منتديات حصن عمان - أُحجيةُ الخرفِ
منتديات حصن عمان

منتديات حصن عمان (http://www.hesnoman.com/vb/index.php)
-   برج المقال والقصة (http://www.hesnoman.com/vb/forumdisplay.php?f=20)
-   -   أُحجيةُ الخرفِ (http://www.hesnoman.com/vb/showthread.php?t=31053)

عملة نادرة 13-03-2010 06:06 PM

أُحجيةُ الخرفِ
 
أُحجية الخرَف .
1
_اللعنة على هذه الكرة الأرضية ألم تجد بُقعة تلفظني فيها سوى هُنا و أنا مسجى على ملاءات بيضاء تناوب عليها الكثير ممن عبثت بهم الأنواء , و حلَّت بهم النوائب فصنعّت منهم رجالا لا يجود بهم الدَّهر إلا فرادى ..وَ ماذا عن هذه الجُدران القرمزية التي اكْترع من رطوبتها الدَّهر و لم يزل ظمأه .. و ماذا عن زواياها القائمة التي تأبى الانحناء و التواطؤ مع جزء مني مع ظهري الذي لشد ما اضطلع جهودا ناءت \ أبت أن تحملها أكتاف الرجال وقتذاك و الآن أؤمن و في قرارة نفسي إني كنت ظلوما جهولا .

تُطل المُمرضة مِن خلْف الباب ، يُبحلق فيها بنظرات فارغة يُتمتم بصوته المتحشرج :
_يا للسخف !
_ امتقع وجهها و وقفت و هي فارهة الفاه .
_اغربي عن وجهي .
_ حقنه الأنسولين يا عم .
_ ما عدت بحاجة إليها ، غدتي البنكرياسية تُفرز فائضاً من الأنسولين .
_ من أخبرك بهذا؟
_ اغربي عن وجهي ...هيا .
تخرج و هي تصفق الباب خلفها , و لم تكد تبتعد عن غرفة هذا الكهل تسمع صوت ضحكاته تجلجل في الجناح .

2

بشقِ الأنفس يقف على سريره و هو متهدج الأوداج يُحدِّث نفسه بلغة لا تكاد تُفهم بغيةَ لفت أنظار \أسماع المرضى في الأسرة المجاورة , يلقي نظرة خاطفة فيجد أن أعينهم ما زالت معلقة به يتنفس ملء رئتيه و يتمتم :
من الصعب جداً أن تجد نفسك في موقع جغرافي لا يناسبك , أن تعيش في زمان لا يمت لك بصلة , أن تُخلق عملاقا في جـيل يتَفشى فيه الأقزام , أن تمتاز بحنكة و حذق وسط أناس يمتازون بالصفاقة , حاليَ أشبه ما يكون بـدم الحمام _الياقوت_الذي يُحشر في كومةِ فضة صدئة . لا يكاد يكمل عبارته لتلتقط أذناه ذبذبة في جزء نائي من الغرفة يلتفت لمصدر الصوت نصف التفاتة فيجد شابين باسقين كالنخيل لكنّ طلعهما إما أن يكون يانعا و إمَّا أن يكون في طوره لأن يتمم نُضجه ,فالأول منهما يرتدي نظارة سميكة تُضفي عليه سيماء المُثقفين تُطوِّقه كَومة منَ الكُتُبِ . وَ الآخر يزِم شفتيهِ بين العبارةِ وَ الأخرى و التملمُل يُهيمن على ملامحِ وجههْ .

يُحوقل العجوز ترتفعُ يداهُ لصَدِغيهِ تارة , يُمسد لحيته تارةً أخرى وَ هو يبحثُ عن طَريقٍ مُعبَّد باحترامٍ مُفتعلٍ ليُقحمَ بنفسهِ بين البصلة و قشرتها دون أن يُثير غضبَ الشَّابينْ فَهو يكادُ يجزم بأنَّ كبار السن أمثاله إن وجدوا في نقاش ما ففرضَ آراءهم يتأتى بسهولة و علاوة على ذلك فالنِّقاشات تحت ظل وجودهم لا تحتدم إطلاقا فكبار السن في مجالسنا أشبه ما يكونون بالحُرمة التي لا يجوز تعديها مهما اقتضت الضرورة .




يعود أدراجه لوضعيته الأولى و يقتعد سريره و بعد برهة يقف ليذرع الغرفة جيئة و ذهابا فيقترب من الشابين أكثر و لا يفصله عنهما إلا منضدة مطلية بطلاء باهت و يسألهما :
- ما خطبكما
الأول – لا شيء
الشاب المتململ مخاطباً الشاب الأول – بزغ الحق و زهق الباطل يبدو لي أنَّك تتهرب من المواجهة و هذه أولى أمارات الثقة المتزعزعة واجهه و بتهكم يكمل حديثه ..هاه صحيح نسيت أنك" أسدٌ عليَّ و في الحروبِ نعامةٌ "فهذا هو ديدنكم أنتم الشعراء تأمرون النّاس بالبر و تنسون أنفسكم , يا كهل , عذراً أقصد يا عم كنتُ أتحدث معه عن الأدب عن الأدب المعاصر عن القصائد الملأى بالترهات عن المواضيع التي تُفرد لها صفحات و صفحات لكنها لا تسمن و لا تغني من جوع و عن ...
الشاب الأول بنبرة غضب – حسبك يا رجل ما هكذا تقاس الأمور ...
لا يكاد يكمل عبارته ليجده قد أقحم نفسه و قال – النقاش معك مضيعة للوقت ليس إلَّا ..يا عم افتنا ..بربك أليس معي الحق بكل حرف تفوهتُ به .

يصمت العجوز لدقائق حسبها الشَّابين ساعات ثُمَّ ألقى عبارتيه على مسامعهما

- (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُون)
- "لا تجادل أحمقا فقد يخطئ الناس التفريق بينكما "
بنظرة خاطفة تأمَّل الكتب المبعثرة على سرير أحد الشابين و تناول مسرحية الملك أوديب و عاد أدراجه و لكأنَّه لم يخلف دمارا شاملاَ في نفسية الشابين .

استشاط الشَّابين غيضا فهذا الكهل عوضا عن تهدئة الأوضاع فهو زادها حدَّةً و رحل و كلُّ منها يود أن يصب جام غضبه على الآخر بدأ الأمر بحرب باردة ثم بمناوشات و تطور الأمر بالتراشق اللفظي و انتهى بقصف و استجواب من قبل إدارة مشفى الأمراض النفسية و فصل غرفهما كُل على حدة .


3
خيَّم الليلُ على المشفى و بعض المتعالجين كانوا يلوذون بصمتهم و آخرون كانوا يغطون في سبات عميق و الساعة كانت تزحفُ ببطئ شديد ,و الكهل كان يفتكه انتظار الصبح فهسيس الحشرات في هذا الوقت من الليل تكاد تصم أذنيه , يقلب أفكاره لعل هذه السَّاعات ذات الوقع الثقيل على قلبه تنزاح .يتذكر أمر مسرحية الملك أوديب يتظاهر بقراءتها يقلب صفحات المسرحية و هو لم يعقد النية على قراءتها بعد , تقع عيناه على اللغز الذي نقل أوديب من حياة التشرد و توَّجه ملكاً , كوْنه لم يُلملم كل أطراف القصة أطلق ضحكة رنانة تعالت أصداءها في أطراف الغرفة و أخذ يطرح اللغز :

"ما هو الكائن الذي يمشي على أربع و بعدها يمشي على اثنتين و بعدها يمشي على ثلاث ؟ "
و يعيد اللغز ثانية و ثالثة و لا يعير تأفف المرضى في الأسرة المجاورة أدنى اهتمام و يرمي بتهديداتهم عرض الحائط .


الحنق بدا جليا على مُحيا المرضى فقد أخرجهم عن طورهم و أفقدهم صوابهم و الضجة أثيرت في تلك الغرفة مما اضطر الممرضين المناوبين على فصل هذا الكهل في غرفة أخرى بغية توفير جو هادئ للمرضى , حين اقترب الممرضين منه حاول استدرارا عطفهم لكن محاولاته باءت بفشل ذريع و بعدها أخذ يزبد و يرعد و هم يأخذونه لغرفة أخرى .


4

كل شيء في الغرفة هذه متواطئ مع مزاجية هذا الكهل الألوان هنا حيادية و حادة في آن واحد , الأثاث هُنا يذكره بأثاث مكتبه في الشركة , الحال في هذه الغرفة ليس كحال غرف مشفى الأمراض النفسية .. لا يُعقل أنهم ألقوني هنا بمحض صدفة ..إذن فمن ذا الذي يجرؤ على التجسس على أفكاري و تسريبها أيضا لهم .

لا يهم , ما يهمني الآن هُو ...


5

- يبدو أن هذا الكهل أحكم غلق الباب .
- بما أنه لم يغفُ له جفن ليلة البارحة فعلى أغلب الظن أن يكون نائما الآن .
- فلنعاود إيقاظه بعد سويعات .
- حان دوره مع الطبيب و لن يُرجئ الطبيب هذا الموعد إلا بعد فترة طويلة .

يطرقون الباب بعنف , يحاولون استراق السمع و لكن لا حراكْ الأمر الذي يضطرهم إلى فتح الباب عنوة .

هالهم المنظر الكهل متكئا على منسأته و بجانبه أوراق و حبر مُسال ,تبين لهم أن الكهل توفي دون أن تأكل دابة الأرض منسأته !

يخرجون به من الغرفة و لا تبقى سوى الممرضة لتعيد الأشياء لموقعها , و لتصلح من حال الغرفة ..تجمعُ الأوراق فتجد أنَّه ثمة عبارات خُطت على هذه الورقة .


"
مساؤكم يباب يا صِغار , أقصد يا كِبار
فالتصرفات التي بدرت منكم من المُحال أن تبدر من الصِّغار ..حاشاهم الصغارمن فعلتكم تلك .
مساؤكم بلاقع كتلك التي تستوطن قلوبكم .
مساؤكم جفاء لم أتمكن من استئصال جذوره التي ما اكتشفت وجودها إلا بعد أن تأصَّلت في ذواتكم .
مساؤكم تحليق بأجنحة الكبر لا إخضاع بأجنحة الذل .
تطرق باب ذاكرتي الآن مئات الاستفهامات و لكني لم أجد لها أيَّا من الأجوبة التي تقنعني أنا , أهو تقصير من طرفي أنا أم أنه إنكار للجميل من لدنكم أنتم , أم أنه التدليل المفرط الذي أغدقته عليكم .

أي خزي و أي عار هذا الذي ألحقتموه بكم و بأبنائكم و بمناصبكم التي لما تقلدتموها لولاي .

سيَّاف : لا تنسَ بني أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرب و زوجتك تلك التي تصدر أحكاما جزافية , و تخترع فلسفات لم يخترعها أفلاطون لتقول " من زاد علمه قل عقله " و تقصدني بنظرياتها تلك , و أنت تقتفي أثرها و لئن دخلت هي جحر ضب لدخلته أنت معها ..!


عصام : كنتَ أقربهم إلي , كنت تسكن سويداء القلب , و لذلك تعمَّد الموت انتقاءك دون الآخرين .


سهام : سهامكِ معقوفة بُنية و لم تُصيبي الرَّمية هذه المرَّة , أنتِ آخر العنقودِ المدللة التِي لطالما ناقشتكِ في عُمْرٍ من القناعات كنتِ تمجدينها و أنا بدوري لم أحط من قدرها يوما , أتذكرين أيا سهام آخر أحاديثنا قبل أن تزجي بي أنتِ و أخوك هنا ..كنَّا نتحدث عن تصادم الأجيال عن جُملتك التي كنت تُرددينها مرارا " نحن أبناء جيل يرافقنا الكثير من اللبس في لحظة إكرام الضيف فنتردد بأي يدٍ نمسك بدلة القهوة و بأيهما نصب الفنجان " و الكثير من التفاصيل الموجعة يا سهام "

قد أكون سلبتكم حقوقكم يوما , لكنَّ الأمر لا يستدعي ادِّعاءكم إصابتي بخللٍ عقلي ,
أيَّا يكن عفا الله عما سلف

و للمرضة و الشُّبان هُنا أسألكم العفو و الصفح

و استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .


كان يوما ما أباً لكم , لكنه اليوم يُعرف ببضعة أرقام مُعلقة على سريره في مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية .

"


2010\3\12

Vague 14-03-2010 11:56 AM

قرأتها عدة مرات فجمالها يجعلني ارجع اليها كل حين
مفردات متكاملة ومتداخلة بطريقة رائعة حقا

أحجية عانى منها الكثير ولا يزالى هنالك من يتألم بسبب أبنائه

بارككِ المولى عزيزتي عملة نادرة

هدى 14-03-2010 05:10 PM

طرح عميق للغاية
ابداع فريد النوع
عبر لاتعد ولا تحصى
حوار ممتع حقا
سلمت الأنامل
في انتظار الجديد
تحياتي

البراء 15-03-2010 12:23 AM

إن وراء الأكمه ما ورائها

الشياب سوالف !

أحييك ِ على هذا النص الراقي
أستفدت ُ منه كثيرا ً فيه عبر كثيره تأخذنا إلى حالة إجتماعيه

ملاحظتي لك : كلمة اللعنه التي وردت أولى النص
فاللعن آفة اللسان
إستبدليها بكلمة ٍ أخرى

غير ذلك راقي نصك بمدخلاته ، بلغويته ، بجماليته ...

حماك ِ الرب ...

وصال 19-03-2010 01:34 PM

جميل جدا ما جادت به قريحتكِ عزيزتي ..

أجدتِ الوصف والتعبير عن نفسيات كبار السن ومعاناتهمـ مع تقدمهمـ في السن ..

حوار مميز وفريد من نوعه بحق ..

واصلي على هذا النهج أختي الحبية :p

عملة نادرة 24-03-2010 03:00 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زدجالية (المشاركة 386285)
قرأتها عدة مرات فجمالها يجعلني ارجع اليها كل حين
مفردات متكاملة ومتداخلة بطريقة رائعة حقا

أحجية عانى منها الكثير ولا يزالى هنالك من يتألم بسبب أبنائه

بارككِ المولى عزيزتي عملة نادرة

أَهلاً بالزِّدجالِية :

شُكرا لإطرائِكِ

أسعدكِ الخالقُ في الدَّارين .

عملة نادرة 24-03-2010 03:33 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هدى (المشاركة 386347)
طرح عميق للغاية
ابداع فريد النوع
عبر لاتعد ولا تحصى
حوار ممتع حقا
سلمت الأنامل
في انتظار الجديد
تحياتي

شكرا لوجودكِ هُنا
تحايا
=)


الساعة الآن 12:47 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir
لا تتحمل منتديات حصن عمان ولا إدارتها أية مسؤولية عن أي موضوع يطرح فيها

a.d - i.s.s.w