23-07-2008
|
#12
|
ضَوْء مَجْنُوْن
|
|
من مواضيعي |
|
|
قراءة في فكر النهضة
رأي عُمان
قراءة في فكر النهضة
كنز معرفي ثري تستلهم منه الأجيال
عبد الله بن ناصر الرحبي
إن قراءة جادة للتطور في تاريخ أي مجتمع تتطلب في المقام الأول تجرد الباحث من المعايير النمطية في وعي العالم، وتكون مهمة القراءة أكثر تعقيدا عندما يتعلق الأمر بإعادة التفكير في الذات ومنجزها، ما الذي قدمته وما المطلوب منها؟ وكيف للباحث أن يتجاوز شروط الأنا وقلقها اتجاه مكتسبها إلى تحقيق عقلانية براغماتية بهذا المكتسب، تتيح معرفة جديدة تفتح أفقها لتفسير إنسانوي وحداثوي يحمل اشتراطات الدينامكية والتفاعل الحيوي مع مجمل المكتسبات الحضارية البشرية.
بالنظر إلى التجربة النهضوية في عمان، فإن قراءة ذاتية سوف تقع في أسر التفسيرات الكلاسيكية التي تنظر إلى الأشياء بمنظور المقارنة الكمي ووضع المتحققات في ميزان بكفتين متوازيتين ومن ثم اللجوء إلى القياس المعياري الذي يرجح كفة على أخرى، بيد أن هذه الطريقة تواجه بإشكال المباشرة والنمط وتخضع لقيود سلطة الذات غير المتخارجة من شعورها وإحساسها الفوقي إن لم تتخلص من الأفكار المسبقة والأحكام التقليدية. فالقراءة العملية والعلمية إذن هي تلك التي تبتعد عن كل هذا التدوير الشكلاني لتنحو إلى العقلانية البحتة والمجردة، تلك التي تركز على المنجز الإنساني والمعرفي، باعتبار الإنسان هو القيمة الجوهرية لأي بناء، ولأن المعرفة هي رأس سنام التحول الأساسي الذي يشرح مدى التنمية الحقيقية في أي مجتمع حديث.
بهذه المقدمات النظرية فإن مشروع النهضة العمانية الحديثة الذي وضع تنظيراته وعمل على تحويلها من مجرد الحلم إلى الواقع الشاخص، جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـــ حفظه الله ورعاه ـــ يتطلب من الذات العمانية أن تعيد التفكير فيه بالمناظير التي سبقت الإشارة إليها، أي من خلال تجريد عقلاني يقرأ ويفسر ويحلل، ويستنبط الحكم والقيم الجديدة التي تشكل في محصلتها فلسفة راقية وعصرية تخدم في تطويع المستقبل بدرجة أفضل مثلما ساهمت في تشكيل الأمس عبر 38 سنة من هذه الحركة المتنامية في كافة قطاعات الحياة.
وقد حدث ذلك بمشاركة اجتماعية كان لها دور إحلال الموجهات والسنن إلى مشاريع تنموية لم تتعامل مع العصرنة بمستوى خارجي بل ذهبت إلى عمق مدلولاتها في إنجاز معادلة تبدو من البداية صعبة التحقق، لكن بالحكمة والتأمل الاستشرافي واستيعاب إمكانية الأرض والإنسان كانت تلك المعادلة قد تحولت إلى صياغة مرئية تفاعلت معها الثقافة العمانية بإرثها الضارب بجذوره في عمق تربة التاريخ الإنساني.
إذا ما توقفنا عند النقطة الأخيرة وبالعودة إلى الوراء في الزمن، كانت ستبدو عملية أي تنمية أو نهضة على أرض عمان معقدة وربما تقترب من درجة المستحيل، ذلك بالنظر إلى عمان ما قبل سبعينات القرن العشرين، في ظل تفشي الجهل والأمية وانخفاض معدلات الرعاية الصحية وعدم تجاوز الإنسان للتفكير القبلي، وقد انعكس هذا على دخول عمان في صراعات ونزاعات داخلية غيبت مفهوم المواطنة وجعلت إمكانية مجرد التفكير في المستقبل مهمة غاية في الارتباك والتمثل.
لنرى كيف كانت الاشتراطات معقدة في حد ذاتها، لكن كاريزما جلالة السلطان المعظم بالاستناد إلى تعليمه وخبراته غير النمطية وعقله الكوني، استطاعت أن تجعل المعقد بسيطا بصنع أطر نظرية وفلسفية تسندها رؤية متبصرة أمكن لها أن تقفز بعمان وفي زمن وجيز قياسا بعمر الشعوب وبدورة التاريخ والزمن الذي من المفترض أن يأخذه أي مشروع تحديثي. وبهذه النعمة الإلهية أن وهب الله عمان رجلا كجلالة السلطان، كان التغيير عملية متسارعة بخطوات راسخة، وكان التخطيط يسبق العمل، والإرادة تتقدم على أي فعل، وقبل ذلك الحب الصادق الذي هو الشرط المركزي لقيام علاقة تفاعلية.
وقد تراكم خلال ما يقارب أربعة عقود من الزمن تراث عظيم من الفكر النهضوي الذي يشكل كنزا معرفيا ثريا بإمكانه المساهمة في صناعة عمان ولحقب ممتدة طويلا في المستقبل، لكن هذا يتطلب منا إعادة التفكير في هذا الفكر النهضوي بعمق وببحوث ثاقبة تكون بمثابة سبيل لقراءة الذات بوعي جديد، يتقاطع مع شروط الغد والحضارة الكونية. هذا العمل في حد ذاته لن يكون هدفا مرحليا، بل رسالة تستبق الزمن وتتجاوز الآن إلى دور الإنسان في محصلة الحراك الإنساني، تفاعلا وتنويرا وتبشيرا. وقد آن الأوان للبدء في هذا المشروع الذي سيضاف إلى مكتسبات عمان على مستوى الداخل والخارج.
إن الفكر العماني وفلسفة القائد يشكلان المحورين الأساسيين لهذا العمل التنويري الضخم، الذي لو أمكن إنجازه لكان لعمان أن تلعب دورا فاعلا في تطويع فرص أفضل وانفتاح أرحب في العقود القادمة من الألفية الثالثة، التي هي ألفية المعرفة وفق ما جاءت به شروط التحول الكوني في الحراك المعلوماتي السريع الذي استطاع أن يطوي ويغير النمط التقليدي لفكر الزمن وعلاقتنا به، الأمر الذي جعل الإنسان العصري كائنا معلوماتيا في حد ذاته لا يستطيع أن يتطور ولا أن يقدم رؤى إيجابية للحياة والعالم ما لم يكن متسلحا بالمعلومة، ليس هذا فحسب بل القدرة السريعة والعلمية والصحيحة على تحليل هذه المعلومة والانطلاق بها لإيجاد أفق جديد يساهم في تطوير العلاقة بين الكائن والزمان والمكان، تلعب دورا في تحويل فكر النهضة إلى جدل معرفي إنسانوي يؤدي دور بوصلة الرؤية ويفتح إشارات الإضاءة لعقل مثقف تنويري يتمتع بخبرات واعية يستطيع عبرها أن يحقق فتوحات ثقافية ومعرفية جديدة.
وبالرجوع إلى فكر جلالة السلطان سنجد أن مقولة المعرفة كانت قد أسست لدخول النهضة العمانية في مرحلة رابعة من التحديات، التي تتطلب من الإنسان العماني أن يقوم فيها بدور فاعل ليس على مستوى المشاركة فحسب، بل المبادرة بإطلاق العنان للعقل والتفكير، وليس على مستوى التطوع فحسب بل بواجب وفرض يمليه الانتماء للوطن.
إذا كانت النهضة العمانية قد مرت بمراحل ثلاث، هي مرحلة التأسيس والتخطيط وتأليف القلوب وتحقيق مفهوم المواطنة وردع الفكر الباطل، والتي تزامن فيها فتح كتاب العلم بنشر المدارس والتوسع في التعليم وفرصه والصحة وتشكيل العقل العلمي، فإن المرحلة الثانية كانت مرحلة البناء والتنمية التي تحولت فيها عمان إلى ورشة عمل جماعية شارك فيها الجميع كبارا وصغارا، فانعكس ذلك في المكتسبات الجلية على مستويات البنية التحتية والفوقية من طرق وجسور وبنايات ومصانع ومشروعات مختلفة، ثم كانت المرحلة الثالثة التي فتحت الأفق للمشاركة الوطنية في صنع القرار والفاعلية في إدارة الحياة بعد أن ترسخ الوعي بالمواطنة وأصبح الإنسان العماني قادرا على حمل الأمانة والمساهمة بشكل إيجابي في رفد الوطن بفكره وبرؤاه، وكان القائد يعي جيدا أن هذا التمرحل كان ضروريا ومطلوبا بالنظر إلى ما كان في الأمس من مشكلات وتعقيدات تمت الإشارة لها سلفا في بداية المقال، وفي المرحلة الثالثة كان أن قامت مؤسسات الشورى والمشاركة في صنع القرار، بالاستناد إلى توازن أصيل استطاع أن يجمع بين الموروث والعصري في وفاق خلاق وجمالي من حيث النظرية والتطبيق على أرض الواقع.
إن المرحلة الجديدة والرابعة التي بشّر بها فكر جلالة السلطان هي مرحلة الانتقال بالمنجز والعلمي إلى المعرفي المبتكر القادر على توليد الأفكار والإبداع بالاستفادة من التجارب والخبرات التي تراكمت في السنوات التي خلت، وقد أشار جلالته إلى أن المعرفة تعني أن يكون العلم فاعلا، حيث أن العلم ليس إلا مجرد تحصيل كمي لم يخضع للغربلة والدراسة والتحميص والتحليل ليكون جديرا بالتأليف والتوليد والتنمية الحديثة لمجتمعات ما بعد الحداثة التي تدير مشروعاتها عبر ذهنية الفكر، بعيدا عن الأطر التقليدية القائمة على مجرد الحشو والبناء الأفقي للعقل. ولهذا يكون الاعتقاد بأن الوقت قد آن للشروع في تطبيق مبدأ المعرفة كرافد من روافد النهضة العمانية، يكون له دور سقاية الأذهان بقدرات على تحويل التراكم العلمي والخبرات إلى بناء عقلي قابل للتحول إلى منجزات أكثر قابلية للاندماج في شروط المجتمعات الأكثر حداثة وانفتاحا على مقولات العصر والكونية الجديدة.
وليس من المجهول أن مراكز المعرفة والدراسات الاستشرافية والتحليل التنويري، تلعب دورا استراتيجيا في تحقيق عدد من الثمرات، منها كأمثلة:
إعادة إنتاج المكتسب النظري والعملي في شكل نظريات بناءة وقادرة على تشكيل بوصلات المستقبل وإدارة الحياة بشكل أفضل.
كما أن هذه المراكز لها دور التوثيق الذي يتجاوز مفهوم الأرشفة التقليدي إلى (كائنية المعلومة) بتحولها إلى جدل متحرك لها قدرة النفاذ والتأثير على الذهن، باستجابة الذهن نفسه لشرط القدرة على التحليل والقراءة الفاحصة التي تفرز بين الأشياء.
أيضا تحمل مثل هذه المراكز الاستشرافية مهمة تاريخية في إيجاد علاقات غير نمطية بين مسارات الزمن في حركته الخطية والدائرية، بإعادة إنتاج المكتسب البعيد الأثر، من منجز الماضي السحيق إلى الحاضر النهضوي.
بيد أن ما يشار إليه بشكل واضح وجلي أن الهدف الجوهري هو إحلال فكر جلالته الذي رأينا ثمراته في النهضة، إلى مشروع مستقبلي يقوم على مقولته بشأن المعرفة. ولعل المراقب الحصيف لخطب جلالته في المرحلة الجديدة من النهضة، سيلاحظ أنها لا تطوّل ولا تستغرق في الوصفيات ووضع التفاصيل، بل تترك للمواطن المشاركة بالتفسير والقراءة والتأويل، بمعنى أنها تلتزم بذات الفلسفة التي أكد عليها جلالته من فتح الأفق للذهن لكي يكون قادرا على رسم دوره، أي فلسفة المعرفة ومشروع تجاوز النمط والتقليد في التفاعل مع العلم.
لقد رسّخ جلالة السلطان قابوس المعاني اللازمة لقيام الإنسان العماني بدوره ومبادرته في كافة سبل الحياة، من طور الاعتماد على عرقه وصبره في توفير مدخوله وسبل معاشه، إلى طور الاعتماد على عقله في إمكانية توليد المشروعات التي يكون لها دور التنمية والإضافة لمشروع البناء والتحديث. وهو أمر يجب أن نفهمه بعيدا عن الاستجابة المباشرة، بمعنى أن إعادة قراءته يهيئ لنا أن ندرك أن مشروع النهضة العمانية هو أعمق تأكيد على أن يكون الإنسان معتمدا على الذات، منميا لها، قادرا على السير بمفرده نحو تحقق منجزه، وهو المعنى العصري الفريد، الذي كان تأكيده منذ أول خطاب ألقاه جلالته يوم تسلمه مقاليد الحكم.
وفي الختام نركز على أن التحدي الذي ينتظر أي مواطن عماني اليوم، هو أعسر مما كان عليه بالأمس، لأن النهضة هي طريق طويل لا يعرف التوقف ولا مجرد الاسترخاء، إنها حركة دؤوبة من العمل والإنجاز، وقبل كل شيء إعمال العقل والقدرة على توظيفه بتحريك الخيال وإبداع الفكر الجديد القادر على الدخول بعمق في لب مفاهيم العصر، بشرط أن يكون الكائن مدركا تماما أنه لا يتخلى عن جذره ولا انتمائه ولا خصوصيته التي هي جوهره الروحاني وسبب من أسباب تعلقه بالوجود.
جريدة عمان 23 / 7 / 2008 م
صَبَاحُنَا مَضَى وَقَد بَلَّل أياديْنا بِلُؤْلُؤَات ٍ مِن الْنــــــــدَى
حِيْنَمَا نَادَى الْمُؤَذِّنُ " الْلَّه أَكْبَر " وَمطرُ نَدِي ُ يُغَطِّيْنَا
صَلاةُ وَمَطَرُ صيف ... وَسُكُوْن ُ الْفَجْر ِ مَلأ جَوَارِحُنــــا
اسم العميل: البراء
رقم العميل: 004
الحزب: 04
المهمة: اجتياح حصن عمان |
|
|
|