![]() |
عبدالعزيز الفارسي ,
أخائفٌ من الموت يا أبا هاجر ؟!! قصة فازت بالمركز الاول على مستوى الخليج بالعام المنصرم قبل الرحيل يمطرُ القلب وجعاً .. فلا تلمني إن هذى الغيم داخلي . نبوءة : يهديكم خالدُ السلامَ ، فقد عانق الغريبَ وهاجر . قبل يومين من رحيله ، كنا نتأملُ السُحب عبر حاجزٍ زجاجي مُلوّنٍ يفصلُ غرفة العزل بالمستشفى عن الخارج . لم يكن لون السماء أزرقنا المعهود ، لكننا تعودنا على هذا المزيج من الزرقة المشوبة بعتمة الحواجز . ضحك مشيراً بالسبابة والوسطى لسحابتين . ظهر زنده ناحلاً ، و قد اسودّت عروقه من أثر العلاج الكيماوي . سألته : " ما الذي يضحكك ؟! " . رد : " السحابة الأولى جاءت بالأمس لتحملني إلى السماء ، واكتشفتْ عدم اتساعها لروحي .. جاءت اليوم تجر السحابة الثانية الأكبر . أنظر .. أظنها كافية لروحي " . لم ألتفت إليه لحظتها ، علّمني الحديث عن الموت بجسارة دون البحث عن وقعه في العيون . وداعبته : " أنسيت أن روحي ملتصقة بروحك ؟! . لن تكفي السحابة " .. ابتسم بثقة : " صدقني ستكفي " . ثم صمتنا نتأمل منارات الجامع الأكبر مشوبة بعتمة الحواجز ! . فيروز البداية : كان بإمكانه أن يظل مريضاً عادياً بالنسبة لي . " رجلٌ في الأربعين من عمره أصيب بسرطان الدم ودخل المستشفى ليأخذ العلاج الكيماوي " . هكذا كنتُ سأتحدثُ لو لم أدخل عليه أول مرة لأفحصه ، وتلاقت أعيننا فسألني دون مقدمات : " أنت تحب فيروز . أليس كذلك ؟ " . سألته : - كيف عرفت ؟! . - لعشاق فيروز عيونٌ تكشفهم . - فضحتني عيناي إذن . ما أغنيتك المفضلة ؟! - " أنا عندي حنين " وابتسمت ُ لاتفاقنا على نفس الأغنية . رأيتُ على الطاولة المجاورة كتاباً أبيض اللون . اقتربت فوجدته كتاب : " ذكرياتي " لطاغور . تعجبت . قلت له : " من أنت بالضبط ؟ يبدو أن لك تاريخاً حافلاً " . عاجلني بالصمت .. فعرفت أنه من أرواحنا . لضيق الوقت وكثرة المرضى وعدته بزيارة أخرى في نهاية اليوم . البوح الأول : " خالد ........ " هذا اسمي الكامل . الأخ الأكبر بين ثلاثة رجال . توفي والدي وعمري عشر سنين ، ورحلت والدتي قبل سنتين . أعشق القراءة منذ الصغر . أحبُ الشِعر ، ويعجبني المتنبي . أحبُ الروايات أيضاً وقرأت كل أعمال نجيب محفوظ ، و أمين معلوف لكن يعجبني عبدالرحمن منيف . أنهيت الثانوية ، ولم أستطع مواصلة الدراسة لضيق ذات اليد ، وحاجة إخواني لمن يعيلهم . عملتُ في أعمال عدة ؛ حكومية ، وخاصة . أحُرقُ نفسي عملاً ، ولكني إن شعرتُ بقلة التقدير أو الإجحاف ، أو تكبّر الرؤساء أترك العمل دون تردد وأبحث عن غيره . آخر عملٍ كان في شركة للمنتجات البلاستيكية وتركته قبل خمسة أشهر .لم أبحث عن غيره لظهور أعراض المرض . كنتُ متزوجاً ، لكني انفصلت بعد سنة ونصف لخلافات شديدة ، ربما نتجت من اختلاف أطباعنا ، و كرهي لأي قيد أو التزام اجتماعي ، أو ربما لأني أعشق أمي وإخواني كثيراً ، وأفضّلهم على نفسي ، وكان ذلك يستفز زوجتي كثيراً . حدث ذلك قبل خمس سنوات . لم أرزق بأي طفل فقد أجهضت طليقتي مرتين أثناء زواجنا ، وحين تزوجت من رجل آخر أنجبت توأماً ! . هاك انظر إلى صورتهما ..... قرار : جلس يتأملُ خطة العلاج الكيماوي ، بتفاصيلها المعقدة ، ويتأمل الزمن اللازم لإنهاء العلاج ، والخطط البديلة في حالة الفشل . يبتسم ، يقطب حاجبيه ، ثم يبتسم . بعد فترة قصيرة جداً قال : " موافق . هل نبدأ الآن ؟" . دُهشتُ فقد جهزّتُ نفسي كي أجيب على الأسئلة الأصعب والمحيرة : " ما نسبة نجاح العلاج ؟ " .. " كم تبقى لدي لأعيش ؟ " .. " هل العلاج بالخارج أفضل ؟ " .. " هل سينمو شعري بشكل طبيعي فيما بعد ؟ ".." ماذا لو فشلت كل الخطط . سأخسر حياتي ؟! " . لكنه لم يسأل . اقترحت عليه : " خالد .. ألا تريد معرفة نسبة النجاح ؟ " . رد : " اسمعني يا " دختر " .. لو أن نسبة النجاح 99 % ، لن يمنع هذا وقوعي ضمن نسبة 1 % التي ستفشل ، والعكس صحيح . دعها للسماء يا صديقي " الدختر " . المهم عندي شيء واحد : إذا فشل العلاج ومت .. لن أموت إلا أثناء مناوبتك !! .هيا نبدأ " العزل : تساقط شعره ... لم يأبه لذلك . كانت الجرعات الأولى صعبة عليه ، وأنهكه القيء المتكرر . حين يُسئل : " أثمة ما تشتكي منه ؟! " ، يبتسم ويوميء نفياً ، و نحن نعلم الارتفاع المستمر لحرارته ، وفقدان الشهية ، والإسهال ! . حين تجاوز الأيام الأولى .. انخفضت مناعته ، واستلزم عزله لحمايته . دخلت عليه الغرفة وقد لبست كمامة الوجه ، والقفازات . وجدته يتأمل الفراغ . اقتربت منه فأحسست بحرارته العالية . قال : " أنتظرك .. تأخرت عليّ " . أخبرته أني أجّلت فحصه للنهاية حتى أمضي معه أكبر وقت ممكن . عالجنا اللحظات ببعض الصمت . ضحك قائلاً : - أجمل ما في عزلكم هذا .. أنكم لا تحجبون عنا رؤية الأعين . تختفي الأفواه والأنوف والأيادي ، وتظل الأعين . لذا أنا سعيد برؤية عينيك المرهقتين دائماً . - وما أسوأ ما فيه ؟ - الفراغ . لا يوجد تلفاز بهذه الغرفة . غير مسموح بدخول جهاز التسجيل لأسمع فيروز . و إحدى الممرضات الجدد أخذت كتاب طاغور بحجة أنه قد ينقل العدوى . تخيّل : طاغور معدي ؟ . ضحكت على تعليقه . خرجت فوراً وبحثت في غرفة الممرضات عن كتاب طاغور فوجدته . أعطيته لخالد . ووعدته بمجموعة من الكتب في زيارتي القادمة . في الغد أعطيته " البئر الأولى " و " شارع الأميرات " لجبرا .. وأحضرت المجلد الأول من أعمال السيّاب .. وجدارية درويش ، ومجموعتي الأولى . تخيلتُ أنه لن ينتبه لها إلا بعد أيام ، خصوصاً إذا بدأ بقراءة أعمال جبرا . في الغد استقبلني بابتسامة : - لِم لم تخبرني بأنك تكتب القصة ؟ - افترضت أنك تعرف .. عرفت فيروز في عيني ولم تعرف الحروف ؟! - ظننتها حروفاً لغيرك .. كالحروف التي في عيني . - حسناً . لن نختلف . لا تخف لن أكتبك . - لست خائفاً .. ليس فيما عشتُ ما أخشى ظهوره للناس . لكن أريد منك شيئاً . اقرأ لي قصة بصوتك ... من خلف كمامة الوجه هذه !!!. في المساء عدتُ إلى غرفته وقرأت عليه " المسيرون " . حين انتهيت قال : " دوري الآن " .. وراح يغني " نسّم علينا الهوا .. " لفيروز . لم أملك إلا الترديد معه . حين انتهينا كانت دموعه تسيل . قال : " ومن جمال كمامات وجوهكم أنها لا تخفي دموعكم يا دختر " . فضحكنا بنشوة ! . معاً ضدك يا سرطان : قال خالد ، ولم يزل بعد في غرفة العزل : " ما رأيك لو تناوبنا على قراءة الجدارية ؟ . أقرأ ثلاث صفحات ، وتقرأ أنت ثلاثاً " . أعجبتني الفكرة وبدأت أقرأ ، ثم قرأ ، وقرأت ، و قرأ حتى أنهينا الجدارية مرة أولى ، ثم ثانية . نتوقف عند بعض المقاطع ونكررها مرتين وثلاث , كان يعجبه هذا المقطع : من أَيِّ ريح جئتِ ؟ قولي ما اسمَُ جُرْحِكِ أَعرِف الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ! وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني إلى زَمَنٍ خرافيّ . ويوجعني دمي والملحُ يوجعني .. ويوجعني الوريدُ " قال لي : " لا أخاف السرطان ولا الموت. عشتُ بمافيه الكفاية ، ومستعدٌ لمجابهته بكل ما أوتيتُ من عزيمة . لم أرتكب سخافة أندم عليها ، ومقتنع بما فعلتُ طيلة عمري . أشعر أن الجدارية ترسمني في كثير من مقاطعها ". أخبرته اشتياقي لملاقاة الموت ورغبتي الجامحة في مكافحة السرطان حتى يستل أحدٌ منا الآخر ... وسيكون تخصصي الفرعي علاج السرطان . قال : " سنكوّن فريقاً إذن .. أنت بالعلم وأنا بالتجربة . اتفقنا ؟! " . خلعتُ القفاز الطبي لأضع يدي في يديه مؤكداً الاتفاق . أطفال : كان يحب الأطفال كثيراً . يشتهي لو أنه طفلٌ صغيرٌ يتمرغُ في التراب ، ويمشي حافي القدمين دون مساءلة . سألني عن أطفالي فأخبرته ، وطلب صورة سعود ليحتفظ بها قرب صورة التوأمين . أسرّ بأنه يحن لطفلةٍ جميلة يسميها " حنين " ، ومازحني : " سأزوجها لسعود " . عاش معي انتظار ميلاد هاجر وطلب مني تصويرها له . وبعد نصف ساعة من ميلادها انطلقت عائداً من مستشفى صحار إلى مسقط لأريه الصور الأولى المأخوذة بواسطة جهاز الهاتف . فرح كثيراً بهذا الجنون وأوصاني بجنون آخر : " عد الآن إليها " .. فعدت ! . وعدته بصورة مطبوعة لهاجر حين يعود شعرها للظهور بعد سطوة الموسى الذي استخدمته أمها حين أتمت الطفلة أسبوعها ورحل خالد قبل نمو شعرك يا هاجر ! . قال : " أشتهي الخروج من العزل لرؤية طفليك " . عيد : مر العيدُ ومناعته لم تزل هابطة ، وتعذر إخراجه لقضاء أجازة العيد مع أخويه . كنتُ مناوباً ، وخرجتُ قبل العيد بيوم . كانت المناوبة مزدحمة و مرهقة جداً ، وتعذر نومي فيها لمدة 32 ساعة متواصلة . مررتُ عليه في غرفته لأودعه قبل الرحيل لشناص . ضحك حين رآني وقال : " والميزة الأخرى لكمامات الوجه أنها تظهر تعب المناوبات بشكل أوضح على العينين !! . أريد هدية العيد " . سألته : " ماذا تريد من هدايا ؟ " رد : - قصيدة . - قصيدة ؟! . تعرف أني لست بشاعر ، ولا يمكنني حتى منحك قصة وأنا بهذه الحال - ومن طلب منك أن تكون شاعراً يا الدختر ؟! . أريد قصيدة للمتنبي . ألم تخبرني بأنك تضع ديوان المتنبي دائماً في حقيبة المناوبة ؟! . هيا اذهب وأحضره . ذهبت وأحضرت الديوان . طلب مني قصيدة : " عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ ؟ " . فقرأتها وهو يتأمل عيني وحركات كمامات الوجه تتحرك مع شفتي . قال لي بعد الاستماع : " صوتك وهو متعب ألذ .. وألذ !!!! " . و دون وعي مني قلتُ له : " هيا أسمعني صوتك وأنت تقرأ هذه القصيدة " . فتناول الديوان وقرأ .. سالت دموعه وبللت الصفحات . كان صوته غرائبياً كأنه من السماء وكل كلمة يقولها تخترقني وتشعرني بالقشعريرة الباردة وبكيت .. بكيت حتى ابتلت كمامة الوجه وكادت قاب قوسين أو أدنى من السقوط من على وجهي . فخرجت . ناداني من على الباب بلهجة عمانية : " كل " شوا " عني وعنك .. ما أوصيك . ترانا محرومين منه لحم العيد " . قبل الرحيل : بعد أشهرٍ من العذاب ، استنفدت كل الاحتمالات . كلما جرب بروتوكول كيماوي فشل ... واتضح أن المرض يتسارع . قال الاستشاري : " إنها النهاية . صارحوه " . واتجهت الأنظار لي : " أنت الأقرب فأخبره بطريقتك " . قضيت قبلها يومين دون نوم . كيف أخبره ؟ . أي البدايات أختار ؟ . وحين استجمعت عزيمتي ودخلت ابتسم لي . جلستُ صامتاً . سالت دموعي ثم أجهشت بالبكاء . اقترب مني وأزال كمامة الوجه : " أبو هاجر .. هوّن عليك . هذا قضاء الله .أخذت كفايتي من الحياة ولا أهاب الموت .أفهمها جيداً ، وتشبثت بها كثيراً . واكتفيت . صدقني لست حزيناً . هيا امسح دموعك " . قلت : " كيف عرفت ؟! " . رد : " أنا أعلم بجسدي من أي شخص آخر .. أخبرني أنه سيتوقف عن الحياة . لكني لست حزيناً . لم أرتكب كبيرة فمم أخاف ؟! . بالعكس أشتهي الآن سماع فيروز . هيا نغني معاً : " أنا عندي حنين ..." . شهقت بالدمع ولم استطع الغناء . المناوبة !!! : كنت مناوباً في الليلة ذاتها . دخلتُ عليه الغرفة دون كمامة وجه . كان ضغطه منخفضاً للغاية ، ونبضه متسارع بشدة رغم كل المحاليل والأدوية الرافعة للضغط . قال والإعياء بادٍ عليه : " أشكرك . أشاهد وجهك دون نقص للمرة الأخيرة في هذه الحياة " . أمسكت يديه الباردتين . تأملته كثيراً . ثم سحبتها وخرجت لأكتب رسالة تطلب الدعاء بعثتها لمن أثق بدعواته : " الدعاء . إنه يموت ولا سبيل لإنقاذه إلا بالدعاء " . عدتُ فجلست معه أتامل ملامحه . قلت : " أيؤلمك شيء ؟! " . رد : " لا شيء ... وكل شيء " ... بعد دقائق فتح عينيه والتقت أعيننا فبكيت . قال بابتسامةٍ غريبة : : " أخائفٌ من الموت يا أبا هاجر " . قلت له : " أخاف عليك " ، كانت تلك آخر عبارة له قبل الدخول في غيبوبة الموت . جلستُ معه حتى فارق الحياة . كتبتُ بنفسي شهادة رسمية تثبت وفاة بعضي وسلمتها لذويه . غلاف : وقفت محتاراً بين غلافين لمجموعتي : " العابرون فوق شظاياهم " . استشرتُ عدداً من الأصدقاء فازدادت حيرتي . ذهبتُ لخالد كي يختار . تأملهما فترة ، ثم قال : " سأخبرك بطريقة . أعط الغلافين لأمك كي تختار " . وقفت مذهولاً . كيف غابت عني هذه الفكرة ؟! . قال : " أنتظر المجموعة بفارغ الصبر . لمن ستكون النسخة الأولى ؟! . قلت : " لهاجر " . ضحك . كان يعد معي الأيام لقدوم النسخ الأولى .. وقبل ليلة من وصولها رحل . ويوم استلمت النسخة الأولى طلبت محادثة هاجر واستأذنتها : " النسخة الأولى لخالد .أعندك مانع ؟!" . أخذت موافقتها وكتبت الإهداء : " خالد : كيف وجدت الغريب ؟! . أشعر أني لم أفارقك ... سحابة واحدة كفتنا ... أحبك ..." ما أفعل بهذه النسخة ؟ أأضعها على قبره ؟ عبدالعزيز الفارسي |
أخائفٌ من الموت يا أبا هاجر ؟!! قصة فازت بالمركز الاول على مستوى الخليج بالعام المنصرم
تستحق هذا المركز مجموعة رائعة أشكرك على مساهمتك بها والله تحفة من التحف النادرة أهلا ومرحبا بك في برج المقال والقصة احتراماتي وتقديرى دمتم بخير |
أشكرك أختي يونية ديو على مساهمتك الرائع لقصة عبد العزيز الفارسي صديقي العزيز
الشخص الذي يستحق له الوقوف وقفة صمت فهو طبيب في مستشفى السلطاني وقاص عظيم في مجال الأدب... |
الساعة الآن 01:34 AM. |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By
Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها