علاوة على ما سبق ذكره فإن قدرة الكلمة على التعبير عن الفكر أو المعاني المتعددة وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة في حد ذاتها (( دليل على حيوية اللغة ورواجها . فكيف ننادي لفائدة أحادية المعنى ؟ علماً بأن أحادية المعنى لا يمكن أن تقوم إلا بتحجير اللغة والقضاء على حركتها ، أي قتلها ، وعلماً كذلك بأن المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم ))([48]) .
أهمية المشترك اللفظي
أشير فيما سبق ذكره إلى أن التعرف على الأبعاد أو المجالات الدلالية للكلمات والتراكيب اللغوية المكتسبة تمكن الفرد من استغلال الطاقات المتوافرة في ألفاظ اللغة للتعبير عن مكنونات النفس ودقائق الفكر ونوازع الوجدان ، وبما يتلاءم مع كافة الظروف النفسية والاجتماعية ومع السياقات اللغوية المختلفة . لاسيما أن ألفاظ اللغة ، أية لغة - مهما كثرت فهي محدودة من حيث الكم ، بينما المعاني والأفكار والمدركات متجددة متطورة متنامية لا حدود لاتساعها .
إن المعاني غير متناهية ، والألفاظ متناهية . كما يؤكد علماؤنا العرب القدامى([49]) . (( ولدينا نحن الكبار طائفة لا حصر لها من المعاني لا نجد لها الألفاظ المناسبة وكثرة من الأفكار يستعصي علينا التعبير عنها . من ذلك أننا نقول : إن الطيف الشمسي يحتوي على سبعة ألوان ، مع أن مناطق تداخل هذه الألوان تحتوي على ظلال شتى دقيقة لطيفة من الألوان ليست لدينا أسماء لتسميتها كذلك كثير من حالاتنا الشعورية والوجدانية )) ([50]). وهكذا يبقى المخزون اللفظي للغة - مهما اتسع وتنامى - قاصراً عن الوفاء بمطالب التعبير ولاسيما في مجال الأفكار المجردة ونوازع النفس البشرية وانفعالاتها وأحاسيسها الدقيقة المتشعبة المتنامية ، وبذلك فلا غنى للإنسان في تواصله ونشاطه اللغوي بمختلف أشكاله عن استعمال آخر أو استعمالات أخرى متعددة للكلمات التي يضعها أو يرثها .
إن وجود كلمة مستقلة خاصة بكل شئ يتداوله الناس أمر صعب ، لأنه يفرض عبئاً ثقيلاً على الذاكرة . هذا إن استطاعت هذه الذاكرة أن تحيط بكل ما يتواضع عليه أفراد الجماعة من الألفاظ . لقد ثبت أنه لا قدرة للإنسان على الإحاطة بكل مفردات اللغة ([51]). وأنه حتى لو كرس شخص ما وهب قوة الحفظ جهداً خاصاً لاستظهار قسط وافر من هذه المفردات في فترة معينة من الزمن ، فإن المشكلة أو الصعوبة تبقى قائمة في قدرة هذا الشخص على استرجاع ما حفظ أو استظهر ، بعد توالي الزمن ؛ إذ يتعذر على ذاكرة الإنسان - مهما قويت و اتسعت - كما يقرر علماء النفس - أن تحتفظ بكل ما أودع أو اختزن فيها من معلومات لأمد طويل ، حيث إن الإنسان معرض لأن ينسى الكثير مما حفظ واكتسب من معلومات أو معارف مع مرور الزمن ، وخاصة عندما لا تتوافر الحوافز أو الأسباب لاسترجاع وحضور هذه المعلومات أو المعارف في ذهنه ([52]). ومع هذا الافتراض فإن الإنسان يجد في المشترك اللفظي ما يسعفه في التعبير عن أغراضه حتى وإن كان محصوله من ألفاظ اللغة عامة قليلاً ، ودونما تعرض لما يرهق ذاكرته .
يقول (ستيفن أولمان) « إن الآثار المترتبة على تعدد المعنى للكلمة الواحدة بالنسبة للثروة اللفظية للغة آثار بعيدة المدى . من ذلك مثلاً أن وجود كلمة مسـتـقـلة لكل شيء من الأشياء التي قد نتناولها بالحديث من شأنه أن يفرض حملاً ثقيلاً على الذاكرة الإنسانية . وسوف يكون حالنا حينئذ أسوأ من حال الرجل البدائي الذي قد توجد لديه كلمات خاصة للدلالة على المعاني الجزئية « كغسل نفسه » و « غسل شخصاً آخر» و « غسل رأس شخص آخر » و « غسل وجهه » و « غسل وجه شخص آخر » الخ ، في حين أنه لا توجد لديه كلمة واحدة للدلالة على العملية العامة البسيطة وهي « مجرد الغسيل » . إن اللغة في استطاعتها أن تعبر عن الفكر المتعددة بواسطة تلك الطريقة الحصيفة القادرة ، التي تتمثل في تطويع الكلمات وتأهيلها للقيام بعدد من الوظائف المختلفة . وبفضل هذه الوسيلة تكتسب الكلمات نفسها نوعاً من المرونة والطواعية ، فتظل قابلة للاستعمالات الجديدة من غير أن تفقد معانيها القديمة([53]) .
وحتى لو أحاط الفرد بكل ما يمكن أن يعبر عن جميع أغراضه وأفكاره من ألفاظ اللغة وصيغها ، فإن الموقف أو النمط والأسلوب الكلامي قد يفرض عليه أحياناً الاقتصاد في استعمال الألفاظ ، أو استعمالها في معان وخطابات غير مباشرة ، تجنباً لحرج أو مواجهة غير محمودة ، كما قد تدعوه نزعة فنية إلى نوع من التنميق الجمالي والتنغيم الصوتي المحبب ، مما يحوجه لكلمات ذات أصوات متشابهة ودلالات متشعبة ثرية . وفي مثل هذه الحال يكون المشترك اللغوي عوناً له في تحقيق غرضه ..
كان المشترك اللفظي في اللغة العربية قديماً وما يزال عوناً لأولئك المغرمين بالمحسنات اللفظية وألوان البيان وفنون البديع كالاستعارة والتجنيس أو الجناس والترديد والمماثلة والمشاكلة والترصيع والتورية (( التي كان لها شأن في الرمزية الأسلوبية العربية ))([54]) وما إلى ذلك من المغالطات المعنوية أو الألعاب اللغوية ، كما يحلو للبعض أن يسميهـا([55]). وقد عد ضياء الدين بن الأثير (ت 559هـ) الأسماء المشتركة من جملة أدوات البيان وآلاته ، ومن أهم ما يحتاج الشاعر والكاتب إلى معرفته والإحاطة به كوسيلة للقول البليغ ، على أساس أن فائدة وضع اللغة في رأيه ووفق نظرته التوقيفية لها لا تكمن في البيان وحده ، وإنما في البيان والتحسين : « أما البيان فقد وفى به الأسماء المتباينة التي هي كل اسم واحد دل على مسمى واحد ، فإذا أطلق اللفظ في هذه الأسماء كان بيناً مفهوماً ، لا يحتاج إلى قرينة ، ولو لم يضع الواضع من الأسماء شيئاً غيرها ، لكان كافياً في البيان .. وأما التحسين فإن الواضع لهذه اللغة العربية ، التي هي أحسن اللغات ، نظر إلى ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة والبلاغة فيما يصوغونه من نظم ونثر ، ورأى أن من مهمات ذلك (التجنيس) ، ولا يقوم به إلا الأسماء المشتركة ، التي هي كل اسم واحد دل على مسميين فصاعداً ، فوضعها من أجل ذلك([56]) .
والتجنيس أو الجناس القائم على الاشتراك اللفظي هو الجناس التام الذي يعد أرقى أنواع الجناس وأكثرها إبداعاً عند رجال البلاغة . وهو لا يقتصر على الأسماء كما يمكن أن توحي عبارة ابن الأثير السابقة ، وإنما يشمل الأفعال والألفاظ عامة . يقول ابن حجة الحموي : (( أما الجناس التام : فهو ما تماثل ركناه واتفقا لفظاً واختلفا معنى ، من غير تفاوت في تصحيح تركيبهما ، واختلاف حركتهما ، سواء كانا من اسمين ، أو من فعلين ، أو من اسم وفعل ، فإنهم قالوا : إذا انتظم ركناه ، من نوع واحد ، كاسمين أو فعلين ، سمي مماثلاً ، وإن انتظما من نوعين ، كاسم وفعل ، سمي مستوفى ، وجل القصد تماثل الركنين في اللفظ والخط والحركة واختلافهما في المعنى ، سواء كانا من اسمين أو من غير ذلك ، فإن المراد أن يكون الجناس تامًّا ، على الصفة المذكورة ، من حيث هو أكمل الأنواع إبداعاً وأسماها رتبة وأولها في الترتيب )) ([57]).
و(التجنيس) أو الجناس التام الذي لا يقوم به إلا الألفاظ المشتركة ، ليس من مهمات الفصاحة والبلاغة عند ابن الأثير وابن حجة الحموي وحدهما ، وإنما كان موضع اهتمام معظم البلاغيين والنقاد العرب القدامى عامة ، إلى درجة أن قدمه بعضهم على الألوان البديعية الأخرى . فقد عده يحيى ان حمزة العلوي صاحب الطراز ( ت 745 هـ) (( من ألطف مجاري الكلام ومن محاسن مداخله ، وهو من الكلام كالغرة في وجه الفرس )) ([58]) ؛ وما ذلك إلا لما للتجنيس عندهم من ارتباط وثيق بالذوق اللغوي للشاعر أو المتكلم البليغ عامة ومن دلالة على رقة طبعه وتعمقه في اللغة وقوة تداعي الألفاظ والمعاني لديه ، ثم لما للتجنيس البديع ذاته من أثر في التجسيد والإيحاء وجمال الإيقاع وجذب النفس وصرف الذهن إلى بديع المعاني . يقول البهاء السبكي (ت 763 هـ) عن عماد الدين بن الأثير - وكان يجد هذا الأخير متعة في الإصغاء إلى التجنيس في الكلام - : (( إن مناسبة الألفاظ تحدث ميلاً وإصغاء إليها ، ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوف إليه )) ([59]) .
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من الكتاب الأوروبيّين الشكليين ولاسيما كتاب العصور الوسطى وما بعدها ، قد أغرموا باستخدام الجناس - القائم على الاشتراك اللفظي - مثلما أغرم به الكتاب العرب من قبل ، ويظهر ذلك واضحاً في عدد من مسرحيات الكاتب الفرنسي ( جان راسين ( Jean Racine، وكتابات الكاتب والشاعـــــــر الإيطــــالي
(جيوفــاني بوكاشيو) Giuvanni Boccaccio ([60]) .
كان المشترك اللفظي كذلك ملجأً للشعراء في حال احتياجهم لتكرار ألفاظ بعينها في قوافيهم ، سواء لاستغلال النواحي الصوتية في هذه الألفاظ أو الطاقات المعنوية أو الجوانب الشكلية فيها وما يمكن أن تؤديه من دور في النغم والإيقاع العروضي أو المضمون التأثيري عامة .. ولقد أجاز عدد من النقاد وعلماء البلاغة العرب للشاعر تكرار لفظ بعينه في قوافيه إذا كان هذا اللفظ لمعنى مختلف ولم يعتبره أحد منهم (إيطاء) كما صرح بذلك ابن رشيق القيرواني([61]) .
ولقد هيأ المشترك اللفظي تطوير محسن بلاغي كان له شأنه وموقعه الجليل عند أهل البلاغة وكان من الناحية العملية محل اهتمام كثير من الشعراء والكتاب أيضاً . ذلك هو « رد العجز على الصدر ، وهو في الشعر » أن يكون أحد اللفظين المكررين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو حشوه أو آخره أو صدر الثاني »([62]) ، فقد تفنن الشاعر العربي القديم في استخدام هذا المحسن وأظهر براعة في استغلال الطاقات الموسيقية الجميلة التي يحدثها التماثل اللفظي . وقد اشتملت كتب البلاغة والنقد على الكثير مما يجسد براعته في ذلك([63]) .
يتبين مما سبق ذكره أن المشترك اللفظي قد أتاح فرصاً متنوعة لكثير من الأدباء والشعراء لإشباع هواياتهم في التحسين اللفظي وفي تطلعاتهم الفنية لاستغلال القيم والإمكانيات التعبيرية لأصوات اللغة بالإضافة إلى الطاقات المعنوية للكلمات ، وكان من بين هؤلاء الشاعران المشهوران المتنبي وأبو حية النميري ، اللذان كانا مولعين بالجناس كما يقول القيرواني([64]) ، كما كان منهم أبو تمام الذي اشتهر بمجازاته واستعاراته اللفظية الغريبة الكثيرة . وهكذا فقد كان لتوافر هذا المشترك فضل في كثير مما أنتجه هؤلاء الشعراء وغيرهم من تجارب وأشكال تعبيرية فنية رائعة تجلت فيها براعة الفنان العربي وذكاؤه في استثمار مخزون اللغة من هذا المشترك وطاقاته التعبيرية والإشارية وتطويعها لفنه ولما كانت تتطلبه ثقافة العصر من هذا الفن .
وإذا كانت للمشترك اللفظي أهميته بالنسبة للشعراء القدامى أو بالنسبة للشعر التقليدي عامة ، فلاشك أن شأنه يزداد في اعتبار نظريات الشعر الحديث . حيث تنادي هذه النظريات بتعميق الرؤية وتعددية المعنى وبعد الدلالة وكثافة الصورة في العبارة الشعرية ، وتعتبر (( الشعر استكشافاً دائماً لعالم الكلمة ، واستكشافاً دائماً للوجود عن طريق الكلمة )) ([65]) وتعد (( أولى مميزات الشعر هي استثمار خصائص اللغة بوصفها مادة بنائية )) ([66]). وبذلك تفترض من الشاعر المبدع أن يسعى بكل ما لديه من إمكانيات لاستغلال كل ما يمكن أن تحمله الكلمات من دلالات وكل ما تكمن فيها من طاقات معنوية وإيحائية . ليجعل من تجربته الشعرية نسيجاً فنياً ثرياً مفعماً بالرؤى والشحنات الانفعالية المؤثرة ، تمتزج فيه التوقعات والانفعالية بالمفاجآت وخيبة الظن كما يعبر الناقد الإنكليزي (رتشاردز Richards I.A. . )([67]) ومن هنا تأتي أهمية المشترك اللفظي كرافد يمد الشاعر الحديث بما يمكنه من فنه ويثري تجربته .
والحقيقة أن الشاعر سواء أكان قديماً أم حديثاً لا يكتفي باستغلال ما تحمله الألفاظ من دلالات موروثة . وإنما يسعى لشحنها بدلالات جديدة ، وربما ألغى أو تجاهل تلك الدلالات القديمة كلها وخلق لألفاظه المختارة معاني ومسميات لا عهد لأصحاب اللغة الآخرين بها ، مستفيداً في كل ذلك مما يتيحه المجاز ويحققه له من إمكانيات لغوية للتعدد الدلالي المستمر للفظ أو التركيب اللغوي الواحد حيث يصبح المجاز في العبارة الشعرية وسيلة أساسية للشاعر للاختراق والنفاذ إلى عوالم الكون اللامحدودة ، أو أداته للانتقال والامتداد والاتساع والعبور باللفظ من معناه الحقيقي ودلالاته المعتادة المألوفة . كما هو في تصور علماء البلاغة العرب القدامى([68]) . وحيث يكون هذا المجاز ، كما يعبر النقاد المعاصرون وسيلة للعدول وإعادة البناء والانزياح باللفظة من وظيفتها المرجعية ودلالتها الذاتية الوضعية السابقة إلى دلالات أخرى قد يصعب حصرها([69]) . وبهذه الدلالات الجديدة المتنامية تتولد المفاجآت وينشأ الإدهاش والإبهار والغموض والإبداع في الشعر لغة ومعنى وصورة ، وتتبلور وتتميز لغة الشاعر الخاصة . كما تتوسع وتتنامى في الوقت نفسه طاقات المشترك اللفظي كماً ونوعاً . ويصبح الشاعر مستثمراً لإمكانيات المشترك اللفظي المتاحة ، ومجدداً ومطوراً لهذه الإمكانيات في آن واحد وكان المشترك اللفظي وما ينتج عن استعماله أحياناً من تباين في تحديد المفاهيم وإدراك المقاصد والأهداف في التوريات والاستعارات والتعميات والمغالطات المعنوية أو في النصوص الأخرى ذات المعاني الدقيقة المعمقة ، كان سبباً لاختلاف النقاد واللغويين في فهم كثير من النصوص الشعرية وعاملاً في طرح التفسيرات المتعددة وإثارة الكثير من الخلافات والمناقشات الأدبية المثرية بشأنها أحياناً([70]) ، وربما كان ذلك من أسباب الاتجاه لتفسير النصوص وشرح المعلقات والقصائد ثم تعدد شروحها وعقد الدراسات حولها ، وما يعقب هذه الأعمال في العادة من توسع في الحديث عن المجاز والاستعارة وعن القرائن اللفظية والمعنوية والسياقية وعن الأساليب البيانية وغير ذلك من المسائل اللغوية والبلاغية والنقدية ذات العلاقة .
تضاربت الأقوال واختلف اللغويون والنقاد في تفسير كلمة ( عَيْر) التي وردت في بيت للشاعر الجاهلي الحارث بن حلّزة اليشكري نصه :
رَ موال لنا وأنى الولاء !
زعموا أن كل من ضرب العَيْـ
فقيل : إنه أراد بـ (العير) الوتد ، وقيل : إنه أراد بها الضاربين العرب ؛ لأنهم كانوا أصحاب عمُد وأوتاد وخيام ، كما قيل أنه أراد عير العين ، وهو ما نتأ منها ، أي كل من ضرب عير عينه بجفنة ، وقيل : أراد بالعير ما يطفو على الحوض من الأقذاء ، وقيل إنه قصد جبلاً في الحجاز ، وقيل غير ذلك ؛ لأن كلمة (عير) تعني هذه المعاني كلها ومعاني غيرها([71]) ، وليس من قرينة بيّنة توضح المراد ولا من سبب يمنع إرادة أي من هذه المعاني ، والشاعر فحل مشهور لا يستهان بقوله أو يطرح ويتجاهل .. وهكذا كان التضارب ومن ثم التعليق والنقاش حول هذا البيت . وأصبح لغموض الكلمة والتباس معناها فيه دور فعال في التفكير والتعليق والاستشهاد بالإضافة إلى استحضار معاني الكلمة المفسَرة نفسها ، ما كان قريباً منها وما كان بعيداً عن الأذهان ربما من قبل بعض النقاد([72]) .
وقد احتوى القرآن الكريم والحديث الشريف على طائفة من الألفاظ المشتركة المعاني عنى بجمعها وتصنيفها عدد من علماء اللغة([73]) . سنذكر في أثناء حديثنا عن مصادر المشترك لاحقاً بعضاً منهم . وكان ذلك سبباً في اختلاف المفسرين وعلماء الفقه والأصول في تأويل كثير من آيات القرآن وتفسير مجموعة من الأحاديث النبوية ، مما أدى إلى الاختلاف في استنباط أو تقرير كثير من الأحكام الفقهية وفي تحديد بعض الأفكار والمواقف العقائدية . ودفع الأصوليين والفقهاء والمتكلمين للاهتمام بالمشترك اللفظي وبالمسائل الأخرى المتعلقة بدلالات الألفاظ عامة([74]) . كما دفع بعض للغويين أنفسهم إلى المزيد من الاهتمام بالمشترك اللفظي والتوجه لجمعه أو التأليف فيه والخوض في مناقشة ما يتعلق منه بألفاظ القرآن .
يقول أبو حاتم السجستاني في مقدمته لكتابه « كتاب المقلوب لفظه في كلام العرب والمزال عن جهته والأضداد » ، مبيناً ما حمله على تأليف هذا الكتاب : (( حملنا على تأليفه أنا وجدنا من الأضداد في كلامهم والمقلوب شيئاً كثيراً ، فأوضحنا ما حضر منه إذ كان يجيء في القرآن الظن يقيناً وشكاً ، والرجاء خوفاً وطمعاِ ، وهو مشهور في كلام العرب ، وضد الشيء خلافه وغيره ، فأردنا أن يكون لا يرى منْ لا يعرفُ لغاتِ العربِ أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ حينَ قالَ : إنها لكبيرةٌ إلا على الخاشعينَ * الذينَ يظنونَ مدحَ الشاكينَ في لقاءِ ربهمْ ، وإنما المعنى يستيقنونَ ، وكذلكَ في صفةِ منْ أوتيَ كتابهُ بيمينهِ منْ أهلِ الجنةِ هاؤم اقرءوا كتابيهْ * إنِّي ظننتُ ، يريد إنِّي أيقنتُ ، ولوْ كان شاكًّا لمْ يكنْ مؤمناً ، وأماَّ قولهُ : قلتمْ ما ندري ما الساعةُ إنْ نظنُ إلا ظناًّ فهؤلاء شكَّاكٌ كفاَّرٌ ))([75]).
ولا بد أن يكون المشترك اللفظي وفقاً لما سبق ذكره مدعاة لاهتمام المشرعين والقانونيين والمفكرين أو العقائديين في وقتنا الحاضر . حيث تتوقف كثير من القضايا الشرعية والقانونية والفكرية أيضاً على تحليل وفهم الوثائق والنصوص ذات الصلة فهماً صحيحاً دقيقاً مانعاً للتردد أو الشك . وما دام هناك ألفاظ مشتركة في اللغة سارية المفعول جارية الاستخدام ، نافذة التأثير فلابد أن يكون هذا الاهتمام موجوداً .
ومع ما تشهده اللغة من تطور مستمر وسريع لدلالة الألفاظ ومفاهيم الصيغ اللغوية وما يتبع ذلك من زيادة للمشترك اللفظي كماً ونوعاً واتساع معانيه أو تغيرها . يزداد تعلق هذا الجزء من اللغة بشؤون الحياة وقضايا العصر على اختلافها ، ولاسيما تلك القضايا التي تتوقف الأمور فيها على الفهم الصحيح الدقيق للوثائق المدونة والنصوص والعهود والمواثيق المحكية أو المسموعة فيها ، أو تترتب نتائج خطيرة أو مواقف حساسة فيها على الاختلاف في دلالة الألفاظ والصيغ اللغوية المستعملة في هذه الوثائق أو النصوص . كالقضايا السياسية ، وقضايا العلاقات الدولية والدبلوماسية والمعاملات التجارية والاقتصادية . ثمة تلك الموضوعات المتعلقة بصناعة المصطلحات العلمية وتحديد المفاهيم المرتبطة بها . ومن هنا يصبح المشترك اللفظي محط اهتمام رجال العلم والسياسة والفكر ، كما هو مجال اهتمام اللغويين والأدباء وعامة المثقفين والمتعلمين .
إن كل ما سبق ذكره يؤكد أن « المشترك اللفظي » في اللغة العربية لم يكن دليلاً ثابتاً على سعة اللغة ومرونتها وعاملاً في زيادة ثرائها وطواعيتها فحسب ، وإنما كان أيضاً سبباً في ظهور وتبلور كثير من الأعمال العلمية والأدبية وإنماء وتوسيع النشاطات الفكرية وفي إثراء العقل العربي عامة . وأن فاعليته في كل ذلك ما زالت قائمة في حياتنا الحاضرة ، ولاشك أن هذه الفاعلية ستكون أوسع وأكبر ما بقي الاهتمام باللغة وبتطوير القدرات التعبيرية والإنتاجية فيها، وما دام باب الاجتهاد مفتوحاً في التفسير والتأويل والاستنباط والاستنتاج والحكم ، وكانت هناك حرية للفكر والرأي والتعبير . وما دام التطور مستمراً في مستجدات الحياة ومستحدثات العصر وشؤونه . ومن هنا تنشأ الضرورة في وجود معجم متطور شامل جامع لكل ما وجد في اللغة العربية من ألفاظ مشتركة المعاني متمشية مع أصول اللغة ملبية لمتطلبات الحياة مناسبة لذوق العصر ومعبرة عن مستجداته ومستحدثاته المتطورة وفاعلة في مجال التعبير بأشكاله وأنشطته المختلفة.
مصادر المشترك
لقي المشترك اللفظي عناية اللغويين والمفسرين وعلماء الفقه والأصول القدامى كما سبق القول ، وألفت لجمعه وتصنيفه كتب عديدة منها ما اختص بالموجود منه في القرآن أو في الحديث الشريف ، ومنها ما عنى بعامة المشترك دون تخصيص . ومما وصل إلينا وتم طبعه ونشره من الصنف الأول كتاب « الوجوه والنظائر » لمقاتل بن سليمان البلخي (ت 150هـ)، و « الوجوه والنظائر » أيضاً لهارون بن موسى الأزدي (ت 170هـ) ، و « كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه في القرآن المجيد » للمبرد (ت 285هـ) ، وكتاب « الأشباه والنظائر في الألفاظ القرآنية التي ترادفت مبانيها وتنوعت معانيها » للثعالبي (ت 429هـ) ، ومن الصنف الثاني كتاب « الأجناس من كلام العرب وما اشتبه في اللفظ واختلف في المعنى » لأبي عبيد القاسم بن سلام
(ت 224هـ) ، و « المنجد فيما اتفق لفظه واختلف معناه لعلي بن الحسن الهنائي الأزدي الملقب بكراع النمل ( ت 310هـ ) ... أما ما ورد ذكره ولم يصل إلينا أو وصل ولم يطبع وينشر من هذه الكتب فكثير([76]) .
وبالنسبة لكتب المشترك اللفظي التي وضعت تحت عنوان « الأضداد » فإنها على كثرتها وتفاوت أحجامها وأشكالها لا توحي بعناوينها بالاختلاف أو التباين من حيث المضمون . ولم يصل إلينا منها - على حد علمي - ما يشير عنوانه إلى خصوصية معينة أو تفرد بنوعية مميزة من المشترك اللفظي ، أو الضد . ومن أبرز وأشهر ما ظهر من هذه المؤلفات : كتاب « الأضداد » لمحمد بن المستنير بن أحمد الملقب بقطرب (ت 206 هـ) ، و « الأضداد » لعبد بن محمد ابن هارون التوزي (ت 233 هـ) . و« الأضداد » ، لمحمد بن القاسم الأنباري (ت 327هـ) . و «الأضداد في كلام العرب » لأبي الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي (ت 359هـ) . و « الأضداد في اللغة » لناصح الدين بن المبارك الأنصاري (ت 569 هـ) . وقد قام الدكتور ( أوغست هفنر) Haffner , A في عام 1913م كما سبقت الإشارة بنشر أربعة كتب للأضداد الـعربـيـة في مجلد واحد لكل من أبي سعيد عبد الملك بن قُريب الأصمعي (ت 216هـ) وأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت 250هـ) وأبي يوسف يعقوب بن اسحق السكيت (ت 244هـ) ، والحسن بن محمد بن الحسن الصغاني (ت 650 هـ) . علماً بأنه قد نشر بعض هذه الكتب كل على حدة في طبعات مستقلة([77]) .
ويعد كتاب « الأضداد » ، لمحمد بن القاسم الأنباري في نظر محققه محمد أبو الفضل إبراهيم . أكثر معاجم هذا النوع شواهد وأوضحهـا عبارة وأوسعها مادة ، لأنه كما يقول : أتى على جميع ما ألف قبله وأربى عليه([78]) ، إلا أن كتاب «الأضداد في كلام العرب » لأبي الطيب اللغوي ــ الذي ألف كما يبدو من تاريخ وفاة مؤلفه بعد كتاب ابن الأنباري ــ يضاهيه في الواقع في سعة المادة وبسط الشرح وكثرة الاستشهاد وجودة التنظيم ، فقد اشتمل هذا الكتاب على (370) ضداً مرتبة في أصل الكتاب وفق التسلسل الهجائي([79]) ، بينما تضمن كتاب ابن الأنباري (296) ضداً . وردت في أصل الكتاب على غير ترتيب معين . أما « كتاب الأضداد » للصغاني ، فهو وإن لم يكن كسابقيه في الاستشهاد وزيادة الشرح والتوضيح إلا أنه تضمن كما يشير تسلسل الأرقام فيه (337) ضداً مرتبة على حروف المعجم([80]) .
ومع أن المؤلفات المذكورة وكتب ورسائل أخرى غيرها ([81]) مطبوعة ومنتشرة فإن أياً منها لا يمكن أن يشكل في الحقيقة معجماً متكاملاً ، يشتمل على كل ما ورثناه من الأضداد ويتناسب من حيث المادة والمنهج في التصنيف والترتيب والشرح مع معطيات هذا العصر وحاجاته ومع طرق التصنيف اللغوي والتأليف المعجمي ومناهجه المتطورة .
في بعض هذه الكتب ما لا يوجد في بعض آخر ، وفي بعضها حوشي غريب يمكن الاستغناء عنه ، لعدم حيويته وفاعليته في لغة العصر أو لمحدودية هذه الحيوية وهذه الفاعلية أو تخصيص كتب مستقلة بما يؤمل أن تكون له فائدة منه في المستقبل ، بينما لا يشتمل أي من هذه الكتب بطبيعة الحال على ما خلقته ظروف الحياة الجديدة أو الحاضرة منها . هذا كله بالإضافة إلى ما ينقصها من التنظيم المحكم في الفهرسة والتبويب والترتيب والتصنيف والإخراج . وما يعوز أكثرها من دقة التحديد واختصار الشرح والاقتصار على ما يهم القارئ . حيث يغص الكثير منها بالروايات والاستطرادات والشواهد القرآنية والأبيات الشعرية والشروحات المطولة والتداخل في تفسير المواد ، وما إلى ذلك مما عبر عنه وأيده ناصح الدين بن المبارك الأنصاري من قبل في مقدمته لكتابه المذكور (( الأضداد في اللغة )) ([82]).
يتألف كتاب « الأضداد » ، لمحمد بن القاسم الأنباري في طبعته التي بين أيدينا ([83]) على نحو المثال من (428) صفحة ، لا تتضمن سوى (300) من ألفاظ الأضداد أو الألفاظ المشتركة ([84]) ، غارقة في حشد كبير من الشواهد القرآنية والشعرية والأحاديث النبوية الشريفة والأرجاز والأقوال المأثورة الأخرى التي تثبت صحتها أو صحة استعمالها أو تبين الاختلاف في نطقها أحياناً ، مما يبلغ عدده (270) آية ، و (53) حديثاً نبوياً و (762) بيتاً من الشعر و(100) من الأرجاز ، هذا عدا أنصاف الأبيات ، وأسماء الرواة والمحدثين والشعراء والمفسرين والفقهاء ، وغير ذلك مما استغرق إحصاؤه وفهرسته بمجموعه (88) صفحة ، أضيفت لصفحات المتن المبينة فجعلت من الكتاب سفراً ضخماً تبلغ مجموع صفحاته (517) صفحة .
وقد تضمنت الشروح الواردة لعدد من ألفاظ الأضداد التي اشتمل عليها الكتاب المذكور كثيراً من الحشو والاستطراد والتوسع في ذكر أوجه الخلاف في تفسيرها وتحديد المفهوم منها وتباين القراء في نطقها إن كانت مما ورد في القرآن الكريم ، وما قد يرد من اختلاف اللهجات في معناها أو في استعمالها . هذا عدا سلسلة الروايات التي تسرد أحيانا لتوثيقها وعدا ذكر الفروق بين كل كلمة منها وبين ما قد يقاربها في النطق أو يشابهها في الرسم والشكل وذكر بعض الفوائد النحوية والصرفية ، وشرح بعض الشواهد الواردة على الكلمة وما إلى ذلك مما يدل على سعة اطلاع المؤلف وعميق معرفته وحسن تتبعه ويثري الكتاب ويفيد الباحث المتخصص المتعمق أو الأديب المتوسع ، ولكنه لا يهم المثقف العام أو المتعلم الناشئ ، بل إنه قد يصرفه عن الكتاب وعن متابعة البحث فيه عن مراده من الألفاظ التي عقد الكتاب في الأصل من أجلها ..
ورد شرح كلمة (الساجد) وحدها في الكتاب المذكور على نحو المثال في ما يقرب من أربع صفحات([85]) ، تضمنت من الشواهد ثلاث آيات قرآنية و (18) بيتاً من الشعر مع شروحات وتعليقات عليها، وأسماء لثمانية من الشعراء ورواة الشعر ، وشرحاً لستة من تصاريف الكلمة المذكورة . وإذا كان القارئ غير المتخصص محتاجاً لمعرفة مدلولات الكلمة التي تضمنتها الصفحات الأربع ومعرفة أوجه استعمالها في معانيها المجازية المتعددة ، فإنه غير محتاج لذلك الكم من الشواهد والاستطرادات في الشرح والتعليق وبيان مختلف تصاريف الكلمة ، وإن كان في الشواهد ما ينمي ذوقه الأدبي ويزيد من إطلاعه ، فليس لديه من الصبر على استقصاء وتتبع كل التفاصيل والشروح أو التعليقات الملحقة بهذه الشواهد ليصل إلى بغيته من معرفة المعاني المشتركة للكلمة المقصودة ، ولاسيما إذا كان في هذه التفاصيل وهذه الشروح كلمات وعبارات غامضة تحتاج بذاتها إلى شرح وتفسير .
إن الكتاب المذكور بالصورة التي ورد ذكرها لا يمثل معجماً بالمفهوم الحديث و الدقيق لهذا المصطلح ، فالمعجم وفق هذا المفهوم لا يهمل الجمل السياقية ولا الأمثلة التوضيحية ، ولكنه (( يشترط أن يكون مجموع الكلمات المستخدمة في الشرح محدودة العدد ، ومقتصراً على الكلمات التي يفترض مسبقاً أن يكون مستعمل المعجم على علم بها ))([86]) علماً بأن هذا الكتاب بصورته المبينة لا يختلف في الواقع كثيراً عن بقية كتب الألفاظ المشتركة التي سبق ذكرها وغيرها . فهي وغيرها مما لم يذكر تقريباً تحمل طابع الكتب الأدبية اللغوية العامة . ولذلك فالحاجة تبقى ماسة لمعجم شامل لكل ما ورث أو نشأ في عصرنا الحاضر من الألفاظ المشتركة المعاني .
ولقد أحسن الدكتور (أوغست هفنر) Haffner , A حين جمع مصنفات كل من الأصمعي والسجستاني وابن السكيت والصغاني في الأضداد كلها في كتاب واحد وأخرجها في تحقيق موفق وتنسيق مقبول([87]) ، إذ جعل ما احتوته هذه الكتب الأربعة من ألفاظ الأضداد كلها ضمن تسلسل رقمي واحد، بحيث يسهل على الدارس إحصاؤها ، ووضع لهذه الألفاظ فهرساً موحداً جامعاً لها مرتباً إياها على حروف المعجم ، فسهـل على القارئ إمكانية الرجوع إليها والإحاطة بها ، كما أرفق كل ذلك بفهارس مستقلة لأسماء الشعراء وقوافي الأبيات التي وردت ضمن شروحها فأفاد القارئ بها ونبه الدارس على ما في كتب المجموعة من مخزون أدبي واسع رائع . وبذلك يكون هذا المحقق قد جمع الكثير مما كان مفرقاً مشتتاً في إطار موضوعي واحد سهل المأخذ ، يهيئ للباحث في موضوع هذه الألفاظ بلا شك جزءاً كبيراً من مادته .
رغم ما سبق ذكره فإن هذا الكتاب في شكله ووضعه الحالي وبمجموع ما احتواه لا يصلح أن يكون معجماً لألفاظ الأضداد فضلاً عن كونه معجماً للألفاظ المشتركة المعاني بنحو عام ، وإن كان يمكن أن مهيئاً ومشجعاً على تكوين معجم شامل جامع لها . فمناهج السرد والشرح والتعليق باقية فيه على صورتها الأصلية ، وكثير من الألفاظ يتكرر ورودها وشرحها فيه ، والنقل أو الاقتباس في بعض المصنفات المجموعة من بعضها الآخر وارد وكثير ، ولم يكن بوسع المحقق بطبيعة الحال أن يحذف أو يغير في الأصول أو أن يعمد إلى تصفيتها مما تخللها من نواقص أو شوائب تتعلق بالنصوص ذاتها ..
لا أعرف للألفاظ المشتركة في اللغة العربية على عمومها معجماً أو كتاباً حديثاً خاصاً بها سوى : « معجم الألفاظ المشتركة في اللغة العربية » ، لعبد الحليم محمد قنبس ، الصادر عن مكتبة لبنان عام 1987م ، وهو كتاب مقبول الطباعة جيد الإخراج حسن العرض لمادته نوعاً ما ، ولكنه ضئيل الحجم قليل المحتوى ، قاصر عن الإحاطة بما وجد ووضع أو استجد من الألفاظ المشتركة المعاني ، وبما استحدث وتطور من معاني هذه الألفاظ في العصر الحاضر .
بذل صاحب هذا المعجم مجهوداً ريادياً يشكر عليه في جمع بعض الشتات مما كان في متناول يده من بعض المصادر القديمة للألفاظ المذكورة ، معتمداً في أكثر ذلك على ما ورد منها في معجم « لسان العرب » لابن منظور الأفريقي وفي بعض الموروث من كتب اللغة العامة وكتب الأضداد . ولكنه لم يخضع مادة كتابه لغربلة تامة ، كما أنه أهمل الكثير مما احتوته بعض الكتب الخاصة بالموضوع ، وما اشتملت عليه المعاجم اللغوية العربية الحديثة من ألفاظ مشتركة ومن معان للألفاظ التي أوردها في كتابه . إضافة إلى ذلك فإنه لم يتبع في عرض وتوثيق معاني الألفاظ التي اختارها منهجاً موحداً ثابتاً من حيث التحديد والشرح ، فهو يستشهد أو يمثل لبعض هذه المعاني من آيات من القرآن أو الحديث الشريف أو الشعر ، بينما يسرد البعض الآخر منها دون توثيق أو تمثيل أو تعليق ، كما أن الأمثلة ينقلها المؤلف من مصادرها في الغالب على علاتها ، دون تحقيق كاف ، ودون النظر إلى مدى صلاحيتها لتوضيح المعنى أو تحديده وتقريبه ، أو مقدار ما يكتنفها هي نفسها من غموض أو ثقل أو غرابة أو تحريف أو تصحيف([88]) .
حبذا لو اقتدي بمن حرصوا على إغناء لغاتهم وتمكين أهلها منها من أبناء الشعوب المتقدمة ووضع للمتعلمين ولعموم المثقفين والاختصاصيين معجم حديث للكلمات متعددة الدلالات عامة ، بنوعيها اللذين تحدثنا عنهما. يستمد مواده ، ليس من ما ورثناه من كتب أو رسائل خاصة بهذه الألفاظ فحسب ، وإنما يستمدها أيضاً من معاجم الألفاظ اللغوية العامة : القديم منها والحديث ، ثم من النصوص الأدبية القديمة ، لاسيما تلك النصوص الثرية بالألفاظ والمحسنات البديعية اللفظية من جناس وترصيع وطباق وغيره ، كالرسائل الأدبية القديمة والمقامات والتوقيعات ونصوص الشعر, وأخيراً من نصوص التخاطب العصري الفصيح ، المقروء منه والمسموع . (( فالحكم على دلالة اللفظ في نص ما أدق وأوثق مما لو استقيناه من المعاجـم وحدها )) ([89]).
و يجدر الاستعانة بالحاسب الآلي والتقنيات الأخرى ذات الصلة بصناعة المعجم الحديث ، في الرصد والتخزين والإحصاء والتحليل والغربلة والمقارنة والانتقاء والتصنيف والتنسيق والإخراج والمتابعة ، من أجل تحقيق معجم شامل دقيق ميسر للمشترك اللفظي ، أسوة بما تعمله المؤسسات اللغوية المتطورة في صناعة معاجمها .
إن كتب المشترك اللفظي القديمة في معظمهـا - كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق - غنية بالأمثلة والشواهد القرآنية والشعرية والنثرية وبالاستطرادات والفوائد اللغوية والبلاغية والنقدية التي تهم الكثير من الدارسين والباحثين المتخصصين بلا ريب ، إلا أنها قد تكون ثقيلة منفرة أو مشتتة للذهن بالنسبة لعامة المتعلمين والمثقفين في وقتنا الحاضر ؛ لأن الشواهد والأمثلة التي تشتمل عليها هذه الكتب ربما كانت هي نفسها محتاجة للشرح والتفسير ، وهذا ما يسبب التعثر أو الإبطاء في الوصول إلى الهدف المنشود . كما أن هذه الشواهد والأمثلة تظهر أو تجسد في كثير منها إن لم يكن معظمها الاستعمالات القديمة للمشترك اللفظي والمعاني التي لم تعد متداولة في الوقت الراهن ، ولربما كان لذلك أثار إيجابية في فهم النصوص التراثية ، ومن ثم في توثيق الارتباط بالتراث والاستفادة من تجاربه الفكرية والإبداعية النافعة . إلا أن المتعلم الحديث يهمه بالدرجة الأولى الاطلاع على ما بقي من تلك الاستعمالات حياً ساري المفعول مقبولاً في لغة الحاضر ، وعلى ما تجدد وتطور واستحدث أو أضيف منها ، ليتمكن من الجمع بين كل ما تتطلبه أنشطة التعبير في الحياة المعاصرة من المشترك اللفظي .
بناء على ما تقدم ذكره فالحاجة تبقى ماسة لمعجم انتقائي سياقي للمشترك اللفظي في اللغة العربية . يرصد كل ما نشأ منه وتطور واستقر وتجددت حيويته في لغة العصر . ويتنكب الحوشي والغريب الثقيل الذي لم يعد مستعملاً أو ليس فيه من الحيوية والمرونة ما يكفي لإنعاشه وإدراجه في هذه اللغة أو استثماره في فهم النصوص التراثية . كما يتولى توضيح ما صعب تفسيره أو إدراكه من معاني هذه الألفاظ بالأمثلة السياقية المستمدة من لغة الحاضر المرنة الحرة الميسرة . ولا مانع أن تكون هذه الأمثلة منتقاة من النصوص التراثية الثرية الفاعلة المفهومة المقتصرة على تحديد المعنى المقصود ومد مستخدم المعجم بما يزيد من فائدته اللغوية أو البلاغية والفنية والمعرفية في آن واحد ، ولكن دون استطراد أو إطالة . ولابد من الاستعانة في ذلك بما توصلت إليه النظريات الحديثة في إعداد مثل هذا المعجم وإخراجه([90]) .
الحواشي والتعليقات
(1)ستيفن أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ترجمة د. كمال محمد بشر (القاهرة : مكتبة الشباب ، 1975م)، ص ص 60 - ،61 112- 123 ؛ ،
John Lyons. Semantics (London: The Cambridge University Press, 1977), vol.2 p.55 Ladislav Zgusta. Manual of Lexicography (Mouton Hague, Paris. 1971), p.60 ff
(2)انظر أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ص 112.
(3)أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ص ،60 و ص 112 - 113.
(4)انظر جلال الدين السيوطي ، المزهر في علوم اللغة وأنواعها ، تحقيق أبو الفضل إبراهيم وآخرين ، ( القاهرة : دار إحياء الكتب العربية ، د . ت ) ، ص 369 .
(5)اكتفينا في الأمثلة المبينة بذكر القريب المستخدم من هذه المعاني بغية التقريب والاختصار .
(6)انظر الحسن ابن رشيق القيرواني ، العمدة في صناعة الشعر ونقده ، ط 4 ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد( بيروت : دار الجيل ، 1972م ) ، ج،1 ص 321 ، ج2 ، ص 97 .
(7)محمد بن القاسم الأنباري ، كتاب الأضداد ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت:المكتبة العصرية ، 1407هـ/1987م ) ، ص 374 . يحتوى هذا الكتاب على (357) من الأضداد .
(8)السيوطي ، المزهر في علوم اللغة ، ص 399 .
(9)لمزيد من التفصيل حول هذه المسألة أنظر د . احمد عبد الرحمن حماد ، عوامل التطور اللغوي ، دراسة في نمو وتطور الثروة اللغوية ( بيروت : دار الأندلس، 1403/1982)، ص ص 71- 84 .
(10)انظر ثلاثة كتب في الأضداد ، للأصمعي وللسجستاني ولابن السكيت والصغاني ، ويليها ذيل في الأضداد للصغاني ، نشر وتحقيق د .( أوغست هفنر) Haffner , A بيروت : مطبعة اليسوعيين ، 1912م ) ، لقد وضع المحقق الألفاظ الواردة في الكتب الأربعة كلها وفق تسلسل واحد آخر رقم فيه هو (706) ، انظر ص248
(11)انظر د. حسن ظاظا ، كلام العرب : من قضايا اللغة العربية ( بيروت : دار النهضة العربية ، ( 1976 ، ص ص 108-113 .
(12)انظر د. ربحي كمال ، التضاد في ضوء اللغات السامية : دراسة مقارنة ( بيروت : دار النهضة العربية ، 1975م. (
(13)انظر ، ستيفن أولمان ، دور الكلمة في اللغة ، ص 114- 116 .
(14)السيوطي ، المزهر في علوم اللغة ، ص 370 .
(15)السيوطي ، المصدر نفسه ، ص 388 .
(16)الآيات على التوالي هي : الآية 88/ سورة الكهف ،18 آية 12/سبأ 34 ، 61/الصافات 37 ، 79/ الكهف 18 ، 27/ الأنبياء 21 ، 13/ سبأ 34 .
(17)مقاتل بن سليمان البلخي ، الأشباه والنظائر في القرآن الكريم ، دراسة وتحقيق د. عبد الله محمود شحاته ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة ، 1395هـ/1975م ) .
(18)المعجم العربي الأساسي للناطقين بالعربية ومتعلميها ، تأليف وإعداد جماعة من كبار اللغويين العرب ) تونس : المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ، 1408هـ - 1988م ) ، ص 914 .
(19)احمد عبد الرحمن حماد ، عوامل التطور اللغوي ، ص 73 .
(20)انظر د . محمود فهمي زيدان ، في فلسفة اللغة ( بيروت : دار النهضة العربية ، 1405هـ/1985م ) ، ص 106.
(21)يعقوب بن إسحق السكيت ، كتاب الأضداد ، هفنر ، ثلاثة كتب في الأضداد ، ص 163.
(22)علي ابن إسماعيل ابن سيده ، المخصص ( بولاق ، 1316هـ ) ، ج3 ص 259 .
(23)ربحي كمال ، التضاد في ضوء اللغات السامية ، ص 4 .
(24)أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني : « كتاب المقلوب لفظه في كلام العرب ، والمزال عن جهته والأضداد » ، ثلاثة كتب الأضداد : للأصمعي وللسجستاني ولابن السكيت ويليها ذيل للصغاني ، نشر وتحقيق د أوغست هفنر ( بيروت : مطبعة اليسوعيين ، 1912م ) ، ص 127 .
(25)المصدر السابق نفسه ، ص 117 .
(26)جوزيف فندريس Vendryes ، اللغة ، تعريب عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص ( القاهرة : مطبعة لجنة البيان العربي ، 1370هـ /1950 ) ، ص254 .
(27)السيوطي ، المزهر ، ج1 ، 369 ؛ أولمان ، دور الكلمة ص 127 ، اسباب نشوء المشترك ؛ حماد ، عوامل التطور اللغوي ، ص 7
يَقُول حكِيم يُونَانيّ:
كُنتُ أبكِي لأنّني أمشِي بِدون حِذاء
ولكِنّنِي تَوقّفت عَن البُكَاء!
عِندَمَا رأيتُ رَجُلاً بِلا قدَمين / [الرياح لا تحرك الجبال ولكنها تلعب بالرمال وتشكلها كما تشاء ]
|
|