منتديات حصن عمان - شرح سورة فاطر للصف الثاني عشر
منتديات حصن عمان

منتديات حصن عمان (http://www.hesnoman.com/vb/index.php)
-   اللغة العربية (http://www.hesnoman.com/vb/forumdisplay.php?f=70)
-   -   شرح سورة فاطر للصف الثاني عشر (http://www.hesnoman.com/vb/showthread.php?t=30942)

ملاك الشرق 06-03-2010 10:42 PM

شرح سورة فاطر للصف الثاني عشر
 

هدف السورة : الاستسلام هو سبيل العزّة

سورة فاطر مكيّة نزلت قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم . الاستسلام هو كمال الطاعة والاستسلام ليس مذلة وإنما هو عزّ فالعبودية للبشر ذلُ وصغار والعبودية لله تعالى رفعة وعزّ، فالعزّة تبدأ بالاستسلام لله تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) آية 10، والناس مهما كانوا وتعاظموا هم الفقراء والله تعالى هو الغني (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) آية 15.
ثم تتحدث آيات كثيرة في السورة (الآيات 1، 2، 3، 9، 11، 12، 13، 27، 28، 41، 44) عن آيات الله تعالى في الكون ودلائل القدرة والسيطرة على هذا الكون الفسيح وكأنما في هذا تأكيد أن الاستسلام لخالق هذا الكون وما فيه ومن فيه لا يمكن أن يكون ذلاً أبداً إنما هو عزُ ما بعده عز أن أستسلم وأخضع لمن خلق السموات والأرض وخلق الأكوان والخلق والكائنات على اختلافها وكل هذه المخلوقات تشهد بعظمة الخالق وتنطق بعظمة الواحد القهّار فتبارك الخالق رب العالمين. وأن كان أحدنا يستسلم لرأي طبيبه ويرى أنه هو الصواب وعليه أن ينفّذ التعليمات كما وصفها وهو بشر لا يملك أن يضر أو ينفع إلا بإذن الله ولا أسأله ما الحكمة من وراء هذا العلاج بالذات أخضع لأمره دون مناقشة ثم أعترض على خالق الخلق بأن لا أستسلم بالكلّية لأوامره وهو القدير الحكيم العليم؟ يا لجهالة البشر بخالقهم وصدق تعالى (وما قدروا الله حق قدره)
سميّت السورة بـ (فاطر) لذكر هذا الاسم الجليل في طليعتها لما يحمل هذا الوصف من دلائل الإبداع والإيجاد من عدم ولما فيه من التصوير الدقيق الذي يشير لعظمة الله وقدرته الباهرة وخلقه المبدع في هذا الكون.
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة فاطر مكية نزلت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تسير في الغرض العام الذي نزلت من أجله الآيات المكية، والتي يرجع أغلبها إلى المقصد الأول من رسالة كل رسول، وهو قضايا العقيدة الكبرى "الدعوة إلى توحيد الله، وإِقامة البراهين على وجوده، وهدم قواعد الشرك، والحثّ على تطهير القلوب من الرذائل، والتحلي بمكارم الأخلاق".
* تحدثت السورة الكريمة في البدء عن الخالق المبدع، الذي فطر الأكوان، وخلق الملائكة والإِنس والجان، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث والنشور، في صفحات هذا الكون المنظور، بالأرض تحيا بعد موتها، بنزول الغيث، وبخروج الزروع والفواكه والثمار، وبتعاقب الليل والنهار، وفي خلق الإِنسان في أطوار، وفي إيِلاج الليل في النهار، وغير ذلك من دلائل القدرة والوحدانية.
* وتحدثت عن الفارق الكبير بين المؤمن والكافر، وضربت لهما الأمثال بالأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور.
* ثم تحدثت عن دلائل القدرة في اختلاف أنواع الثمار، وفي سائر المخلوقات من البشر والدواب والأنعام، وفي اختلاف أشكال الجبال والأحجار، وتنوعها ما بين أبيض وأسود وأحمر، وكلها ناطقة بعظمة الواحد القهار.
* وتحدثت بعد ذلك عن ميراث هذه الأمة المحمدية لأشرف الرسالات السماوية، بإِنزال هذا الكتاب المجيد الجامع لفضائل كتب الله، ثم انقسام الأمة إلى ثلاثة أنواع: "المقصِّر، والمحسن، والسابق بالخيرات".ثم تذكر الآيات مآل الأبرار والفجّار، ليظل العبد بين الخوف والرجاء والرغبة والرهبة.
* وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام والأحجار.
التسميــَة :
سميت "سورة فاطر" لذكر هذا الاسم الجليل، والنعت الجميل في طليعتها، لما في هذا الوصف من الدلالة على الإِبداع والاختراع والإِيجاد لا على مثالٍ سابق، ولما فيه من التصوير الدقيق، المشير إلى عظمة ذي الجلال، وباهر قدرته، وعجيب صنعه، فهو الذي خلق الملائكة وأبدع تكوينهم بهذا الخلق العجيب.
( فطر الشئ أي أنشأه على غير مثال)
.................................................. .................................................. .................................................. ............
موضوع الآيات (إثبات وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية/ صور من كتاب الكون المفتوح)

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)}
معاني الكلمات :
ألم تر: ألم تعلم نْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً : أنزل المطر بقدرته. ثمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا : أنواع من النباتات والثمار والفواكه المختلفة الأشكال والألوان.جُدد : ذات طرائق وخطوطٍ مختلفة الألوان، وهي التي تتراءى على هيئة خطوط منفصل بعضها عن بعض( ج : جـُـدَّة)، وجدد بيض : أي مختلفة البياض. حمر مختلف ألوانها : حمر مختلفة في حمرتها.وغرابيب سود:جبال سود متناهية في السواد كالأغربة(ج : غراب). والدواب)ج : دابة)ويطلق على ما يركبه الإنسان من الحيوان، وغالبا ما يطلق على الحيوان.الأنعام : الإبل البقر والغنم . (نَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ):العلماء أكثر خشية لله من غيره؛ لأنهم يعرفون الله حقَّ معرفته .(اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) : غالب على كل شئ يغفر لمن يشاء من عباده.
المناسبة :

ما زالت الأدلة تتظافر ، فبعد أن ضرب الله الأمثلة على أهل الإيمان وأهل الكفر بأدلة واضحة مشاهدة حتى قيام الساعة، ساق دليلاً آخر على وحدانيته وقدرته ، وذكر العلماء لأنهم هم الذين يعقلون هذه الأدلة فيقدرون الله حق قدره .
التفسير الإجمالي :
يعرض الله تعالى شيئاً من مخلوقاته وقدرته في كتاب الكون المفتوح
*فيذكر تعالى خلقه للأشياء المتضادات، التي أصلها واحد، ومادتها واحدة، وفيها من التفاوت والفرق ما هو مشاهد معروف، ليدل العباد على كمال قدرته وبديع حكمته.
*فمن ذلك : أن اللّه تعالى أنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات المختلفات، والنباتات المتنوعات، ما هو مشاهد للناظرين، والماء واحد، والأرض واحدة.
*ومن ذلك : الجبال التي جعلها اللّه أوتادا للأرض، تجدها جبالا مشتبكة، بل جبلا واحدا، وفيها ألوان متعددة، فيها جدد بيض، أي : طرائق بيض، وفيها طرائق صفر وحمر، وفيها غرابيب سود، أي: شديدة السواد جدا.
*ومن ذلك : الناس والدواب، والأنعام، فيها من اختلاف الألوان والأوصاف والأصوات والهيئات، ما هو مرئي بالأبصار، مشهود للنظار، والكل من أصل واحد ومادة واحدة.
فتفاوتها دليل عقلي على مشيئة اللّه تعالى، التي خصصت ما خصصت منها، بلونه، ووصفه، وقدرة اللّه تعالى حيث أوجدها كذلك، وحكمته ورحمته، حيث كان ذلك الاختلاف، وذلك التفاوت، فيه من المصالح والمنافع، ومعرفة الطرق، ومعرفة الناس بعضهم بعضا، ما هو معلوم.
وذلك أيضا، دليل على سعة علم اللّه تعالى، وأنه يبعث من في القبور، ولكن الغافل ينظر في هذه الأشياء وغيرها نظر غفلة لا تحدث له التذكر، وإنما ينتفع بها من يخشى اللّه تعالى، ويعلم بفكره الصائب وجه الحكمة فيها.
ولهذا قال : " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " فكل من كان باللّه أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية اللّه، الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية اللّه، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى:"رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ"
" إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ " كامل العزة، ومن عزته خلق هذه المخلوقات المتضادات.
" غَفُورٌ " لذنوب التائبين.
مواطن البلاغة في الآيات:
1.إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب . لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها . في الثمرات . وفي الجبال . وفي الناس . وفي الدواب والأنعام . لفتة تجمع في كلمات قلائل ، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعاً؛ وتدع القلب مأخوذاً بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعاً .
2.ذكر ألوان الدواب والأنعام . والدواب أشمل والأنعام أخص . فالدابة كل حيوان . والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز ، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان .
*في الآية الأولى التفات من الغيبة إلى التكلم لبيان كمال العناية بالفعل.
*(ألم ير أن الله أنزل من السماء)استفهام غرضه التقرير والإثبات، والمخاطب هو الرسول- صلى الله عليه وسلم- واستخدم ( فأخرجنا) بدل (أخرج)لبيان كمال العناية بالفعل.

*(فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها)أنواع من النباتات والفواكه مختلفة الأشكال والألوان والطعوم ، قال الزمخشري : مختلف أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يُـحصرا وهيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة.
*(ومن الجال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها) طرائق- مختلفة الألوان-بيض مختلفة البياض-وحمر مختلفة في حمرتها.
*( وغرابيب سود) أي وجبال سود شديدة السواد كالغربان. والأصل: جبال سود ٌ غرابيب، فقدم الوصف الأبلغ وكان حقه التأخير.للتأكيد وبيان قدرة الله عزوجل.
*( ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك) أي خلق من الناس والدواب

*(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) أسلوب قصر ب(إنما) وفيه تقديم، حيث قصر صفة الخشية على العلماء ( قصر صفة على موصوف)، وقدّم المفعول به(لفظ الجلالة الله) على الفاعل(العلماء) للتأكيد والاهتمام(سبب القصر لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه.). ولمَ كان العلماء أكثر خشية ً لله من غيرهم؛ لأن العلماء أكثر عباد الله إدراكًـا لعظمة الخالق – عزوجل- من خلال ما يرونه من أدلة وبراهين مؤكدة لذلك، فكانت المعرفة لله أتم ، والمعرفة به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.
*" إنما يخشى الله من عباده العلماء " مستأنفة عن جملة " كذلك ". وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون.
*والقصر المستفاد من " إنما " قصر إضافي ، أي لا يخشاه الجهال ، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية، أي عدم العلم؛ فالمؤمنون يومئذٍ هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله. ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتاً كثيراً .
*وجملة " إن الله عزيز غفور " تكميل للدلالة على استغناء الله تعالى عن إيمان المشركين ولكنه يريد لهم الخير. ولما كان في هذا الوصف ضرب من الإِعراض عنهم مما قد يحدث يأساً في نفوس المقاربين منهم، أُلِّفَتْ قلوبهم بإتباع وصف " عزيز " ، بوصف " غفور " أي فهو يقبل التوبة منهم إن تابوا إلى ما دعاهم الله إليه على أن في صفة " غفور " حظاً عظيماً لأحد طرفي القصر وهم العلماء، أي غفور لهم.

طريق الخشية هو العلم، العلم ثمرته الخشية، العلم بلا خشية كالشجر بلا ثمر، والعلاقة بين العلم والخشية طردية : كلما نما العلم نمت الخشية

.................................................. ....

موضوع الآيات : حال المؤمنين مع ربهم

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31))
المناسبة :
ومن كتاب الكون المفتوح ينتقل الحديث إلى الكتاب المنزل ، والذين يتلونه ، وما يرجون من تلاوته ، وما ينتظرهم من جزاء .وذكر الله تعالى في المقطع السابق عباده العلماء الذين يخشونه أحق خشية ، لمعرفتهم به من خلال أسماءه وصفاته ، ومن خلال خلقه وإبداعه ناسب هنا أن يذكر حال المؤمنين الذين يتلون كتاب الله ويرجون الله رحمته ومغفرته ويطمعون في جنته وان يدخلهم إياها برحمته.

معاني الكلمات :
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ : وتلاوة كتاب الله تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت . تعني تلاوته عن تدبر ، ينتهي إلى إدراك وتأثر ،وإلى عمل بعد ذلك وسلوك.
وأقاموا الصلاة : بمعنى ويُقيمون،وهو إِدامتها لمواقيتها وحدودها .

يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ : قال المفسرون : والمعنى : يرجون بفعلهم هذا تجارة لن تفسُد ولن تَهْلِك ولن تَكْسُد ، من قولهم بارت السوق إذا كسدت ، وقولهم بار الطعام .
( تجارة لن تبور) : لن تكسد وتفسد،أي لن تهلك. يُوَفِّيَهُمْ : يعطيهم ثواب ما عملوا من الصالحات.وَيَزِيدَهُمْ :يزيدهم فوق أجورهم من إنعامه وإحسانه.غَفُورٌ : مبالغ في الغفران لأهل القرآن.شَكُور: شاكر لطاعتهم.
الشَّكور ، فقال الخطّابي : هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة ، فيُثيب عليه الكثير من الثواب ، ويُعطي الجزيل من النِّعمة ، ويرضي باليسير من الشُّكر.
الكتاب : هو القرآن الكريم. هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ : هو الحق الذي لا ريب في صدقه، وهو مصدق لما سبقه من الكتب كالإنجيل والتوراة. لَخَبِيرٌ بَصِير:لمحيط ببواطن أمورهم لا يخفى عليه شئ من شؤونهم.
المعنى الإجمالي :
يقول تعالى ذكره : إن الذين يقرؤون كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ويقيمون حدوده ، ويؤمنون بمتشابهه ويعملون بمحكمه ، ويقيمون الصلاة المفروضة لمواقيتها بحدودها. وينفقون مما رزقهم الله سراً في الخفاء كصدقات التطوع ، وينفقون علانية كالزكاة المفروضة فإنهم يبتغون ويرجون من الله بفعلهم ذلك " تِجارَةً لَنْ تَبُورَ " ولن تكسد ولن تهلك و " لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ " على فعلهم ذلك ثواب أعمالهم التي عملوها في الدنيا " وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ " وعطاءه الدائم المنقطع النظير .

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)

يذكر تعالى أن الكتاب الذي أوحاه إلى رسوله " هُوَ الْحَقُّ " من كثرة ما اشتمل عليه من الحق، كأن الحق منحصر فيه، فلا يكن في قلوبكم حرج منه، ولا تتبرموا منه، ولا تستهينوا به، فإذا كان هو الحق، لزم أن كل ما دل عليه من المسائل الإلهية والغيبية وغيرها، مطابق لما في الواقع، فلا يجوز أن يراد به ما يخالف ظاهره وما دل عليه.
" مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ " من الكتب والرسل، لأنها أخبرت به، فلما وجد وظهر، ظهر به صدقها. فهي بشرت به وأخبرت، وهو صدقها، ولهذا لا يمكن أحدا أن يؤمن بالكتب السابقة، وهو كافر بالقرآن أبدا، لأن كفره به، ينقض إيمانه بها، لأن من جملة أخبارها الخبر عن القرآن، ولأن أخبارها مطابقة لأخبار القرآن.
" إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ " فيعطي كل أمة وكل شخص، ما هو اللائق بحاله. ومن ذلك، أن الشرائع السابقة لا تليق إلا بوقتها وزمانها، ولهذا، ما زال اللّه يرسل الرسل رسولا بعد رسول، حتى ختمهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فجاء بهذا الشرع، الذي يصلح لمصالح الخلق إلى يوم القيامة، ويتكفل بما هو الخير في كل وقت.

التجارة مع الله رابحة بكل المقاييس :
في الحقيقة : التجارة أن تنفق شيئاً ، وتأخذ أكثر منه ، التجارة مهما تنوعت فهناك رأس مال ، وهناك مبيع ، والفرق بينهما هو الربح ، فأنت في الدنيا تتاجر مع الله ، والله جل في علاه يحب أن تتاجر معه ، وأن تربح عليه ، لكنك في تعاملك مع الله لا تربح الربح القانوني الذي يربحه التجار ، بل تربح مع الله أضعافاً مضاعفة ، حينما ترى مقامك في الجنة ترى أن هذا المبيع لا يتوازن أبداً مع ثمن الشراء ، الذي بذلته في الدنيا لا يتناسب أبداً مع العطاء في الآخرة ، إنه ألوف ملايين الأضعاف ، لذلك المؤمن من علامات خجله أنه يعرق حينما يرى مقامه عند الله عز وجل ، ماذا فعل ؟
بالتجارة تشتري بمائة وتبيع بمائة وخمسين مثلاً ، أو مائتين ، وهو ربح فاحش ، أو بثلاثمائة بالألف ، لكنك مع الله عز وجل الربح أضعاف مضاعفة.

اجتماع صفة الخبرة والبصر في الله تعالى :
خبير بهم ، وبصير بأحوالهم ، هناك خبير غير بصير ، وبصير غير خبير ، لكن اجتماع الخبرة مع البصر في الله عز وجل شيء عظيم ، خبير وبصير ، فكم من خبير ليس بصيراً ، فيتلاحى الرجلان : أنت لم تقل لي ، لماذا لم تقل لي ؟ أنك لست بصيراً ؟ وكم من بصير ليس بخبير ، شاهدت لكن لا أعرف أن هذا الشيء خطير ، هناك من يرى ، وليس عنده خبرة ، وهناك من عنده خبرة ، وعلمه محدود لا يرى ، طبيب في بيته وأخوه في منزل آخر قد ارتفع ضغطه مثلاً ، فالطبيب خبير ، لكن ليس بصيراً ، يقول الطبيب : لماذا لم تخبرني يا أخي ؟ مادام ضغطك بهذا المستوى أخبرني ، فقد تجد الخبير ليس بصيراً ، وقد تجد البصير ليس خبيراً ، لكن الله جل في علاه خبير وبصير .


(إنَّ الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) في الآية ذكر وتفصيل لصفات هؤلاء الذين يخافون الله ويرجون رحمته. فمن صفات هؤلاء:
1-المداومة على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار.
2- أداء الصلاة على الوجه الأكمل في أوقاتها بخشوعها وآدابها وشروطها وأركانها.
3- إنفاق بعض أموالهم في سبيل الله وإبتغاء رضوانه في السر والعلن.
4- يرجون بعملهم تجارة لن تكسد وتهلك وتخسر.
مواطن الجمال في الآيات :

*(سرا وعلانية) طباق
*في قوله تعالى : ( يرجون تجارة لن تبور) : استعارة تصريحية(شبه العمل الصالح بالتجارة وحذف المشبه وصرح بالمشبه به).
*وقوله تعالى : ( لن تبور )لتأكيد نفعها وربحها وعدم خسرانها وضياعها...إلى.
*وقوله تعالى : ( ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) أي يعطيهم الله تعالى جزاء ما عملوا وافيا ويزيدهم فوق أجورهم من فضله وإنعامه.
*وقوله تعالى : ( تجارة لن تبور ) ، وقوله : ( غفور شكور) توافق في الفواصل يزيد الكلام رونقـا وجمالا.
*(إنه غفور شكور) جملة مؤكدة ب" إنَّ " تدل على أنَّ الله تعالى مبالغ ٌ في الغفران لأهل القرآن شاكرٌ لطاعتهم.

*( مصدقا لما بين يديه)أي حال كونه مصدقا لما سبقه من الكتب الإلهية المنزلة كالتوارة والإنجيل والزبور، وفي الآية إشارة إلى كونه وحيـًّا؛ لأنه عليه السلام والصلاة لم يكن قارئا و لا كاتبا وأتى ببيان ما في الكتب السابقة، ولا يكون ذلك إلا من الله. *(إن الله بعباده لخبير بصير) جملة مؤكدة ب"إنَّ" واللام ، وتدل على أن الله تعالى خبير بعباده محيط ببواطن أمورهم وظواهرها ، فلا يخفى عليه خافية من شؤونهم.
*(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عباده) أي أورثنا هذا القرآن العظيم الكتاب المعجز الخالد لأفضل الأمم وهم أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.
.................................................. ................. .................. .................
موضوع الآيات : فوز المؤمنين بالإرث والجنة/(تصديق القرآن للكتب السابقة، وأنواع ورثته، وجزاء المؤمنين)

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35))

المناسبة :
بعد أن بين الله تعالى أن هذا الكتاب هو القرآن الكريم الحق مصدقاً لما بين يديه ، وأن الله تعالى أعلم بمن يتلوه حق تلاوته ، بين أن أولئك من عباده استحقوا الفوز والفلاح فأورثهم الكتاب ، وبتمسكهم به ، وتطبيقهم أحكامه وإمتثالهم أوامره استحقوا دخول الجنة بل جنات عدن .

معاني الكلمات :

ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ : أي جعلنا القرآن ميراثا لهم. الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا: الذين اخترناهم من عبادنا من أمة محمد- عليه الصلاة والسلام-وهم الأبرار السعداء.ظالم لنفسه : رجحت سيئاته على حسناته. المقتصد : المتوسط المؤدي للواجبات ، التارك للمحرمات لكنه قد يترك بعض المستحبات ، ويفعل بعض المكروهات . السابق بالخيرات بإذن الله : هو الذي يفعل الواجبات والمستحبات ، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات ، وهذا خير الثلاثة ، الذي سبق غيره فيأمور الدين . ذلك: المشار إليه : أي الاصطفاء وتوريثهم الكتاب. الفضل الكبير: الفضل والشرف العظيم الذي لا يدانيه شرف. يحلون فيها : أي يزينون فيها.أساور)ج : سوار)والسـِـوار: حلية من الذهب مستديرة كالحلقة تلبس في المعصم أو الزند(ج : أسورة وأساور)و المقصود ب( يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا) أي يرينون في الجنة بأساور من ذهب مرصعة باللؤلؤ. اللؤلؤ: الدُّر: وهو ما يتكون في الأصداف من رواسب أو جوامد صلبة لمّاعة مستديرة في بعض الحيوانات المائية كالرخويات،(م:لؤلؤة)..الحَـزن: كل ما يُعكر صفو الإنسان، من فقر ومرض، وأهوال القيامة، وعذاب النار.غفور شكور: واسع الغفران، عظيم الشكر والإحسان،أي : واسع المغفرة للمذنبين، شكور لطاعة المطيعين.
أحلنا دار المقامة : جعلها مقر لنا(أنزلنا الجنة وجعلها سكنا لنا )و دار الإقامةِ الدائمة( الجنة) العدن : "الإقامة" فجنات عدن أي : جنات إقامة، أضافها للإقامة، لأن الإقامة والخلود وصفها ووصف أهلها.. لا يمسنا : لا يصيبنا.. نصبٌ : تعب ومشقـّة. لغوب : إعياء من التعب وفتور.

المعنى الإجمالي :

قال تعالى : " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا " فلما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا وأحسنهم أفكارا ، وأرقهم قلوبا، وأزكاهم أنفسا ، اصطفاهم الله تعالى ، واصطفى لهم دين الإسلام ، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب ، فهم هذه الأمة. " فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ " بالمعاصي، التي هي دون الكفر. " وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ " مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. " وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ " أي : سارع فيها واجتهد، فسبق غيره ، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى ، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم ، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه ، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان ، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب ، وراثة علمه وعمله ، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه.
وقوله " بِإِذْنِ اللَّهِ " راجع إلى السابق إلى الخيرات ، لئلا يغتر بعمله ، بل ما سبق إلى الخيرات إلا بتوفيق اللّه تعالى ومعونته ، فينبغي له أن يشتغل بشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه .
" ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ " أي : وراثة الكتاب الجليل ، لمن اصطفى تعالى من عباده، هو الفضل الكبير، الذي جميع النعم بالنسبة إليه ، كالعدم ، فأجل النعم على الإطلاق ، وأكبر الفضل، وراثة هذا الكتاب.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33))

ثم ذكر جزاء الذين أورثهم كتابه فقال: " جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا " أي جنات مشتملات على الأشجار، والظل، والظليل، والحدائق الحسنة، والأنهار المتدفقة، والقصور العالية، والمنازل المزخرفة، في أبد لا يزول، وعيش لا ينفد. وهي جنات الإقامة ، ويحلون فيها بالذهب
" يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ " وهو الحلي الذي يجعل في اليدين، على ما يحبون، ويرون أنه أحسن من غيره، الرجال والنساء في الحلية في الجنة سواء.
" و " يحلون فيها " لُؤْلُؤًا " ينظم في ثيابهم وأجسادهم. " وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ " من سندس، ومن إستبرق أخضر.

(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34))

وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا غفور شكور " : أي وقالوا حين استقروا في مأواهم جنات عدن الحمد والشكر والثناء على الله الذي أزال عنا الخوف من المحذور –وهذا يشمل كل حزن ، وأراحنا من هموم الدنيا والآخرة - فهم في نعيم ما يرون عليه مزيدا، وهو في تزايد أبد الآباد-إن ربنا صاحب الفضل والرحمة والسعة ، فهو غفور لذنوب عباده ، وشكور لطاعتهم ، فبمغفرته نجوا من كل مكروه ومرهوب، وبشكره وفضله حصل لهم كل مرغوب محبوب.

(الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

ثم حمدوه أيضاً على نعمة البقاء والاستقرار في الجنة والراحة فيها فقال " الَّذِي أَحَلَّنَا " أي : أنزلنا نزول حلول واستقرار، لا نزول معبر واعتبار. " دَارَ الْمُقَامَةِ " أي : الدار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدوراتها، وذلك الإحلال " مِنْ فَضْلِهِ " علينا وكرمه، لا بأعمالنا، فلولا فضله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
" لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ " أي : لا تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى، ولا في كثرة التمتع، وهذا يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة، ويهيئ لهم من أسباب الراحة على الدوام، ما يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نصب ولا لغوب، ولا هم ولا حزن.
ويدل على أنهم لا ينامون في الجنة، لأن النوم فائدته زوال التعب، وحصول الراحة به، وأهل الجنة بخلاف ذلك، ولأنه موت أصغر، وأهل الجنة لا يموتون، جعلنا اللّه منهم، بمنه وكرمه.
مواطن الجمال البلاغي في الآيات :
*( جنات عدن يدخلونها) للدلالة على الجزاء الحسن على ما قدموا، و"جنات" جمع للدلالة على كثرتها فهي مراتب ودرجات متفاوتة.

*(ولباسهم فيها حرير)أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من حرير، وليس أحد من أهل الجنة إلا في يده ثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ.
*( وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّـا الحزنَ) عبّر بالماضي " قالوا" لتحقق وقوعه، والحزن كل ما يكدر صفو الإنسان من خوف المرض، والفقر والموت،وأهوال القيامة، وعذاب النار، وغير ذلك.
*( إنَّ ربنا لغفور شكور) جملة مؤكدة بمؤكدين : إنَّ و اللام،و(غفور وشكور) صيغة مبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر.
( لا يمسنا فيها نصب) و( لولا يمسنا فيها لغوب):إطناب للمبالغة بتكرار الفعل " لا يمسنا".

*( فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد زمنهم سابق بالخيرات بإذن الله): قسم المولى سبحانه الذين اصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام ، وهم :
1-قسم ظالم لنفسه :
من هو مقتصر في عمله، يتلو القرآن و لايعمل به، أو العاصي ، قال الحسن البصري:( الظالم لنفسه من رجحت سيئاته على حسناته).
2- قسم مقتصد :
من هو متوسط في فعل الخيرات، يتلو القرآن ولا يعمل به في أغلب الأوقات ويقصر في بعض الأوقات.
3- قسم سابق بالخيرات بإذن الله :
سبَّاق العمل بكتاب الله" ومن رجحت حسناته على سيئاته.
وجميع أصحاب هذه الأقسام يدخلون الجنة.

.................................................. ........................................
موضوع الآيات (جزاء الكافرين وأحوالهم في النار)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39))
المناسبة :

بعد أن بين الله جزاء ورثة القرآن ، ذكر جزاء الكفار لأن المقارنة تبعث على النفس طمأنينة وإرتياحاً ، وليعرف المؤمنون أن فخار الكفار في الدنيا عليهم ينقلب عليهم حسرة يوم القيامة ، وأنه لا نصير لهم يوم ذاك . والله جعل الناس خلائف مستخلفة في الأرض ، فمن عتى وعصى وكفر فاستحق الغضب والخسار .

معاني الكلمات :
كفروا : جحدوا وكذبوا الرسل. لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا: لا يحكم عليهم بالموت فيستريحوا. وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا : لا يخفف عنهم العذاب بل هم في عذاب دائم مستمر .كفور : مبالغ في الكفر ، وهي صيغة مبالغة .
. يَصْطَرِخُونَ : يستغيثون ويصرفون بشدة. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا:ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا. غيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ:اعتراف بالسوء، أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل. نُعَمِّرْكُمْ : ألم نبقكم مدة من العمر . النَّذِيرُ : الرسول (عليه الصلاة والسلام) وقيل : النذير : الشيب. فَذُوقُوا:فذوقوا يا معشر الكفار. نَصِيرٍ:ناصرا ومعينا يدافع عنكم أو يدفع عنكم عذاب الله.عالم غيب السموات والأرض : أحاط علمه بما خفي في السموات والأرض. عليم بذات الصدور: يعلم مضمرات الصدور وما تخفيه من الهواجس والوساوس.وهم يصطرخون : يستغيثون ويصيحون بشدة. جعلكم خلائف: والخلائف : جمع خليفة ، وهو الذي يخلف غيره في أمرٍ كانَ لذلك الغير، وهنا خلفاء من كان قبلكم. مقتا : أشدَّ البُغض والغضب والاحتقار.خسارا : هلاكا وخسرانا.

التفسير الإجمالي :

لما ذكر تعالى حال السعداء ، شرع في بيان مآل الأشقياء ، فقال : " وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا " ، كما قال تعالى : " لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا ".
وثبت في صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أما أهل النار الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون" . قال الله تعالى : " وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ "الزخرف :77 . فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم، ولكن لا سبيل إلى ذلك، قال الله تعالى: " لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا " ، كما قال تعالى: " إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ " ، ثم قال: " كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ " أي: هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب بالحق.
وهم في تلك الحالة ينادون فيها، يجأرون إلى الله، عز وجل بأصواتهم يسألون الرجعة إلى الدنيا، ليعملوا غير عملهم : " رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ " ....
فيجيبهم رب العزة : "أولم نعمركم ما يتذكر من تذكر وجاءكم النذير " ألم نبقكم مدة من العمرة تتمكنون فيه من التذكر إذا أردتم التذكر ، ألم تأتكم رسلي لتنذركم لقاء يومكم هذا .
وقوله : " فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ "أي : فذوقوا عذابَ النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعماركم، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.

إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) فالله تعالى يعلم كل أمر خفي في السماوات والأرض ، ومنها اعمال العباد لا تخفى منها خافية ، وقد علم الرب، جل جلاله، أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون. فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم ، ولو رددتم لعدّتم إلى ما نهيتم عنه..

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)

فهو الذي جعلكم يخلف قوم قوماً آخرين قبلهم خلفاً بعد خلف ، وجيلاً بعد جيل ، لتنتفعوا بخيرات الأرض وتشكروا الله بالطاعة والتوحيد ، فمن كفر فعليه كفره ، "ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً " فكلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى ، وغضب عليهم ، وكلما أصروا على الكفر خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وأصابهم النقص والهلاك ،وهذا التكرار دليل على ان الكفر يستوجب أمرين هما البغض والخسران .

حال الأشقياء الكفار :
( والذين كفروا لهم نار جهنم)الذين جحدوا بآيات الله لهم نار جهنم جزاءً وفاقًـا على كفرهم.
( لا يقضى عليهم فيموتوا) لا يحكم عليهم بالموت حتى يستريحوا من عذاب النار.
(كذلك نجزي كل كفور) بمثل هذا العذاب الشديد نعاقب ونجازي كلَّ مبالغ في الكفر والعصيان.
(وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) أي وهم يتصارخون ويستغيثون في جهنم برفع أصواتهم قائلين: ربنا أخرجنا من النار وردّنا إلى الدنيا لنعمل عملا صالحا يقربنا منك، قال القرطبي : ( نؤمن بدل الكفر، ونطيع بعد المعصية، ونمتثل أمر الرسل).

مواطن الجمال في الآيات :
*كفور : صيغة مبالغة .
*يَصْطَرِخُونَ:وهو مبالغة في ( يصرخون ) لأنه افتعال من الصراخ وهو الصياح بشدة وجهد ، فالاصطراخ مبالغة فيه ، أي يصيحون من شدة ما نابهم .. أي : ينادون فيها، يجأرون إلى الله، عز وجل بأصواتهم.
*( مديدا يكفي لأن يتذكر فيه من يريد التذكر والتفكر، فماذا صنعتم؟ وما لكم تطلبون عمرا آخرا؟ والاستفهام غرضه( التوبيخ أو الإنكار).
*( جاءكم النذير) المقصود الرسول الخاتم، وقيل الشيب الذي ينذركم بقرب الموت.
*( فذوقوا فما للظالمين من نصير) أمر للتهديد والوعيد أو غرضه الإهانة، والأصل في الآية أن يكون السياق( فذقوا فما لكم من نصير) ، وإنما وضِـعَ الاسم الظاهر( الظالمين) بدل ( لكم) لتسجيل الظلم عليهم، وكأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصير أصلا من الله، و لا من العباد.
*(إنَّ الله عالمُ غيب السموات والأرض) جملة مؤكدة ب(إنَّ) تدل على أنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شئ في السموات والأرض.
*(إنه عليمٌ بذات الصدور)جملة مؤكدة ب( إنَّ)، وهي لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار؛لأنه تعالى يعلم أن تمكن الكفر في قلب الكافر يجعله لا يؤمن حتى ولو داوم في الدنيا إلى الأبد.
* (والخَسار) : مصدر خسر مثل الخسارة ، وهو : نقصان التجارة . واستعير لخيبة العمل؛ شبه عملهم في الكفر بعمل التاجر والخاسر ، أي الذي بارت سلعته فباع بأقل مما اشتراها به فأصابه الخسار فكلما زاد بيعاً زادت خسارته حتى تفضي به إلى الإِفلاس .
1.قوله تعالى : "رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ " بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به ، والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبون أنه صالح والآن تحقق لهم خلافه.
2.قوله تعالى : " أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير " جواب من الله وتوبيخ لهم و " مَّا يَتَذَكَّرُ " فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر ، وقيل ما بين العشرين إلى الستين . وعنه عليه الصلاة والسلام " العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة " والعطف على معنى " أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ " فإنه للتقرير كأنه قال : عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى الله عليه وسلم أو الكتاب ، وقيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب . " فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ " يدفع العذاب عنهم .
3.قوله تعالى : " قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله " يعني آلهتهم والإِضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء الله أو لأنفسهم فيما يملكونه .
4.قوله تعالى : " وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً " بيان له ، والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه
5." لا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور" ينتج من ذلك عدة لطائف
الأولى : عذاب الدنيا إن دام كثيراً يقتل ، فإن لم يقتل يعتاده البدن ، ويصير مزاجاً فاسداً متمكناً لا يحس به المعذب ، فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا ، إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن ، بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم .
الثانية : راعى الترتيب على أحسن وجه ، وذلك أن الترتيب أن لا ينقطع العذاب ، ولا يفتر فقال لا ينقطع ، ولا بأقوى الاسباب وهو الموت حتى يتمنون الموت لا يجابون كما قال تعالى : "ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك قال إنكم ماكثون"
الثالثة : " في المذبين أكتفى بأن يقول لا ينقضي عذذابهم ولم يقل نزيدهم عذاباً ، وفي المثابين ذكر الزيادة فقال : "ويزيدهم من فضله" ،
الذين كفروا لهم نار : أخبر عن نار جهنم بأنها للكافرين بذكره لام الاستحقاق في لهم ، للدلالة على أنها أعدت لجزاء أعمالهم لا لغيرهم. وكما أن اللام تفيد الملكية فقدمها على المسند اليه للتشويق الى ذكر المسند أليه حتى إذا سمعه السامعون تمكن من نفوسهم تمام التمكن .
6. يصطرخون : يستغيثون ، والاصطراخ افتعال من الصارخ استعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته .
7.الظالمين : الظلم هو مجاوزة الحد ، وهو الاعتداء على صاحب الحق ، وأعظمه الشرك لأنه إعتداء على الله بإنكار صفته النفيسة وهي الوحدانية ، وإعتداء المشرك على نفسه إذ أقحمها في العذاب قال تعال " إن الشرك لظلم عظيم"
8. " ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل : باحتمال القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غي الصالح والاعتراف به والإشعار بأن استخراجهم لتلافيه وأنهم كانوا يحسبونه صالاً والآن تبين خلافه
9." أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم ، والهمزة للإنكار والنفي ، والواف للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وما نرة موصوفة ، أي "ألم نمهلكم" أو ألم نؤخركم ، ولم نعمركم عمراً يتذكر فيه من تذكر .
10.قال تعالى : " إن اللَّه بعباده لخبير بصير " في هذا إيماء إلى أن الله يجازي كل ذي نية على حسب ما أضمره ليزداد النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً بأن الله غير عالم بما يكنه المشركون .
11.وجملة " هو الذي جعلكم خلائف في الأرض " معترضة بين جملة " إن الله عالم غيب السماوات والأرض " الآية وبين جملة " فمن كفر فعليه كفره "


الساعة الآن 04:20 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها

a.d - i.s.s.w