وخلاصة ما توصلت اليه من دراستي الإجمالية للأجزاء المطبوعة من مؤلفات "الهمداني" أن الهمداني، وإن كان يحسن قراءة حروف المسند، ويعرف القواعد المتعلقة بالخط الحميري، الا انه لم يكن ملماً بألسنة المسند. ولم يتمكن من ترجمة النصةص التي نقلها ترجمة صحيحة، ولم يعرف على ما يتبين منها كذلك ما ورد فيها وما قصد منها، فجعل "تالبا"، و هو اسم إله من آلهة اليمن المشهورة، و معبود قبيلة "همدان" الرئيس، اسم رجل من رجال الآسرة المالكة لهمدان. وجعل "ريما"، وهو اسم مكان من الامكنة المشورة، وكان به معبد معروف للإله "تالب"، ابنا من أبناء "نهفان"، ومن أبناء "تالب". ولم يبخل الهمداني عليه، فوهب له أما قال لها: "ترعة بنت بازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحضب بن الصوار".
و أورد "الهمداني" نصا ذكر إن "أحمد بن أبي الأغر الشهابي"، وحده ب "ناعط"، فقرأه، فإذا هو: "علهان و نهفان ابنا بتع بن همدان، لهم الملك قديما كان". وقد عدّ "علهان نهفان" رجلين هما "علهان" و "نهفان"، مع إن "علهان نهفان(، هو رجل واحد، وهو ملك من ملوك سبأ و سيأتي ذكره. وقد والده "يريم بن أوسلت رفشان" من اقبيلة "همدان". كلمة "نهفان" لقب له. أما اسمه فهو "علهان". و كان له شقيق اسمه "برج يهركب"، كما ذلك في كتابة عثر هليها في "ريام"، فلم يكن والده أذن رجلاً اسمه "بتع بن همدان" كما جاء في القراءة.
وأما "بتع"، فقيلة من قبائل همدان، وأما جملة: " لهم الملك قديماً كان"، فهي لا ريب من قول الشهابي، وليست بعبارة حميرية. وليس التعبير - وان فرضنا أنها ترجمة للأصل - من التعابير المستعملة في الحميرية، التي ترد في الكتابات. ولما كنا لا نعرف المتن الأصلي للنص، يصعب علينا الحكم عليه أكان قريباً من هذا المعنى أو كان شيئاً آخر، عرف منه الشهابي بضع كلمات ثم فسره بهذا التفسير.
ويظهر على كل حال أن قراء المسند "وقد قلت إنهم كانوا يحسنون في أيام الهمداني قراءة حروف المسند" لم يكونوا عك اطلاع بقواعد الحميرية، ولا باللسان الحميري، أو الألسنة العربية الجنوبية الأخرى. خذ مثلاّ على ذلك: "بن" وهي حرف جر عند العرب الجنوبيين، وتعني "من" و "عن" بلغتنا قد أوقعتهم هذه الكلمة في مشكلات خطيرة.فقد تصور القوم عند قراءتهم لها، أفها تعني أبداً "ابناً" على نحو ما يفهم من هذه الكلمة في لغتنا. وفسروها بهذا التفسير. ففسروا "بن بتع" أو "بن همدان" وما شابه ذلك "ابن بتع" أو "ابن همدان"، و المقصود من الجملتين هو "من بتع" و "من همدان"، وبذلك تغير المعنى تماماً، ومن هنا وقع القوم - على ما أعتقد - في أغلاط حين حسبوا أسماء القبائل و أسماء الأماكن الواردة قبل "بن" وبعده، أسماء أشخاص وأعيان،وأدخلوها في مشجرات الأنساب. فاقتصار علمهم على الأبجدية وجهلهم باللغة، أوقعهم في مشكلات كثيرة، وسبب ظهور هذا الخلط.
وجاء الهمداني بنصوص أخر ذكر أنبا كانت مكتوبة بالحميرية تمثل النص الذي زعم أن مسلمة بن يوسف بن مسلمة الخيواني قرأه على حجر في مسجد خيوان، وهذا نصه: "شرح ما، وأخوه ما، وبنوه ما، قيول شهران بنو هجر، هم معتة بدار القلعة". وأمثال ذلك من النصوص. ولا اعتقد أنك ستقول: إنّ هذا نص حميري، ولا يسع أمرءاً له إلمام بالحميرية أن يوافق على وجود مثل هذه العائلة عائلة ما، أو يسلم بأن هذه قراءة صحيحة لنص حميري. بل لا بد من وجود أخطاء في القراءة وفي التفسير. ولا أريد أن أتجاوز على رجل مشى إلى ربه، فلعله كان يحسن قراءة بعض الحروف والكلمات، ويتصور أنه أحسن قراءة النص كله وفهمه، فجاء بهذه العبارة. وعلى كل، إن كلّ الذي جاء في النصوص التي وقفت عليها في كتب الهمداني لا ممكن إن يعطي غير هذا الانطباع، ولعلنا سنغير رأينا في المستقبل إذا تهيأت لنا نصوص من شأنها أن تغيره.
ويأتي "الهمداني" أحياناً بأبيات شعر زاعماً إنها من المسند. ففي أثناء كلامه مثلاً على قصر "شحرار" قال: "وفي بعض مساند هذا البنيان بحرف المسند: شحرار قصر العلا المنيف أسـسـه تـبـع ينـوف
يسكنه القيل ذي معـاهـر تخر قدّامـه الـلأنـوف"
أما نحن، فلم نعثر حتى اليوم على أية كتابة بالمسند، ورد فيها شعر، لا بيت واحد ولا أكثر من بيت. وأما متن البيتين المذكورين، فليس حميرياً ولا سبئياً ولا معينياً وليس هو بأية لهجة يمانية أخرى قديمة، و إنما هو بعربيتنا هذه، أي بالعربية التي نزل بها القرآن الكريم، نظمه من نظمه من المحدثين بهذه اللغة البعيدة عن لغات أهل اليمن.
أما الباب الذي عقده في الجزء الثامن بعنوان: "باب القبوريات"، فقد استمد مادته من روايات وأحبار "هشام بن محمد بن السائب الكلي"، و "ابن لهيعة" و "موهبة بن الدعام" من همدان و "أبي نصر" و "وهب بن منبه" و "كعب الأحبار" و "عبد الله بن سلام". وقد أورد فيه نصوصاً زعم إنها ترجمات لنصوص المسند، عثر عليها في القبور عند الأجداث. وأورد بعضها شعراً، زعم انه مما وجد في تلك القبور، كالذي ذكره عند حديثه عن قبر "مرشد بن شدّاد"، وعن قبرين جاهليين عثر عليهما ب "الجند" وقد نص على إن الشعر المذكور كان مكتوباً بالمسند وقد دونه.وهو وكل الأشعار الأخرى ومنها المراثي منظوم بعربية القرآن. وأما النثر، فإنه بهذه العربية أيضا، وهو في الزهاد والموعظة والندم والحث على ترك الدنيا، فكأن أصحاب القبور، من الوعاظ المتصوفين إلزهاد، ماتوا ليعظوا الأحياء من خلال القبور، ولم يكونوا من الجاهليين من عبدة الأصنام والأوثان.
وهو قسم بارد سخيف، يدل على ضعف أحلام رواته، وعلى ضعف ملكة النقد عند "الهمداني" وعلى نزوله إلى مستوى القصاص والسماّر والإخباريين الذين يروون الأخبار ويثبتونها وإن كانت مخالفة للعقل. إذ انه لا يختلف عنهم هنا بأي شيء كان.
ومجمل رأيي في "الهمداني" أنه قد أفادنا ولا شك بوصفة للعاديات التي رآها بنصه على ذكر أسمائها، وأفادنا أيضاً في إيراده ألفاظا يمانية كانت مستعملة في أيامه استعمال الجاهليين لها: وقد وردت في نصوص المسند، فترجمها علماء العربيات الجنوبية ترجمة غير صحيحة، فمن الممكن تصحيحها الآن على ضوء استعمالها في مؤلفات الهمداني وفي مؤلفات غيره من علماء اليمن. أما من حيث علمه بتأريخ اليمن القديم، فإنه وإن. عرف بعض الأسماء إلاّ أنه خلط فيها في الغالب، فجعل اسم الرجل الواحد اسمين، وصير الأماكن إباء وأجداداً، وجعل أسماء القبائل أسماء رجال، ثم هو لا يختلف عن غيره في جهله بتأريخ اليمن القديم، فملأ الفراغ بإيراده الأساطير والخرافات والمبالغات. وأما علمه بالمسند فقد ذكرت أنه ربما قرأ الكلمات، ولكنه لم يكن يفقه المعاني، ولم يكن ملما بقواعد اللهجات اليمانية القديمة، وقد حاولت العثور على ترجمة واحدة تشير إلى أنها ترجمة صحيحة لنص من نصوص المسند، فلم أتمكن من ذلك ويا للأسف.
وعلم "الهمداني" بجغرافية اليمن والعربية الجنوبية، يفوق كثيراً علمه بتاًريخ هذه الأرضين القديم، فقد خبر أكثرها بنفسه وسافر فيها، فاكتسب علمه بالتجربة. أما علمه بجغرافية الأقسام الشمالية من جزيرة العرب، فإنه دون هذا العلم.
وأفادت "القصيدة الحمرية"، لصاحبها "نشوان بن سعيد الحميري" فائدة لا بأس بها في تدوين تأريخ اليمن. وهذا المؤلف معجم شاه "شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم"، ضمنه ألفاظاً خاصة بعرب الجنوب. ولنطبق ما قلته في الهمداني على نشوان أيضاً. فإذا قرأت كتبه، تشعر أنه لم يكن يفهم النصوص الحميرية ولا غيرها، وإن كان بحسن قراءة المسند. وما ذكره في كتابه "شمس العلوم" - وإنْ دل - على حرص على جمع المعلومات، وعلى تتبع يحمد عليه للبحث عن تأريخ اليمن ولغاتها القديمة - يدلّ على أنه لم يكن يفهم نصوص المسند، وليس له علم بتاًريخها وبتواريخ أصحابها، وأنه لا يمتاز بشيء عن الهمداني أو سائر علماء اليمن الذين كانوا يدعون العلم بأخبار الماضيين، وأكر الذي ذكوه في كتابه على أنه من اللهجات الحميرية والعربية الجنوبية هو من مفردات معجمات اللغة، ومن لهجات العربية الفصحى خلا ذلك الذي كان يستعمله أهل اليمن، وهو قليل إذا قيس إلى سواه، وقد فسر معانيه على نحو ما كان يقصده الناس في أيامه. ومع هذا، فهذا النوع من الكلمات هو الذي نطمع فيه، لأنه من بقايا اللهجات البائدة، ويفيدنا فائدة عظيمة في فهم معاني النصوص وفي قراءتها وشرحها وتفسرها، ولعله لم يكثر منا، لأنها كانت من كلام العوام فأشفق على نفسه من البحث في لغة العوام.
ولم يزد "نشوان" في شروحه لأسماء الأعيان والأجذام والقبائل والعمائر والأمكنة على ما أورده الهمداني أو سائر. علماء التاًريخ وأهل الأنساب، فعدّ أسماء القبائل مثل همدان، أسماء أشخاص لهم انساب واولاد وأقرباء، واخطأ في الأغلاط نفسها التي وقع فيها الهمداني "فذكر جملاً مسجوعة على إنها من وصايا التبابعة، وعبارات متكلفة على انها قراءات لنصوص حميرية مكتوبة بالمسند.
ومحمد بن نشوان بن سعيد الحميري نفسه هو ممن اعتمد على علم الهمداني، كما نص على ذلك في فاتحة الجزء الأول من الإكليل. فهذا الجزء الذي طبع حديثاً هو برواية محمد بن نشوان، رواه لمن سأله أن يوضح شيئاً من أنساب حمير وأخبارها وما حفظ من سيرها وآثارها، فما كان منه إلا أن أخذ الإكليل فكتب له، لم يغير فيه سوى ما قاله: "غير أني اختصرت شيئاً ذكره في النسب، ليس هو من جملته بمحتسب. بل هو مما ذكره من الاختلاف في التأريخ و نحوه، من غير أن أنسب الكدر إلى صفوه". وفي مقدمته لهذا الجزء ثناءٌ عاطرٌ على الهمداني، وتقدير كبير لعمه في أخبار اليمن.
هذا هو كل ما أريد أن أقوله هنا عن مصادر التاريخ الجاهلي، وهو قليل من كثير، ولكن التوسع في هذا الموضوع يخرجنا حتماً عن حدود بحثنا المرسوم، ويخرجنا إلى التحدث في شيء آخر لا علاقة له بالجاهلية، و إنما يعود إلى البحث في التأريخ، وفي نقده ودروبه عند المؤرخين. على أني أراني قد توسعت مع ذلك في هذا الباب، وذلك للحاجة التي رأيتها في ضرورة توضيح بعض الأمور الخاصة بتلك الموارد.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|