هذه هي الحلقة (17) من كتاب استمتع بحياتك للدكتور محمد العريفي
لا تتدخل فيما لا يعنيك
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ..
ما أجمل هذه العبارة و أنت تسمعها من الفم الزكي الطاهر .. فم رسول الله – صلى الله عليه و سلم -..
صحيح.. تركه ما لا يعنيه.. كم هم ثقلاء أولائك الذين يزعجونك بالتدخل فيما لا يعنيهم .. يشغلك إذا رأى ساعتك .. بكم اشتريتها ..
فتقول : جاءتني هدية ..
فيقول: هدية !! ممن ؟؟
فتجيب : من أحد الأصدقاء ..
فيقول : صديقك في الجامعة .. أم في حارة .. أم أين ؟!
فتقول: والله..آآآ .. صديقي في الجامعة ..
فيقول : طيب .. ما المناسبة ؟!
فتقول : آآآ .. يعني .. مناسبة أيام الجامعة ..
فيقول : مناسبة إيش؟!! نجاح.. أم كنت في رحلة..أو يمكن .. أأ ..
ويستمر في استجوابه لك على قضية تافهة ..!! بالله عليك ألا تحدث نفسك أن تصرخ به : لااااا تتدخل فيما لا يعنييييك !!..وقد يزداد الأمر سوءاً لو أحرجك بالسؤال في مجلس عام فسبب لك إحراجاً..
أذكر أني كنت في مجلس مع عدد من الزملاء.. بعد صلاة المغرب .. رن هاتف أحدهم .. كان جالساً بجانبي.. أجاب :نعم ؟
زوجته: ألو..وينك يا حمار؟! كان صوتها عالياً لدرجة أني سمعت حوارهما..
قال : بخير الله يسلمك (!!!) ..( و يبدو أنه قد وعدها أن يذهب بها بعد المغرب إلى بيت أهلها و انشغل بنا ).. غضبت الزوجة: الله لا يسلمك.. أنت مبسوط أنك مع أصحابك و أنا انتظر.. والله إنك ثور (!!)..
قال : الله يرضى عليك ..أمرك بعد العشاء..
لاحظت أن كلامه لا يتوافق مع كلامها.. وأدركت أنه يفعل ذلك لكيلا نفسه.. انتهت مكالمته..
جعلت ألتفت إلى الحاضرين و أتخيل أن واحداً منهم سأله: من كلمك؟ وماذا يريد منك؟ و لماذا تغير وجهك بعد المكالمة ..؟!! لكن الله رحمه لأن أحداً لم يتدخل فيما لا يعنيه..
********
و مثله لو زرت مريضاً.. فسألته عن مرضه .. فأجابه بكلمات عامة : الحمد لله.. شيء بسيط مرض صغير و انتهى.. أو نحوها من العبارات التي لا تحمل جواباً صريحاً..
فلا تحرجه بالتدقيق عليه : عفواً.. يعني ما هو المرض بالضبط ؟ وضح أكثر ..!!ماذا تعني ..!! ونحو ذلك..
عجباً!! ما الداعي لإحراجه ..؟
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ..يعني تنتظر أن يقول لك : أنا مريض بالبواسير.. أو مصاب بجرح في..أو..
ما دام أنه أجاب إجابة عامة فلا داعي للتطويل معه.. ولا أعني بهذا عدم سؤال المريض عن مرضه ؟ إنما أعني عدم التدقيق في الأسئلة..
*****
ومثله.. الذي ينادي طالباً أمام الناس في مجلس عام .. ويسأله بصوت عالٍ : هاه يا أحمد.. نجحت ؟..فيقول : نعم..
فيسأله : كم نسبتك ؟ كم ترتيبك في الفصل ؟
إن كنت صادقاً في اهتمامك به فاسأله على انفراد ينك و بينه .. ثم لا داعي للتدقيق..كم نسبتك..لماذا لم تذاكر..لماذا لم تقبل في الجامعة .. إن كنت مستعداً لإعانته فقف معه جانباً وحدثه بما تريد.. أما نشر غسيله أمام الناس..فلا..
قال – صلى الله عليه و سلم - : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ..
لكن انتبه !! لا تعط الموضوع أكبر من حجمه..
****
سافرت إلى المدينة النبوية قبل مدة .. كنت مشغولاً بعدد من المحاضرات .. فاتفقت مع شاب فاضل أن يأخذ ولدي عبد الرحمن و إبراهيم بعد العصر إلى حلقة تحفيظ أو مركز صيفي ترفيهي.. ويعيدهم بعد العشاء ..
كان عبد الرحمن في العاشرة من عمره .. خشيت أن يسأله ذلك الشاب من باب الفضول أسئلة لا داعي لها.. ما اسم أمك؟ أين بيتكم؟ كم عدد إخوانك ؟ كم يعطيك أبوك من المال؟
فنبهت عبد الرحمن قائلاً: إذا سألك سؤالاً غير مناسب.. فقل له: قال – صلى الله عليه و سلم -: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.. وكررت عليه الحديث حتى حفظه..
ركب عبد الرحمن و أخوه..مع الشاب..كان عبد الرحمن مشدودا متهيبا..
قال الشاب متلطفاً : حياك الله يا عبد الرحمن..
فأجابه بحزم : الله يحيك ..
أراد الشاب المسكين أن يلطف الجو..فقال: الشيخ عنده محاضرة اليوم ؟!
حاول عبد الرحمن أن يتذكر الحديث فلم تسعفه ذاكرته..فصرخ قائلاً: لا تتدخل فيما لا يعنيك !!
قال الشاب : لا .. أقصد .. بل حتى أحضر و أستفيد..
فظن عبد الرحمن أنه يتذاكى عليه : فأعاد الجواب : لا تتدخل فيما لا يعنيك ..
قال الشاب عفواً عبد الرحمن أعني..
فصرخ عبد الرحمن: لااااا تتدخل فيما لا يعنيك!!
ولم يزل هذا حالهما حتى رجعا !! فأخبرني عبد الرحمن بالقصة مفتخراً فضحكت و فهمته الأمر مرة أخرى..
ورشة عمل ..
مجاهدة النفس على التحرر من التدخل في شئون الآخرين .. متعبة في البداية .. لكنها مريحة في النهاية..