمليه عليهِ ضميرهُ بتناول الموضوعات التي تهم المجتمع وهو أمر أصبح سمة مميزة فِي أعماله اللاحقة واستوحى أعماله الأدبية من المحيط الذي يعيش فيه كما نرى في كل من "كلود جو" وهي قصة قصيرة وثائقية استوحاها من أحداث واقعية عن قاتل تم إعدامه في فرنسا ؛ ونرى كذلك تأثره بالمحيط في روايته "أحدب نوتردام" إذ انه عندما كان صغيرا التحق بمدرسة الأشراف وكان يوقظه رجل قاس أحدب يثير الرعب في قلبه فنحله فِي روايته تلك ؛ نرى كذلك أنه تأثر بالأدب الشرقي كثيرا فقد قرأ ترجمة فرنسية للقرءان وألف ليلة وليلة ثم قرأ تاريخ الإسلام وحياة الرسول والصحابة وتأثر بهم وأصدر ديوان سماه "الشرقيات" ؛ ومن هذا المنطلق كتب فيكتو هيجو روايته الشهيرة "البؤساء" ؛ لأنه عاصر الظلم والبؤس والشقاء في القرن التاسع عشر وكل شخصية من شخصياتها تعبر عن فكرة عامة أراد إيصالها كالأخلاق والفلسفة والقانون والدين والرمانسية والحب وغيرها .
عن البؤساء (عرض الرواية والقيم الأخلاقية فيها):
يقول فيكتو هيجو :
" لقد أنهيت البؤساء وتنفست الصعداء! ..
دانتي وصف الجحيم الأخروي ..
وأنا وصفت الجحيم الأرضي! "

فمادام ثمة هلاك إجتماعي إما بسبب الدين او القانون او العرف يرى فيكتو هيجو أن هذا يخلق ألواننا من الجحيم على الأرض مشيرا ومنبها إلى أنه مادامت مشكلات العصر والتي حصرها في ثلاث مشكلات : الحط من قدر الرجل بالفقر, وتحطيم كرامة المرأة بالجوع, وتقزيم الطفولة بالجهل, لم تحل بعد وأن هنالك خناقا إجتماعيا مستمرا ؛ وان البؤس لم ينتهي والجهل فإن كتابا ككتابه هذا لا يمكن ان يكون إلا ذات غناء ؛ أراد هو من خلالها أن يقدم لنا أفكاره حول السياسة والفلسفة والأخلاق والإنسانية والدين .
ولا يخفى علينا أن "البؤساء" فِي ثيمتها رواية اجتماعية يشير فيها فيكتو ويلفت الإنتباه إلى المظالم التي لم يتحرر منها المعذبون في الأرض بأسماءٍ واهية لا ظل لها حسب ما يرى باسم النظامِ أحيانا , وباسم العدالة, والاخلاق, و الشعب دائماً. وتأتي الرواية في جانب كبير منها بأحداث تاريخية أرادها صاحبها معرضاً لأفكاره الديمقراطية ونزعاته التحررية ليس على صعيد فرنسا وحدها وإنما أوروبا بكلها في حقبة تاريخية هامة ؛ وأن تأتي كأناشيد الحرية وسمفونية التقدم البشري ضد العرق والدم والدمع ويقول هو في ذلك :"إذا حدث وأعقت مجرى الدم فِي شريان فستكون النتيجة أن يصاب الإنسان بالمرض ؛وإذا أعقت مجرى الماءِ في نهر فالنتيجة هِي الفيضان ،وإذا أعقت الطريق أمام المستقبل فالنتيجةُ هِي الثورة" ويشير إلى الغاية من كل ثوراته ألا وهو تحقيق إنسانية الإنسان وإقامة المجتمع الأمثل,ولعل أروع صفحاتها تلك التي صور فيها شخصية الأسقف ميرييل , وآلام فانتين وهي ما تفتؤ تؤمن لابنتها حياة غير التي عاشت , وفرار جان فالجان وخوفه من اكتشافه, و معركة واترلو, وثورة عام 1832م, بل لعل أروع ما فيها قلب هيجو الكبير النابض من وراء كل كلمة من كلماتها, وكل فكرة من فكراتها, وشاعريتها العارمة الخيرة التي تتخطى الحدود, ولا تعرف هدفاً غير المحبة و العدل, والخير العام!

يصف لنا فيكتو في "البؤساء" شخصيات روايته بأروع وصف ويبرهرنا أيما إبهار يبدأ روايته بشخصةٍ مثلها هيجو كمثال للرحمةِ والمثالية والجمال في أسقفٍ طيبٍ يدعى " مونسينيور بيينفيو", أو مسيو ميرييل الذي يحول كل أمواله التي اكتسبها من عمله كراعي دين مسيحي إلى أعمال الخير كالوعظ والإرشاد والصدقة وهذه الشخصيةكانت النقطة الأساسية التي استمد منها "جان فلجان" بطل الرواية إيمانه بالله و بالخير والعدالة الإلهية بعد أن كفر بكل شيء في سجنه.
في أحد الفصول الخاصة بمسيو ميرييل, يلفت هيجو النظر إلى حديث حول شحص محكوم بالإعدام اذ اضطر ميسو ميرييل أن يعظ الرجل المحكوم عليه بالاعدام ؛وهنا يريد فيكتو أن يجعل حادثة هذا الرجل منارة ضد حكم الإعدام بشكل عام, وبالمقصلة بشكل خاص, التي حزت رؤوس شخصيات كماري أنطونيت ولويس السادس عشر مشيرا إلى عهد الإرهاب الثوري الفرنسي داعيا دعوة صريحة إلى ترك هذا الحكم للمتصرف الوحيد وهو الله .
يحلل لنا بعد ذلك فيكتو هيجو شخصية البطل "جان فلجان" ساردا حكايته برمتها ،من السرقة لإطعام أبناء أخته إلى السجن و الإلحاد و الخروج من السجن وإيقاظ الإيمان في قلبه بعد أن انهار وكيف أن البؤس والظلم والعذاب النفسي والجسدي في السجن لم يطفيء شمعة الخير من قلبه ؛ بالرغم من أن المجتمع لم يقف معه حتى بعد خروجه من السجن إلا أن بذرة الخير في قلبه كانت أقوى من الإنتقام الذي يعشعش في صدره ؛ ويطرح لنا فيكتو أسئلة عميقة حول العدالة والإنسانية على لسان بطله ويلفت انتباهنا كذلك إلى أن كل نفس إنسانية تحتاج من يقومها ويدعوها للخير وينتشلها من الظلام كما فعل الأسقف كع جان فلجان وأقتبس من ذلك صراخ الأسقف في وجه جان فلجان : "يا أخي ! أنت لم تعد ملكاً للشر, ولكن ملكاً للخير. وإني إنما أشتري نفسك, أنا أنتزعها من الأفكار السوداء, ومن روح الهلاك وأقدمها إلى الله ", يأتي بعد ذلك الكاتب مبينا التحول الدراماتيكي الخطير في نفسية هذا البطل وهو ينتبه إلى المبلغ القليل الذي أخذه من صفل بائس سهوا منه فيصيبه ذلك بالبؤس قائلا :" أنا رجل بائس! " ؛وتعاوده كلمات الأسقف بعد ذلك لينتزع نفسه وليكتشفها بعد كل ذلك العمر الذي ضاع منه وهو حاقد على الآخرين ؛ فيحاول أن يصلح نفسه ويبحث عن "جرفيه" الصغير الذي سرق منه ماله بدون قصد ؛ ويرى نفسه وجها لوجه ؛وتتحرك فيه كل صور الخير ومن هنا تبدا الرواية ومسيرة جان فالجان اذ كان الأسقف هو أول مساحة بيضاء يقابلها أما الثانية فكانت "كوزيت", اذ أن الأسقف فجر فيه الفضيلة وجاءت "كوزيت" وفجرت فيه الحب !

شخصيات الرواية لم تنتهي حتى الآن كما هو معروف. هناك شخصيات تستحق أن يسلط الضوء عنها أكثر, ومنها شخصية المفتش "جافير",وهو شخصية لم تكن تقل بؤسا عن جان فلجان رغم طبيعته الدكتاتوية هذا الرجل العنيد ولد في سجن, وكانت أمه عرافه وأبيه من المحكوم عليه بالأشغال الشاقة وترعع خارج نطاق المجتمع وأن المجتمع يفعل معه ذات الفعل مع جان فلجان في اغلاقه الباب كل الأبواب أمامه ؛ مما كون لديه شخصيتين ازدواجيتين متطرفيتن
بعد أن حرر جان فالجان المفتش جافير من قبضة الثوار, واضطر الأخير أن يطلق سراح جان فلجان تفجر بؤس جافير المكتوم في أول الرواية, ولم ينتهي كما في الزمن الروائي إلا بعد عشرين سنة من مطاردته لجان فالجان! ؛ يبين لنا فيكتو هنا ذلك النوع من الشخصيات الفاقدة لليقين وأن يجد نفسه فجأة بين جريمتين, جريمة إطلاق سراح رجل, وجريمة إلقاء القبض عليه. نشأ في نفسه نظام كامل مؤلف من حقائق غير معلومة, ولقد لمح في الظلام كما يقول هيجو الإشراق الرهيب لشمس أخلاقية مجهولة.
الشخصيات السابقة كانت تمثل جيل الرجال الذين حط من قدرهم بالفقر أما النساء وتحطيم كرامتهم بالجوع تبرز لنا شخصية "فانتين" وهي بالأصل لقيطة، أغراها شاب غني وتركها، وأنجبت طفلة اسمها كوزيت، واضطرت بذلك إلى بيع جسدها وكرامتها ولكنها أرادت أن تتخلص من كل هذه القذارة وتركت ابنتها كوزيت عند أسرة تملك فندقاً صغيراً، واسم هذه الأسرة تيناردييه مقابل مبلغ من المال ؛ ظننا منها أن هذا أسلم لإبنتها وأحفظ ؛إلى أن تلك الأسرة لم تدخر جهدا في إيذاء كوزيت ؛ يسوق القدر فانتين لتعمل في مصنع للأب مادلين ، الذي عرف بكرمه ونبله وقوته الجسدية التي ذكرت جافير مفتش الشرطة برجل هرب على يديه من السجن وهو بطلنا جان فلجان ؛ هنا تكتشف إدارة المصنع حياة فانتين السابقة وتطردها دون علم الأب مادلين ، وعندما التقى بها، وعد بتقديم المساعدة لها لكي تصبح امرأة فاضلة، وطلب إعادة كوزيت إليها، إلا أنّ أسرة تيناردييه، ماطلت في التخلي عن كوزيت، لأنها وجدت فيها مصدراً للرزق.‏
وفانتين في عمل فيكتو هي رمز للمجتمع الذي يبذل كرامته مقابل كسرة خبز وإن بؤس فانتين لم يكن لأسباب مادية وحسب كما تشير الرواية بل هي أعمق من ذلك ؛ففانتين لم تتحمل نظرات إبنتها ولذلك أثمت وهذا هو السبب الذي من أجله يغفر الله لها كما تقول قبل وفاتها. بهذه الطريقة يصبح البشر ملائكة, إنها ليست خطيئتهم على الإطلاق كما يقول هيجو. إنهم لا يعرفون كيف يبدأون على نحو آخر. إن هذا الجحيم الذي خرجت منه فانتين بعد أن تعرفت على مسيو مادلين أو بمعنى أصح جان فالجان, هو الخطوة الأولى نحو الجنة.

" ما الشيء الرخيص اليوم؟
كل شيء غالٍ. ليس من شيء رخيص غير آلام الناس.
إن آلام الناس مجانية! فانتين اقتربت من القداسة من خلال الألم العظيم "

كل هذه المعاني التي حملتها هذه الملحمة وكل هذه القيم الأخلاقية في كل شخصية من شخصياتها ؛ كلها ساهمت في تخليد هذا العمل وجعله في مصاف التاريخ .
أرى أن :
هذا العمل الكبير "البؤساء" وهذه الرائعة الحرية بالقراءة والتمعن؛ تطرقت إلى أبعاد كثيرة أذكر منها: 1) استند فيكتو هيجو إلى نقطة مركزية ساقها على لسان أبطاله ألا وهي الإيمان بالله وتطرق لمشكلة الإلحاد فالله حسب تصوير فيكتو هيجو المثل الأعلى والمطلق واللانهائي وأن الملحدين من منظوره إنما أبعدتهم الظروف عن الله وما يلبثون أن يعودون إليه بأنفسهم أن نفسهم الخيرة ستقودهم إلى ربهم.

2) الموت عند هيجو ليس انهيارا وانتهاءا وإنما عودة الأمور إلى أصلها وكمالها المطلق وهو صعود كل بائس وكل من عاش إلى الطبقة العليا صعودا مقدسا كما عبر عنه بالكلمات التي كتبت على قبر بطله جان فلجان .


الساعة الآن 01:10 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها

a.d - i.s.s.w