وكان "الهمداني"، قد نص في الجزء الأول من "الإكليل" على أن ذلك السجل، هو سجل "محمد بن أبان الحنفري"، وذلك في أثناء حديثه على بطون "صعدة"، إذ قال: "فهذه الآن بطونها على ما روى رجال *********ان و حمير بصعدة. وقد سكنت بها سنة، فأطلعت على أخبار *********ان و أنسابها و رجالها، كما أطلعت على بطن راحتي، و قرأت بها سجل محمد بن أبان الحنفري المتوارث من الجاهلية، فمن أخبارهم ما دخل في الكتاب، ومنها دخل في كتاب الأيام". و يفهم من هذا النص، أن السجل المذكور هو سجل "محمد بن أبان" وكان يحفظه، وقد ورثه من الجاهلية.
ويظهر من إشارات "الهمداني" اليه، انه قصد بهذا السجل "السجل القديم"، و أما السجلات الأخرى، فقد كانت من وضع علماء آخرين من علماء النسب كانوا بمدينة صعدة، وقد جمعوا أنساب *********ان وحمير وقبائل أخرى، و أضافوها على شكل مشجرات نسب إلى ذلك الديوان فصار مجموعة سجلات. واهذا كان ينبّه "الهمداني" إلى الموارد يستقي منها من غير ذلك السجل، كالذي ذكره من "انساب بني الهميسع بن حمير"، إذ قال: "إلا ما أخذته عن رجال حمير وكهلان من سجل *********ان القدم بصعدة وعن علماء صنعاء وصعدة وتجران والجوف وخيوان وما أخرني به الآباء والأسلاف".
وأما ما يذكره "الهمداني" من أن أصل السجل القديم وأساسه جاهلي، فأمر لا أريد أن أبتّ فيه الآن. لا أريد أن أنفيه، ولا أريد أن أثبته أيضا. بل أقف منه موقف المحايد الحذر، لأني لا أجد في المنقول منه في كتاب "الإكليل" ما يشير إلى جاهلية وأصل جاهلي، فالمشجرات المذكورة هي من هذا النوع المألوف الذي نراه في كتب الأنساب المؤلفة في الإسلام، وبعضه متأثر بروايات التوراة، ولهذا فأنا لا أستطيع أن أرجع إلى ما قبل الإسلام، ولا أستطيع أن أتبحر فيه وفي أصله ما دمت لا أملك "السجل" نفسه، لا القديم منه ولا الجديد، أو نصوصاً طويلة أْخذت منه، حتى يسهل عليّ الحكم من قراءتي لما ورد ومن دراسته على أصل ذلك الكتاب وصحة نسبته إلى الجاهلية.
وأما "الخنفري"، صاحب السجل، فهو: "محمد بن أبان بن ميمون ابن حريز الخنفري". ولد في ولاية معاوية بن أبي سفبان في سنة خمسين، وتوفي في سنة خمس وتسعين ومائة، ودفن في رأس "حدبة صعدة". هذا ما رواه "الهمداني" عنه. وذكر "الهمداني" انه عاش "125" سنة، ولو أخذنا بهذا الرقم الذي ذكره "الهمداني"، فيجب أن تكون سنة وفاته "175"، لا "195" للهجرة. ولذلك، فيجب أن يكون في تأريخ المولد أو الوفاة وربما في مدة عمر "الخنفري" خطأ. واني أشلك في طول ما ذكره عن عمره.
وكان لغير أهل صعدة كتب في الأنساب أيضاً، دوّنوا فيها أنسابهم، كما كان هنالك نسابون حفظوا أنساب قبائلهم أشار "الهمداني" إليهم في مواضع من كتابه. وهم من غير أصحاب السحل. وكان بعض منهم قد قابل بين ما دوّنه عن القبائل وبن ما دوّن في السجل عنها، كما كان أهل السجل يعرضون ما دوّنوه عن القبائل على نسّابيها لبيان رأيهم فيها. قال الهمداني "بطون الصدف، عن الصعدين من أصحاب السجل،مقروء على بعض نسابة الصدف".
وتجد في الجزء الثامن من الإكليل مواضع ذكر فيها الهمداني "أبا نصر" أيضاً. وقد راجعتها وراجعت الأماكن التي أشير فيها إليه في الجزء الأول، فتبين لي أن علم "أبي نصر" بتأريخ اليمن القديم هو على هذا الوجه: إحاطة بأنساب القبائل اليمانية على النحو الني كان شائعاً ومتعارفاً في أيامه ومسجلاَ في سجلات الأنساب في تلك الأيام، ورواية للأساطير التي راجت عن التبايعة، وأخذ من موارد توراتية ظهرت في اليمن من وجود اليهود فيها قبل الإسلام. أما علمه بالمساند ومدى وقوفه عليها، فأنا أعتقد أن علمه بها لا يختلف عن علم غيره من أهل اليمن: وقوف على الحروف، وتمكن من قراءة اتكلمات، و*********طة عامة بالمسند. أما فهم النصوص واستنباط معانيها بوجه صحيح دقيق، فأرى أنه لم يكن ذا قدرة في ذلك، وهو عندي في هذا الباب مثل غيره من قراء الخط الحم!ري. ودليلي على ذلك أن القراءات المنسوبة إليهم هي قراءات لا يمكن أن تكون قراءات لنصوص جاهلية، وإن تضمنت بعض أسماء يمانية قديمة، لسبب بسيط،هو أن أساليبها ومعانيها ونسقها لا تتفق أبداً مع الأساليب والمعاني المألوفة في الكتابات الجاهلية،فقراءات أبي نصر وأمثاله قراءات بعيدة جداً عن النصوص المعهودة، هي قراءات إسلامية فيها زهد وتصوف وتوحيد وحضٌّ على الابتعاد عن الدنيا. أما نصوص المسند التي عثر عليها حتى الآن، فإنها نصوص وثنية لا تعرف هذه المعاني، وأسلوبها في الكتابة لا يتفق مع ذلك الأسلوب. وهي في أمور أخرى شخصية أو حكومية لا جميلة لها يمثل هذه الآراء والمعتقدات.
وقد أورد "الهمداني" نصاً قال إن قراءة من قراءة "أبي نصر" فيه نسب "عابر". هذا نصه: "قال أبو نصر: الناس يغلطون في عابر، وهو هود بن أيمن بن حلجم يب بضم بن عوضين بن شدّاد بن عاد بن عوص بن إرم بن عوص بن عابر بن شالخ. وذكر أنه وجد هذا النسب في بعض مساند حمير في صفاح الحجارة". وقارئ هذا النص الذي هو مزيج من رواية توراتية ومن إضافة غربية، يخرج من قراءته، برأي واحد هو أن "أبا خصر"، كان لا يتوقف عن نسبة أمور من عنده إلى المساند، فيحملها ما لا يعقل إن تحمله أبدا. فلو كان النص حميرياً صحيحاَ مأخوذاً من التوراة، لكان النسب على نحو ما ورد في التوراة، ولو كان صاحبه وثنياً لا يدين بدين سماوي، فإنه لا يعقل أن يخلط فيه هذا الخلط.
ولكنني لا أريد هنا أن اكتفي بتقديم التقدير إلى الهمداني والى الباقين من علماء اليمن الذين سبقوه أو جاؤوا من بعده والثناء على طريقتهم المذكورة، بل لا بد لي من التحدث عن درجة علم هؤلاء العلماء بالمسند، وبقراءة الكتابات وبعلمهم بمعانيها،أي علمهم بقواعد وأصول اللهجات التي كتبت بها مثل اللهجة المعينية أو السبئية أو القتبانية أو الحضرمية وغيرها من بقية اللهجات، وذلك ليكون كلامنا كلاماً علمياً صادراً عن درس ونقد وفهم بعلم أولئك العلماء بتأريخ اليمن القديم.
ولن يكون مثل هذا الحكم ممكناً إلا بالرجوع إلى مؤلفات "الهمداني" وغيره من علماء اليمن لدراستها دراسة نقد عميقة. ومقابلة ما ورد فيها من قراءات للنصوص مع قراءات العلماء المحدثين المتخصصين بالعربيات الجنوبية لتلك النصوص إن كانت أصولها أو صورها موجودة محفوظة، وعندئذ يمكن الحكم حكماً علمياً سليماً على مقدار علم أولئك العلماء بلغات اليمن القديمة و بتأريخها المندرس. ولكننا ويا للأسف لا نملك كل أجزاء كتاب "الإكليل" ولا كل مؤلفات الهمداني أوغيره من علماء اليمن، فالجزء التاسع من الإكليل مثلاَ وهو جزء خصص بأمثال حمير وبحكمها باللسان الحميري وبحروف المسند،هو جزء ما زال مختفياً، فلم نر وجهه، وهو كما يظهر من وصف محتوياته مهم بالنسبة إلينا، وقد يكون دليلاّ ومرشداً لنا في إصدار حكم على علم الهمداني بلغة حمير. ولكن ماذا نصنع ونفعل، وقد حرمنا رؤية هذا الجزء، وليس في مقدورنا نشره وبعثه، فهل نسكت ونجلس انتظاراً للمستقبل، عسى أنُ يبعث إلى عالم الوجود? هذا، وقد طبع الجزء الثامن من الإكليل وكذلك الجزء العاشر منه، فاستفاد منهما المولعون بتأريخ اليمن القديم وبتأريخ بقية أجزاء العربية الجنوبية، وطبع الجزء الأول من هذا الكتاب حديثاً برواية "محمد بن نشوان بن سعيد الحمري"، وقد ذكر أنه اختصر شيئاً في مواضع الاختلاف وفي النسب مما ليس له شأن في نظره دون أن يؤثر على الكتاب.
وطبع الجزء الثاني من الإكليل أيضاً، أخرجه ناشر الجزء الأول: "محمد ابن علي الأكوع الحوالي " من عهد غير بعيد، وليس لنا الآن إلاّ أن نرجو نشر الأجزاء الباقية من هذا الكتاب، ليكون في وسعنا الحكم على ما جاء فيه من أخبار عن أهل اليمن الجاهليين.
إن أقصى ما نستطيع في الزمن الحاضر فعله وعمله لتكوين رأي تقريبي تخميني من علم الهمداني وعلم بقية علماء اليمن بلهجات أهل اليمن القديمة وبتأريخهم القديم، هو إن نرجع إلى المتيسر المطبوع من مؤلفاتهم، لدراسته دراسة نقد علمية عميقة، لاستخراج هذا الرأي منها. وهو وإن كان أقل من الضائع بكثير، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، والموجود خير من المعدوم، وفي استطاعته تقديم هذا الرأي التخميني التقريبي. فلنبحث إذن في هذا المطبوع لنرى ما جاء فيه. أما بخصوص الخط المسند، فقد ذكر "الهمداني" إن جماعة من العلماء في أيامه كانت تقرأ المسند،غير أن أولئك العلماء كانوا يختلفون فيما بينهم في القراءة، وكان سبب ذلك - على رأيه - اختلاف صور الحروف، "لأنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويكون للذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة". وقد عرف "الهمداني" أن كتّاب المسند كانوا يفصلون بين كل كلمة وكلمة في السطر بخط قائم، وذكر أنهم كانوا يقرأون كل سطر بخط. غير أنه لم يذكر عدد الحروف. وصرح أنهم "كانوا يطرحون الألف إذا كانت بوسط الحرف، مثل ألف همدان وألف رئام، فيكتبون رئم وهمدن، ويثبتون ضمة آخر الحرف وواو عليهمو". وهي ملاحظات. تدل على إحاطة عامة بالمسند، سوى ما ذكره من اْنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويظهر أنه وغيره قد توصلوا إلى هذا الرأي من اختلاف أيدي الكتّاب في رسم الحروف ونقرها على الحجر، كالذي حدث عندنا من تباين الخطوط باختلاف خطوط كتبته، فأدى تباين الخط هذا إلى اختلافهم في القراءة، وإلى ذهابهم إلى هذا الرأي، أو أنهم اختلفوا فيها من جراء تشابه بعض الحروف مثل حرف الهاء والحاء، فان هذين الحرفين متشابهان في الشكل، فكلاهما على هيئة كأس يرتكز على رجل، والفرق بينهما، هو في وجود خط عمودي في وسط الكأس هو امتداد لرجل الكأس، وذلك في حرف "الحاء"، أما الهاء، فلا يوجد فيه هذا الخط الذي يقسم باطن الكأس إلى نصفين. ويشبه حرف "الخاء" حرف "الهاء" في رسم رأس الكأس، ولكنه يختلف عنه في القاعدة، إذ ترتكز هذا الرأس على قاعدة ليست خطاً مستقيماً، بل على قاعدة تشبه كرسي الجلوس ذي الظهر.
ومثل التشابه بين حرفي الصاد والسين، فكلاهما على هيئة كأس وضعت وضعاً مقلوباً، بحيث صارت القاعدة التي ترتكز الكأس عليها إلى أعلى. أما الرأس، وهو باطن الكأس، فقد وضع في اتجاه الأرض. ولكن قاعدة "الصاد" هي على هيئة رقم خمسة في عربيتنا، اي على هيئة دائرة أو كرة بينما قاعدة حرف السين هي خط مستقيم،أما باطن كأس حرف "الصاد"، ففيه خط يقسمه إلى قسمين وذلك في الغالب، وقد يهمل هذا الخط المقسم، أما حرف السين، فلا يوجد فيه هذا الخط.
وجاء "نشوان بن سعيد الحميري" بملاحظات عن "المسند" هي الملاحظات التي أوردها "الهمداني" عنه فقال: المسند: خط حمير، وهو موجود كثيراً في الحجارة والقصور، وهذه صورته على حروف المعجم... وله صور كثيرة، إلاّ أن هذه الصورة أصحها. واعلم أنهم يفصلون بين كل كلمتين بصفر، لئلا يخلط الكلام. وصورة الصفر عندهم كصورة الألف في العربي.. وما قلته عن تعدد صور الحرف قبل قليل، ينطبق على ملاحظة "نشوان" أيضاً. ويظهر أن قوماً من أهل اليمن بقوا أمداَ في الإسلام وهم يتوارثون هذا الخط ويكتبون به. فقد جاء في بعض الموارد: "والمسند خط حمير، مخالف لخطنا هذا: كانوا يكتبونه أيام ملكهم فيما بينهم. قال أبو حاتم: هو في أيديهم إلى اليوم باليمن"، إلاّ أنه لم يتمكن من الوقوف أمام الخط العربي الشمالي الذي دوّن به القرآن الكريم، فغلب على أمره، وتضاءل عدد الكتاب به حتى صار صفراً.
ومما يؤسف عليه كثيرا أننا لا نملك النسخ الأصلية التي كتبها أولئك العلماء بخط أيديهم، حتى نرى رسمهم لحروف المسند. فإن الصور المرسومة في المخطوطات الموجودة وفي النسخ المطبوعة، ليست من خط المؤلفين، بل من خط النساخ، فلا أستبعد وقوع المسح في صور حروف المسند في أثناء النقل، ولا سيما إذا تعددت أيدي النساخ بنسخ أحدهم عن ناسخ آخر. وهكذا. فليس للنساخ علم بالمسند، ولذا لا أستبعد وقوعهم في الخطأ. ومن هنا فإن من غير الممكن إصدار رأي في مقدار إتقان الهمداني وبقية العلماء لرسم حروف الخط المسند. وقد أشار "الدكتور كرنكو" إلى هذه الحقيقة، إذ ذكر أن صور الحروف الحمرية في "الإكليل تختلف باختلاف النسخ اختلافاً كبيرا، فقد صوّر كل ناسخ تلك الحروف على رغبته وعلى قدرته على محاكاة النقوش، ومن هنا تباينت وتعددت، فأضاعت علينا الصور الأصلية التي رسمها الهمداني لتلك الحروف. أما رأينا في علم علماء اليمن بفهم المسند، فيمكن تكوينه بدراسة النصوص الواردة في مؤلفاتهم وبدراسة معرباتها ومقابلتها بالنصوص الأصلية المنقورة على الحجارة إن كانت تلك النصوص الأصلية لا تزال موجودة باقية، أو بمراجعة النصوص المدونة و مقابلتها بمعرباتها لترى درجة قرب التعريب أو بعده من الأصل. وعندئذ نستطيع إبداء حكم على مقدار فهم القوم لكتابات المسند. أما في حالة اكتفاء المؤلف بإيراد التعريب فقط أي معنى النص لا متنه، فليس أمامنا من سبيل غير وجوب مراجعة المعربات ودراستها من جميع الوجوه، لترى مقدار انطباق أساليبها على الأساليب المألوفة في كتابات المسند، وعندئذ نتمكن من تكوين رأي في هذا الذي ورد في المؤلفات على أنه ترجمات، ونتمكن بذلك من الحكم بمقدار قرب تلك الترجمات والقراءات من المسند أو بعدها منه.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|