خامساً: عوارض الإفطار:
المراد بالعوارض: ما يبيح عدم الصوم.
وهي: المرض، والسفر، والحمل، والرضاع، والهرم، وإرهاق الجوع والعطش، والإكراه.
أولاً: المرض:
المرض هو: كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة.
أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه قول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
وعن سلمة بن الأكوع رضى الله تعالى عنه قال: "لما نزلت هذه الآية:
{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} كان من أراد أن يفطر، يفطر ويفتدى، حتى أنزلت الآية التي بعدها يعني قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فنسختها رواه البخاري.
فالمريض الذي يخاف زيادة مرضه بالصوم أو إبطاء البرء أو فساد عضو، له أن يفطر، بل يسن فطره، ويكره إتمامه، لأنه قد يفضي إلى الهلاك، فيجب الاحتراز عنه.
ثم إن شدة المرض تجيز الفطر للمريض. أما الصحيح إذا خاف الشدة أو التعب، فإنه لا يجوز له الفطر، إذا حصل له بالصوم مجرد شدة تعب.
وقال الحنفية: إذا خاف الصحيح المرض بغلبة الظن فله الفطر، فإن خافه بمجرد الوهم، فليس له الفطر.
وقال المالكية: إذا خاف حصول أصل المرض بصومه، فإنه لا يجوز له الفطر -على المشهور- إذ لعلَّه لا ينزل به المرض إذا صام.
فإن خاف كل من المريض والصحيح الهلاك على نفسه بصومه، وجب الفطر. وكذا لو خاف أذى شديداً، كتعطيل منفعة، من سمع أو بصر أو غيرهما، لأن حفظ النفس والمنافع واجب، وهذا بخلاف الجهد الشديد، فإنه يبيح الفطر للمريض.
وقال الشافعية: إن المريض -وإن تعدى بفعل ما أمرضه- يباح له ترك الصوم، إذا وجد به ضرراً شديداً، لكنهم شرطوا لجواز فطره نية الترخص.
وفرّقوا بين المرض المطبق، وبين المرض المتقطع: فإن كان المرض مطبقاً، فله ترك النية في الليل.
وإن كان يحم وينقطع، نظر: فإن كان محموماً وقت الشروع في الصوم، فله ترك النية، وإلا فعليه أن ينوي من الليل، فإن احتاج إلى الإفطار أفطر.
ومثل ذلك الحصَّاد والبنَّاء والحارس -ولو متبرعاً- فتجب عليهم النية ليلاً، ثم إن لحقتهم مشقة أفطروا.
ولا يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم.
وشرط إباحة الفطر أن يلحقه بالصوم مشقة يشق احتمالها، وأما المرض اليسير الذي لا يلحق به مشقة ظاهرة فلم يجز له الفطر.
وقال الحنابلة: المعتبر خوف الضرر، أما خوف التلف بسبب الصوم فإنه يجعل الصوم مكروهاً، وجزم جماعة بحرمته، ولا خلاف في الإجزاء، لصدوره من أهله في محله، كما لو أتم المسافر.
قالوا: ولو تحمل المريض الضرر، وصام معه، فقد فعل مكروهاً، لما يتضمنه من الإضرار بنفسه، وتركه تخفيفاً من الله وقبول رخصته، لكن يصح صومه ويجزئه، لأنه عزيمة أبيح تركها رخصة، فإذا تحمله أجزأه، لصدوره من أهله في محله، كما أتم المسافر، وكالمريض الذي يباح له ترك الجمعة، إذا حضرها.
وقال المالكية للمريض أحوال:
الأولى: أن لا يقدر على الصوم أو يخاف الهلاك من المرض أو الضعف إن صام، فالفطر عليه واجب.
الثانية: أن يقدر على الصوم بمشقة، فالفطر له جائز.
الثالثة: أن يقدر بمشقة، ويخاف زيادة المرض، ففي وجوب فطره قولان.
الرابعة: أن لا يشق عليه، ولا يخاف زيادة المرض، فلا يفطر.
وقال الشافعية على أنه إذا أصبح الصحيح صائماً، ثم مرض، جاز له الفطر بلا خلاف، لأنه أبيح له الفطر للضرورة، والضرورة موجودة، فجاز له الفطر.
ثانياً: السفر:
يشترط في السفر المرخص في الفطر ما يلي:
أ- أن يكون السفر طويلاً مما تقصر فيه الصلاة.
ب- أن لا يعزم المسافر الإقامة خلال سفره مدة أربعة أيام بلياليها عند المالكية والشافعية، وأكثر من أربعة أيام عند الحنابلة، وهي نصف شهر أو خمسة عشر يوماً عند الحنفية.
ج- أن لا يكون سفره في معصية، بل في غرض صحيح عند الجمهور، وذلك: لأن الفطر رخصة وتخفيف، فلا يستحقها عاص بسفره، بأن كان مبنى سفره على المعصية، كما لو سافر لقطع طريق مثلاً.
والحنفية يجيزون الفطر للمسافر، ولو كان عاصياً بسفره، عملاً بإطلاق النصوص المرخصة، ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، والرخصة تتعلق بالسفر لا بالمعصية.
د- أن يجاوز المدينة وما يتصل بها، والبناءات والأفنية والأخبية.
وذهب أصحاب المذاهب الأربعة، إلى أن من أدرك هلال رمضان وهو مقيم، ثم سافر، جاز له الفطر، لأن الله تعالى جعل مطلق السفر سبب الرخصة، بقوله:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، ولما ثبت من "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح في رمضان مسافراً، وأفطر" رواه البخاري.
ولأن السفر إنما كان سبب الرخصة لمكان المشقة.
وفي وقت جواز الفطر للمسافر ثلاث أحوال:
الأولى: أن يبدأ السفر قبل الفجر، أو يطلع الفجر وهو مسافر، وينوي الفطر، فيجوز له الفطر إجماعاً، لأنه متصف بالسفر، عند وجود سبب الوجوب.
الثانية: أن يبدأ السفر بعد الفجر، بأن يطلع الفجر وهو مقيم ببلده، ثم يسافر بعد طلوع الفجر، أو خلال النهار، فإنه لا يحل له الفطر بإنشاء السفر بعدما أصبح صائماً، ويجب عليه إتمام ذلك اليوم، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وهو الصحيح من مذهب الشافعية. وذلك تغليباً لحكم الحضر.
ومع ذلك لا كفارة عليه في إفطاره عند الحنفية، وفي المشهور من مذهب المالكية، وذلك للشبهة في آخر الوقت. ولأنه لما سافر بعد الفجر صار من أهل الفطر، فسقطت عنه الكفارة.
والصحيح عند الشافعية أنه يحرم عليه الفطر حتى لو أفطر بالجماع لزمته الكفارة.
والمذهب عند الحنابلة وهو أصح الروايتين عن أحمد، أن من نوى الصوم في الحضر، ثم سافر في أثناء اليوم، طوعاً أو كرهاً، فله الفطر بعد خروجه ومفارقته بيوت قريته العامرة، وخروجه من بين بنيانها، واستدلوا بما يلي:
- ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
- وحديث جابر -رضي الله تعالى عنه- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب -والناس ينظرون إليه- فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا، فقالوا: أولئك العصاة" رواه الترمذي.
- وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة، في شهر رمضان، فصام حتى مر بغدير في الطريق، وذلك في نحر الظهيرة. قال: فعطش الناس، وجعلوا يمدون أعناقهم، وتتوق أنفسهم إليه. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فأمسكه على يده، حتى رآه الناس، ثم شرب، فشرب الناس" رواه أحمد.
- وقالوا: إن السفر مبيح للفطر، فإباحته في أثناء النهار كالمرض الطاريء ولو كان بفعله.
وقد نص الحنابلة، المؤيدون لهذا الرأي على أن الأفضل لمن سافر في أثناء يوم نوى صومه إتمام صوم ذلك اليوم، خروجاً من خلاف من لم يبح له الفطر، وهو قول أكثر العلماء، تغليباً لحكم الحضر، كالصلاة.
الثالثة: أن يفطر قبل مغادرة بلده.
وقد منع من ذلك الفقهاء، وقالوا: إن رخصة السفر لا تتحقق بدونه، كما لا تبقى بدونه، ولما يتحقق السفر بعد، بل هو مقيم وشاهد، وقد قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين، ولذلك لا يقصر الصلاة.
ويتصل بهذه المسائل في إفطار المسافر:
ما لو نوى في سفره الصوم ليلاً، وأصبح صائماً، من غير أن ينقض عزيمته قبل الفجر، لا يحل فطره في ذلك اليوم عند الحنفية والمالكية، وهو وجه محتمل عند الشافعية، ولو أفطر لا كفارة عليه للشبهة.
وقال الحنفية: وكذا لا كفارة عليه بالأولى، لو نوى نهاراً.
وقال المالكية: من كان في سفر، فأصبح على نية الصوم، لم يجز له الفطر إلا بعذر، كالتغذي للقاء العدو، وعلى المشهور: إن أفطر، ففي وجوب الكفارة ثلاثة أقوال: يفرق في الثالث بين أن يفطر بجماع فتجب، أو بغيره فلا تجب.
وقال الحنابلة: لو أصبح صائماً في السفر، ثم أراد الفطر، جاز من غير عذر، لأن العذر قائم -وهو السفر- أو لدوام العذر.
وزاد الحنابلة أن له الفطر بما شاء، من جماع وغيره، كأكل وشرب، لأن من أبيح له الأكل أبيح له الجماع، كمن لم ينو، ولا كفارة عليه بالوطء، لحصول الفطر بالنية قبل الجماع، فيقع الجماع بعده.
 |
|