اليكــــــــــم الفتـــــــــــوى ..
نص السؤال :هل يجوز التبرع بالأعضاء سواء حياً أو ميتاً؟
الجواب :
قضية التبرع قضية معاصرة كثر حولها الخلاف بين الأطباء والفقهاء، وكنت قد بحث هذه المسألة في كتابي "مسائل فقهية معاصرة" وأنقل ما جاء في الكتاب بالتفصيل لأهمية الموضوع لمن أراد مراجعته، والله أعلم وأحكم:
ينقسم المتبرع إلى ميت وحي:
1 - أما بالنسبة للميت: فقد جاء في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية -رقم 99 بتاريخ 6/11/1402هـ ما يلي:
قرر مجلس الهيئة بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم أو ذمي إلى نفسه، إذا دعت الحاجة إليه، وأمن الخطر في نزعه، وغلب على الظن نجاح زرعه، وقرر بالأكثرية جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم، إذا اضطر ، وقرر بالأكثرية جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت إلى مسلم، إذا اضطر إلى ذلك، وأمن الفتنة ممن أخذ منه، وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه، كما قرر جواز التبرع إلى المسلم المضطر لذلك.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة، ما يلي:
يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو، أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك. بشرط أن يأذن الميت أو ورثته بعد موته، أو بشرط موافقة ولي أمر المسلمين، إذا كان المتوفى مجهول الهوية، أو لا ورثة له، ويجب أن تقيد هذه الفتوى بالقيد التالي: بشرط عدم تعرض الجثة للامتهان أو العبث بها، وذلك لكرامة الإنسان، وعدم جواز امتهانه حياُ وميتاً. قال تعالى: (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)).
وجاء في الحديث الصحيح: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر)، وعن عائشة -رضي الله عنها- : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً). قال الطيبي -رحمه الله- : فيه دلالة على أن إكرام الميت مندوب إليه في جميع ما يجب، كإكرامه حياً، وإهانته منهي عنها، كما في الحياة.
وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله- : الكبيرة التاسعة عشر والعشرون بعد المائة كسر عظم الميت والجلوس على القبور، ثم قال: عد هذين من الكبائر لم أره ولكن قد تفهمه هذه الأحاديث، لأن الوعيد الذي فيها شديد، ولا ريب في ذلك في كسر عظمه، لما لمت أنه ككسر عظام الحي.
وبمثل قرار هيئة العلماء بالسعودية أفتت لجنة الفتوى بدولة الكويت، ودار الإفتاء المصرية، ولجنة الفتوى في المملكة الأردنية الهاشمية، ولجنة الإفتاء للمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، ويستدل لهذا الرأي بالقواعد الفقهية التالية:
1 - الضرورات تبيح المحظورات.
2 - الضرر يزال.
3 - يرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما.
4 - المشقة تجلب التيسير.
وللمسألة نظائر تدل عليها منها:
أ - إذا وجد المضطر إنساناً ميتاً جاز له أكله - إن لم يجد غيره من حلال أو نجاسات-، لأن المفسدة في أكل لحم ميتة الإنسان أخف من المفسدة في إتلاف حياة إنسان حي.
ب - لو وجد المضطر من يحل قتله كالحربين والزاني المحصن، وقاطع الطريق الذي تحتم قتله...الخ، جاز له ذبحهم وأكلهم، إذ لا حرمة لحياتهم، لأنها مستحقة الإزالة، فكانت المفسدة في زوالها أقل من فوات حياة المعصوم.
ج - ما سبق ذكره في قطع فلذة كبد من فخذه ليأكلها.
وهنا يثار سؤالان:
الأول: هل يشترط إذن الميت أو وليه لأخذ شيء من أعضائه؟
الثاني: هل تعتبر السكتة الدماغية -موت الدماغ- موتاً حقيقياً؟
أ - إذا نظرنا في كتب الفقه أو القواعد -بالنسبة لإذن الميت أو وليه- نراهم لا يذكرون شيئاً عن ذلك، وكذا لم ترد أي إشارة إلى الإذن في قرار هيئة كبار العلماء بالسعودية. وقيدت فتوتا دار الإفتاء المصرية -رقم 1069، ورقم 1078- الميت الذي يجوز نقل أعضائه بمن لا أهل له، حيث جاء في الفتوى -رقم 1069- ما يلي: "ونرى قصر هذا الجواز على الموتى الذين لا أهل لهم".
أما فتوى وزارة الأوقاف الكويتية -رقم646- فقد صرحت بعدم الحاجة إلى إذن من الميت أو أوليائه، حيث جاء فيها ما يلي: "إذا كان المنقول منه ميتاً جاز النقل سواء أوصى أم لا، إذ أن الضرورة في إنقاذ حي تبيح المحظور، وهذا النقل لا يصار إليه إلا للضرورة. ويقدم الموصي له في ذلك عن غيره، كما يقدم الأخذ من جثة من أوصى، أو سمحت أسرته بذلك عن غيره".
وهذا الرأي موافق لقواعد الضرورة، كما أن فقهاءنا في السابق لم يكونوا يتصورون مثل هذا الأمر -غالباً- إلا في مكان لا يوجد فيه أهل للميت، لذا لم يشترطوا الإذن.
أما قرار مجمع الفقه الإسلامي فقد صرح بوجوب إذن الميت أو ورثته بعد موته، أو إذن ولي الأمر بالنسبة لمن لا أهل له، أو مجهول الهوية. وبمثل هذا أفتت لجنة الفتوى بالأردن، ومثلها الفتوى رقم -1323- الصادرة عن دار الإفتاء المصرية، حيث جاء فيها ما يلي:
ويكون قطع العضو أو قطع جزئه من الميت إذا أوصى حي بذلك قبل وفاته، أو بموافقة عصبته بترتيب الميراث، إذا كانت شخصية المتوفى المأخوذ منه معروفة، وأسرته وأهله معروفين، أما إذا جهلت شخصيته أو عرفت وجهل أهله فإنه يجوز أخذ جزء من جسده نقلاً لإنسان حي آخر، ستفيد منه في علاجه، أو تركه لتعليم طلاب كليات الطب، لأن في ذلك مصلحة راجحة تعلو على الحفاظ على حرمة الميت، وذلك بإذن من النيابة العامة، التي تتحقق من وجود وصيته، أو إذن من صاحب الحق من الورثة، أو إذنها هي في حالة جهالة شخص المتوفى، أو جهالة أسرته.
وهذا القول وإن كان لا يتفق ومقتضى القواعد، فإنه يصار إليه استحساناً وذلك لفساد الزمان، وخراب الذمم، إذ أنه لو فتح هذا الباب بلا قيود، لتعرضت القبور للنبش والجثث للبيع.
ونظير هذه المسألة القول بتضمين الأجير المشترك. قال الشاطبي -رحمه الله- : "إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع". قال علي -رضي الله عنه-: "لا يصلح الناس إلا ذاك".
ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط، وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالها لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، وبقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين، هذا معنى قوله "لا يصلح الناس إلا ذاك".
وتشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يبيع حاضر لباد، وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فتضمين الصناع من هذا القبيل.
ويستأنس -أيضاً- لهذا القول بالقاعدة القائلة: "الاضطرار لا يبطل حق الغير". وهذه القاعدة تعتبر قيداً لقاعدة " الضرورات تبيح المحظورات", فالاضطرار وإن كان في بعض المواضع يقتضي تغيير الحكم من الحرمة إلى الإباحة كأكل الميتة، وفي بعضها الترخيص في فعله -مع بقائه على الحرمة- ككلمة الكفر، لأن الضرورات تبيح المحظورات، إلا أنه على حال لا يبطل حق الغير، وإلا لكان من قبيل إزالة الضرر بالضرر، وهذا غير جائز، ومناف لقاعدة "الضرر لا يزال بمثله".
ب - أما بالنسبة لاعتبار السكتة الدماغية -موت الدماغ- موتاً حقيقياً فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في المسألة, تبعاً لاختلاف الأطباء فيها، فبعض الأطباء يرون أن موت الدماغ -الموت الإكلينيكي- يعتبر موتاً حقيقياً، وعلى رأس هؤلاء رئيس الأطباء بجمهورية مصر العربية الدكتور حمدي السيد، حيث يقول: السنوات الماضية شهدت تقدماً كبيراً في الطب وأجهزته، وخاصة أجهزة التنفس الاصطناعي، العناية المركزة، ووسائل الإنعاش، وهذه الأجهزة تبرز لنا وفاة المخ قبل وفاة أعضاء الجسم، وإذا مات المخ فسوف تموت كل أعضاء الجسم لاحقاً، فالمخ هو العضو المهيمن على الجسم كله، ولم يحدث أن توفى مخ المريض واستعاد حياته مرة أخرى، ويضيف النقيب أن تعريف الوفاة بتوقف المخ سيساعد الأطباء على إجراء عمليات نقل الكبد وكلى وقلب من إنسان توقف ومات مخه، ومازالت أعضاؤه تعمل؛ حيث إن النقل لا يصلح إلا في الساعات اللاحقة لوفاة المخ مباشرة، وإذا تأخر فسوف تموت الأعضاء.
ويقول الدكتور السيد: الشخص الذي يصاب بتلف شامل ونهائي في مخه يعتبر في عداد الموتى، وإن ظلت بقية أعضاء جسمه تعمل أمامنا في غرفة العناية المركزة، حيث تساعد الأجهزة الصناعية بعض أعضاء جسمه على العمل، ومن ثم فإن رفع الأجهزة عنه لا يعد قتلاً، لأن الوفاة في هذه الحالة تكون قد حدثت بالفعل مع موت المخ -وإن ظل قلبه ينبض-.
يَقُول حكِيم يُونَانيّ:
كُنتُ أبكِي لأنّني أمشِي بِدون حِذاء
ولكِنّنِي تَوقّفت عَن البُكَاء!
عِندَمَا رأيتُ رَجُلاً بِلا قدَمين / [الرياح لا تحرك الجبال ولكنها تلعب بالرمال وتشكلها كما تشاء ]
|
|