وعثر على كتابة في خرائب "زيد" بين قنسرين ونهر الفرات جنوب شرقي حلب، كتبت بثلاث لغات: اليونانية والسريانية والعربية، يرجع تأريخها إلى سنة "823 للتقويم السلوقي"، الموافقة لسنة 512م. والمهم عندنا، هو النص العربي، ولا سيما قلمه العربي. أما من حيث مادته اللغوية، فان أكثر ما ورد فيه أسماء الرجال الذين سعوا في بناء الكنيسة التي وضعت فيها الكتابة.
وأرخت كتابة "حرّان" اليونانية بسنة أربع مئة وثلاث وستين من الأندقطية الأول، وهي تقابل سنة 568م، والأندقطية، هي دائرة ثماني سنين عند الروماينين، وكانت تستعمل في تصحيح تقويم السنة. أما النص العربي، فقد أرخ "بسنه 463 بعد مفسد خيبر بعم" "عام". ورأى الأستاذ "ليتمن" أن عبارة "بعد مفسد خيبر بعم"،تشير إلى غزوة قام بها أحد أمراء غسان لخيبر. وفي استعمال هذه الجملة التي لم ترد في النص اليوناني، دلالة على أن العرب الشماليين كانوا يستعملون التواريخ المحلية، كما كانوا يؤرخون بالحوادث الشهيرة التي تقع بينهم.
أما الكتابات الصفوية والثمودية واللحيانية، فإن من بينها كتابات مؤرخة، إلا ان توريخها لم يفدنا شيئاً أيضاً. فقد أرخت على هذا الشكل: "يوم نز هذا المكان" أو "سنة جاء الروم". ومثل هذه الحوادث مبهمة، لا يمكن أن يستفاد منها في ضبط حادث ما.
هذا وقد أشار "المسعودي" إلى طرق للجاهليين في توريخ الحوادث، تنفي مع ما عثر عليه في الكتابات الجاهلية المؤرخة، فقال: "وكانت العرب قبل ظهور الإسلام تؤرخ بتواريخ كثيرة، أما حمير وكهلان ابنا سبأ بن يشجب يعرب بن قحطان بأرض اليمن، فإنهم كانوا يؤرخون بملوكهم السالفة من التبابعة وغيرهم"، ثم ذكر أنهم أرخوا أيضاً بما كان يقع لديهم من أحدا جسيمة في نظرهم، مثل "نار صوان"، وهي نار كانت تظهر ببعض الحرار من أقاصي بلاد اليمن، ومثل الحروب التي وقعت بين القبائل والأيام الشهيرة وقد أورد جريدة بتواريخ القبائل إلى ظهور الإسلام. وذكر "الطبري" أن العرب "لم يكونوا يؤرخون بشيء من قبل ذلك، غير أن قريشا كانوا -فيما ذكر- يؤرخون قبل الإسلام بعام الفيل، وكان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المذكورة، كتأريخهم بيوم جبلة وبالكلاب الأول والكلاب الثاني".
وقد ذكر المسعودي أن قدوم أصحاب الفيل مكة، كان يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين -وثمانين سنة للاسكندر، وست عشرة سنة ومئتين من تاريخ العرب الذي أوله حجة العدد "حجة الغدر"، ولسنة أربعين من ملك كسرى أنوشروان. ولم يشر المسعودي إلى العرب الذين أرخوا بالتقويم المذكور، غير أننا نستطيع أن نقول إن "المسعودي" قصد بهم أهل مكة، لأن حملة "أبرهة" كانت قد وجهت إلى مدينتهم، وأن الحملة المذكورة كانت حادثاً تاريخياً بالنسبة إليهم، ولذلك أرّخوا بوقت وقوعها.
ويرى كثير من المستشرقين والمشتغلين بالتقاويم وبتحويل السنين وبتثبيتها، وفقاً لها، أن عام الفيل يصادف سنة "570" أو "571" للميلاد، وذلك يمكن اتخاذ هذا العام مبدءاً نؤرخ به على وجه التقريب الحوادث التي وقعت في مكة أو في بقية الحجاز والتي أرّخت بالعام المذكور.
2 - للتوراة وللتلمود والتفاسير والشروح العبرانية
وقد جاء ذكر العرب في مواضع من أسفار التوراة تشرح علاقات العبرانيين بالعرب. والتوراة مجموعة أسفار، كتبها جماعه من الأنبياء في أوقات مختلفة، كتبوا أكثرها في فلسطين. وأما ما تبقى منها، مثل حزقيال والمزامير، فقد كتب في وادي الفرات أيام السبي، وأقدم أسفار التوراة هو سفر "عاموس" "Amos"، ويظن أنه كتب حوالي سنة 750 ق. م.
وأما آخر ما كتب منها، فهو سفر " دانيال" "Danial" والإصح*********ن الرابع والخامس من سفر " المزامير". وقد كتب هذه في القرن الثاني قبل المسيح.
فما ذكر في التوراة عن العرب يرجع تاريخه إذن إلى ما بين سنة 750 والقرن الثاني قبل المسيح.
وقد وردت في التلمود " Talmud" إشارات إلى العرب كذلك. وهناك نوعان من التلمود الفلسطيني أو التلمود الأورشليمي "Yeruschalmi" كما يسميه العبرانيون اختصاراً، والتلمود البابلي نسبة إلى "بابل" بالعراق، ويعرف عندهم بأسم "بابلي" انتصاراً.
أما التلمود الفلسطيني، فقد وضع، كما يفهم من اسمه في فلسطين. وقد تعاونت على تحبير. المدارس اليهودية "Academies" في الكنائس " الكنيس". وقد كانت هذه مراكز الحركة العلمية عند اليهود في فلسطين، وأعظمها هو مركز "طبرية" "Tiberies" وفي هذا المحل وضع الحبر "رابي بوحان" "Rabbi Jochanan" التلمود الأورشليمي في أقدم صورة من صوره في أواخر القرن الثالث الميلادي وتلاه بعد ذلك الأحبار الذين جاؤوا بعد " يوحنان"،وهم الذين رضعوا شروحا وتفاسير عدة تكون منها هذا التلمود الذي اتخذ هيأته النهائية في القرن الرابع الميلادي.
وأما التلمود البابلي، فقد بدأ بكتابته -على ما يظهر- الحبر " آشي" "Rabbi Ashi" المتوفي عام 435 م، وأكمله الأحبار من بعده، واشتغلوا به حتى اكتسب صيغته النهائية في أوائل القرن السادس للميلاد. ولكل تلمود من التلمودين طابع خاص به، هو طابع البلد الذي وضع فيه، ولذلك يغلب على التلمود الفلسطبني طابع التمسك بالرواية والحديث. وأما التلمود البابلي، فيظهر عليه الطابع العراقي الحر وفيه عمق في التفكير، وتوسع في الأحكام والمحاكمات، وغنى في المادة. وهذه الصفات غير موجودة في التلمود الفلسطيني.
وبهذا يكمل التلمود أحكام التوراة، وتفيدنا إشاراته من هذه الناحية في تدوين تاريخ العرب. أما الفترة بين الزمن الذي انتهي فيه من كتابة التوراة والزمن الذي بدأ فيه بكتابة التلمود، فيمكن أن يستعان في تدوين تاريخها بعض الاستعانة بالأخبار التي ذكرها بعض الكتاب، ومنهم المؤرخ اليهودي " يوسف فلافيوس" " جوسفوس فلافيوس" "Josephus Flavius"، الذي عاش بين سنة 37 و 100 للمسيح تقريبا. وله كتاب باللغة اليونانية في تاريخ عاديات اليهود "Joudaike Archaioligia" تنتهي حوادثه بسنة 66 للميلاد، وكتاب أخر في تاريخ حروب اليهود "Peri tou Joudiaou Poemou" من استيلاء " انطيوخس افيفانوس" "Antiochus Epiphanos" على القدس سنة 170 قبل الميلاد إلى الاستيلاء طيها مرة ثانية في عهد "طيطس" "Titus" سنة 70 بعد الميلاد، وكان شاهد عيان لهذه الحادثة. وقد نال تقدير "فسبازيان" "Vespasian" و " طيطس" وأنعم عليه بالتمتع بحقوق المواطن الروماني.
وفي كتبه معلومات ثمينة عن العرب، وأخبار مفصلة عن العرب الأنباط، لا نجدها في كتاب ما أخر قديم. وكان الأنباط في أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى تتصل بالبحر الأحمر. وقد عاصرهم هذا المؤرخ، غير أنه لم يهتم بهم إلا من ناحية علاقة الأنباط العبرانيين، ولم تكن بلاد العرب عنده إلا مملكة الأنباط.
هذا وان للشروح والتفاسير المدونة على التوراة والتلمود قديما وحديثا، وكذلك للمصطلحات العبرانية القديمة على اختلاف أصنافها أهمية كبيرة في تفهم تاريخ الجاهية، وفي شرح المصطلحات الغامضة التي ترد في النصوص العربية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، لأنها نفسها و بتسمياتها ترد عند العبرانيين في المعاني التي وضعها الجاهليون لها. وقد استفدت كثيرا من الكتب المؤلفة عن التوراة مثل المعجمات في تفهم أحوال الجاهلية، وفي زيادة معارفي بها، ولهذا أرى أن من اللازم لمن يريد دراسة أحوال الجاهية، التوغل في دراسة تلك الموارد وجميع أحوال العبرانيين قبل الإسلام.
3-الكتب للكلاسيكية
وأتصد بالكتب " الكلاسيكية" الكتب اليونانية واللاتينية المؤلفة قبل الإسلام. ولهذه الكتب -على ما فيها من خطأ- أهمية كبيرة، لأنها وردت فيها أخبار تاريخية وجغرافية كبيرة الخطورة، ووردت فيها أسماء قبائل عربية كثيرة لولاها لم نعرف عنها شيئا: وقد استقى مؤلفوها وأصحابها معارفهم من الرجال الذين اشتركوا في الحملات التي أرسلها اليونان أو الرومان إلى بلاد العرب،ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل بلاد العرب أو أقاموا مدة بين ظهرانيهم، ولا سيما في بلاد الأنباط، من التجار وأصحاب السفن الذين كانوا بتوغلون في البحار وفي بلاد العرب للمتاجرة. وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تعنى عناية خاصة بجمع الأخبار عن بلاد العرب وعادات سكانها وما ينتج فيها لتقدمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط. وقد استقى كثير من الكتاّب "الكلاسيكيين" معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية.
وتتحدث الكتب الكلاسيكية جازمةً عن وجود علاقات قديمة كانت بين سواحل بلاد العرب وبلاد اليونان والرومان، وتتجاوز بعض هذه الكتب هذه الحدود فتتحدث عن نظرية قديمة كانت شائعة بين اليونان، وهي وجود أصل دموي مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان. وتفصح هذه النظرية، على ما يبدو منها من سذاجة، عن العلاقات العريقة في القدم التي كانت تربط سكان البحر المتوسط الشماليين بسكان الجزيرة العربية.
ومن أقدم من ذكر العرب من اليونانيين "أخيلس" "Aescylus" "525 -456 ق. م"، و " هيرودتس" " 480-425 ق. م" وقد زار مصر، وتتبع شؤون الشرق وأخباره بالمشاهدة والسماع، ودوّن ما. سمعه، ووصف ما شاهده في كتاب تاريخي. وهو أول أوربي ألّف كتابا بأسلوب منمق مبوب في التاريخ ووصل مؤلفه ألينا، وقد لقّبه " شيشرون" "Cicero" الشهير بلقب "أبي التاريخ".
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|