بل خذ ما ذكره رجال هم أقسم من "ابن الكلي" ومن "الهمدانِي" في الزمان، وألصق منهما عهداً بالجاهلية مثل "ابن عباس" و "عُبّيدْ بن شَرْيةَ" وغيرهما، ترََ إن ما ذكراه عنها لا يدل على أنهما أخذا أخبارهما من مورد مكتوب ومن كتب كانت موجودة، ولا أعتقد إن "معاوية بن أبي سفيان"، وهو نفسه، من أدرك الجاهلية، كانت به حاجة إلى "عبيد" وأمثال "عبيد" من قوّال الأساطير، وإلى الاستماع إلى أخبارهم، لو كان عنده شخص مدوّن عن أمر الجاهلية، ثم إنه لو كانت عند "ابن عباس" و "عبيد" وطلاب الشعر الجاهلي والأخبار مدوّنات، لما لجأوا إلى الذاكرة والى الرواة والأعراب يلتمسون منهم الأخبار والأشعار وأمور القبائل!
إن جهل أهل الأخبار بأصنام أهل اليمن القديمة التي ترد أسماؤها في كتابات المسند، وذكرهم أسماء أصنام جديدة زعموا أنها كانت معبودة، عند أهل اليمن لم يرد لها ذكر في كتابات المسند، أشار "ابن الكلبي" وغيره إلى بعضها، و إشاراتهم إلى د********* اليهودية والنصرانية إلى اليمن، والى تهود "تبعّ" وهو في "يثرب" في طريقه إلى اليمن، وأخذه حبرين من أحبار يهود معه، وأمره بتهدم معبد "رئام"، بناء على إشارة الحبرين، ثم ظهور جمل و ألفاظ في كتابات المسند تدل على التوحيد وعلى وقوع تغير وتطور في ديانات أهل اليمن، مثل عبادة "الرحمن" وعبادة "ذو سموي"، أي "ذو السماء" أو "صاحب السماء": إن كل هذه الأمور وأمثالها، هي دلائل على حدوث تغير وتطور في عقليات أهل اليمن، أثرت في معتقداتهم فجعلتهم ينسون آلهتهم القديمة،بل يتنكرون لها، ويبتعدون بذلك عن ثقافتهم الوثنية القديمة، ومثل هذا التطور والتغير لا بد إن يؤدي طبعاً إلى نسيان الماضي والى الالتهاء عنه بالتطور الجديد. وقد وقع هذا قبل الإسلام بزمان.
كان لد********* اليهودية والنصرانية في اليمن وفي أنحاء أخرى من جزيرة العرب، دخَلٌ من غير شك في إعراض القوم عن ديانتهم الوثنية وعن ثقافتهم وآدابهم. أما اليهود فقد سعوا بعد د*********هم في اليمن لتهويد ملوك اليمن و أقيالها ونشر اليهودية فيها للهيمنة على هذه الأرضين، وأخذوا ينشرون قواعد دينهم وأمور شريعتهم بينهم، ويشيعون قصص التوراة، وأعاجيب سليمان وجن سليمان، وتمكنوا من إقناع بعض سكان اليمن بالتهود، على نحو ما سنراه فيما بعد.
ووجدت النصرانية سبيلها إلى اليمن كذلك من البحر والبر، وسعت كاليهودية لتثبيت أقدامها هناك وفي سائر أنحاء جزيرة العرب، ووجدت من سمع دعوتها هنا وهناك، فتنصرت قبائل، وشايعتها بعض المقاطعات والمدن، وتعرضت الوثنية للنقد من رجال الديانتين،واقتبس من دخل في اليهودية الثقافة اليهودية،ومن دخل في النصرانية الثقافة النصرانية، واعرض عن ثقافته القديمة، وفي جملتها الخط المسند، خط الوثنية والوثنين، وصار عدد قرائه يتضاءل بمرور الأيام. ومن يدري? فلعل رجال الدين الجدد، صاروا يعلّمون الناس الكتابة بقلمهم الذي كانوا يكتبون به، وهو قلم أسهل في الكتابة من المسند، وخاصة على الورق والجلود والقراطيس. وقد يكون هذا سبباً من جملة أسباب تضاؤل عدد الكتابات المدونة في المسند، في حقبة سأتحدث عنها فيما بعد.
وآية ذلك عثور المنقبين والسياح في مواضع من نجد وفي العروض، وهي مواضع بعيدة عن اليمن، على كتابات سبئية يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل الميلاد وتاريخ بعضها إلى ما بعده، ثم اختفاء آثار كتابات المسند من هذه المواضع في العهود المتأخرة من الجاهلية القريبة من الإسلام، مما يبعث على الظن إن أهل الجزيرة كانوا قد استبدلوا بذلك القلم قبيل الإسلام قلماً جديدا مشتقاً من الأقلام الإرمية الشمالية، وذلك بانتشاره بينهم على أيدي المبشرين وبالاتجار مع عرب العراق، ولا سيما سكان الحيرة والأنبار، وهو القلم الذي كان يكتب به أهل مكة وأهل يثرب عند ظهور الإسلام. وبذلك شارك هذا القلم الجديد في موت القلم المسند واختفائه من هذه المواضع،وبموته انقطعت صلات القوم بالثقافة العربية الجنوبية، ثقافة القلم المسند.
ولا أستبعد إن يكون من بين رجال الدين من الديانتين أناس كانوا على قدر العلم والفهم بأمور التوراة والإنجيل وبالقصص الإسرائيلي والنصراني وعلى شيء من الإلمام بالتاريخ. فقد كان من،بينهم أناس هم من أصل رومي أو سرياني أو عبراني، فليس من المستبعد إن يكون لهم حظ من العلم بالأمور المذكورة أخذوه من كتبهم المكتوبة بلغاتهم ومن دراساتهم لأمور الدين.
ومثل هؤلاء لا بد إن يستشهدوا في مواعظهم في "مدراثهم" أو "كنائسهم" في الأماكن التي نزلوا بها من جزيرة العرب، بشيء من قصص التوراة والكتب اليهودية والأناجيل. ودليل ذلك إن معظم القصص الواردة عن الرسل والأنبياء وعن انتشار اليهودية والنصرانية في جزيرة العرب، مصدره أناس من أهل الكتاب، هم من أهل يثرب، أي من يهود المدينة، ومن أهل اليمن، وهو قصص على دلالته على جهل فاضح بأمور اليهودية أو النصرانية، يدل عموما على أنه أخذ من أصل يرجع إلى أهل الكتاب، وقد غُطيّ بقصص وأساطير ساذجة. وهو على بساطته وسذاتجه يصلح إن صحت نسبته إلى من نسب إليهم، إن يكون موضوعاً لدراسة مهمة، هي دراسة مقدار علم يهود جزيرة العرب ونصاراها في الجاهلية بأمور دينهم ومقدار جهلهم بأحكام اليهودية أو النصرانية في تلك الأرضين.
ونحن لا نجد في بقية جزيرة العرب تويناً للتاريخ، لعدم وجود حكومات منظمة كبيرة فيها، ولسيادة النظام القبلي في أكثر أنحائها، وإنما نجد فيها رواة يروون أخبار قبيلتهم وأمورها وعلاقاتها بالقبائل الأخرى،وحوادثها وأيامها، ورواة تخصصوا برواية الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، ونجد جماعات تحفظ الشعر وما شاكل ذلك من أمور تخص القبيلة والنظام القبلي، وكل ذلك رواية، أي مشافهة، لا كتابة. ومثل هذا النوع من التوريخ الشفوي معرض كما قلت سابقاً لآفات عديدة، أهمها تحكم العواطف القبلية على الرواة وتعرض الخبر للنسيان كلما تقدم العهد به في الذاكرة، وكلما ابتعد به الزمن، إذ تقل حماسة الناس له،ويضعف تأثيره في العواطف، وتفتر عندئذ همم الرواة عن حفظه وبذلك يتعرض للموت والاندثار، ومن هنا اندثرت وضاعت أخبار الجاهلية البعيدة عن الإسلام. أما الجاهلية القريبة من الإسلام، فقد بقي منها ما يشبه ذكريات الطفولة، خلا الأمور التي عاصرت ظهوره، فقد أدركها الصحابة، فكان في إمكانهم تذكرها وروايتها، وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم حتى وصلت إلى المدونين.
ما ذكرته هو أهم أسباب إهمال التاريخ الجاهلي، فجاء ذلك التاريخ لذلك ناقصاً حتى على نحو ما نقرأه في المؤلفات العربية القديمة. أما تدوينه مجدداً، و إعادة كتابته وتنظيمه وتنسيقه وسد الفجوات الواسعة فيه، فقد تم على هذا النحو:
تدوين التاريخ الجاهلي
للمستشرقين مجهود يقدر في تدوين التاريخ الجاهلي وفي كتابته بأسلوب حديث، يعتمد على المقابلات والمطابقات ونقد الروايات والاستفادة من الموارد العربية والأعجمية. وقد أفادوا مما جاء عن العرب في التوراة وفي التلمود وفي الكتب اليهودية، كما أفادوا مما جاء عن جزيرة العرب وسكانها في الكتابات الاشورية والبايلية ومن الموارد "الكلاسيكية" والمؤلفات النصرانية سريانية ويونانية ولاتينية، فأضافوا كل ما تمكنوا الحصول عليه في هذا الباب إلى ما ورد في الموارد الإسلامية عن الجاهليين، فصححوا وقوّموا، وسدّوا بهذه المواد بعض الثلم في التاريخ الجاهلي.
وعملهم في بعث الكتابات الجاهلية ونشرها، مشكور مقدر، فقد أعادوا إلى الخط الذي كتبت به الحياة، وجعلوه مقروءاً معروفاً، وترجموا كثيراً من هذه النصوص إلى لغاتهم، وهي وثائق من الدرجة الأولى، وعملوا على نشر النصوص بالمسند وبالحروف اللاتينية أو العبرانية أو العربية في بعض الأحيان، وعلى استخلاص ما جاء فيها من أمور متنوعة عن التاريخ العربي قبل الإسلام.
وقد أمكننا بفضل هذا المجهود المضني الحصول على أخبار دول وأقوام عربية لم يرد لها ذكر في الموارد الإسلامية،لأن أخبار تلك الدول و أولئك.الأقوام كانت قد انقطعت وطمست قبل الإسلام، فلم تبلغ آهل الأخبار.
وقد ساعدهم في شرح الكتابات الجاهلية وتفسيرها علم بلغات عديدة، مثل اللغة العبرانية والسريانية والبابلية، فإن في هذه اللغات ألفاظاً ترد في تلك الكتابات بحكم تقاربها واشتراكها في هذه الثقافة المتقاربة التي نسميها "الرابطة السامية"، كما إن فيها أفكاراً وآراء ترد عد المتكلمين بهذه اللغات، ولهذا صار في الإمكان فهم ما ورد في الكتابات الجاهلية بالاستعانة بتلك الأفكار والآراء.
وقد كان للسياح الذين جابوا مواضع متعددة من جزيرة العرب، ولا سيما المنطقة الغربية والجنوبية منها، فضل كبير في بعث الحياة في الكتابات الجاهلية. فقد اخذ أولئك السياح بعض كتابات، كما أخذوا صور بعض آخر، وبفضل تعاونهم مع العلماء المبحرين باللغات الشرقية أمكن حل رموزها وبعث الحياة فيها بعد موت طويل.
وقد كانت أسفار أولئك السياح مغامرات ومجازفات،إذ تعرضت حياة أكثرهم للخطر، بسبب عدم استقرار الأمن إذ ذاك، وبسبب سوء الأوضاع الصحية، ولعدم وجود أماكن مريحة، تناسب حياتهم التي تعوّدوها، إلا أنهم لم يبالوا ذلك ولم يحفلوا به، وتحايلوا بمختلف الحيل للتغلب على تلك الصعوبات ولكسب ودّ رؤساء القبائل والحكام لتسهيل مهمتهم.وقد قضى نفر منهم نحبه في أسفاره هذه. وقد كانت اكثر أسفار هؤلاء الروّاد أسفاراً فردية قام بها أفراد من العلماء ومن الضباط والمغامرين. والأسفار الفردية، مهما كانت، لا تأتي بالنتائج التي تنجم عن دراسات البعثات المتخصصة بمختلف الشؤون، لذلك نتطلع إلى اليوم الذي تتمكن فيه البعثات العلمية الكبيرة من اختراق آفاق بلاد العرب،وتقديم نتائج بحوثها إلى العلماء لتدوين تاريخ مرتب لجزيرة العرب قبل الإسلام، ولا سيما إلى البعثات العلمية العصرية التي تتألف من متخصصين من الناطقين بلغة هذه البلاد، لأن هؤلاء أقدر من غيرهم على فهم اللهجات القديمة ومحتوياتها وروح ذلك التاريخ.
ونستطيع إن نعدّ السائح الدانماركي "كارستن نيبور Carsten Niebuhr الذي قام في سنة 1761 للميلاد برحلة إلى جزيرة العرب، أول رائد من روّاد الغرب ظهر في القرون الحديثة، وصف بلاد العرب، ولفت أنظار العلماء إلى المسند والرقم العربية. وقد أثارت رحلته هذه همم العلماء والسياح، فرحل من بعده عدد منهم لا يتسع المقام لذكرهم جميعاً رحلات إلى مختلف أنحاء جزيرة العرب عادت على التاريخ العربي بفوائد جزيلة.
فزار الدكتور "سيتزن" Dr. Seetezen جنوبي بلاد العرب، ويمكن من نقشر صور نصوص عربية جنوبية أرسلها إلى أوروبة عام 1810 م ومنه النصوص على قصرها وغلطها، أفادت في تدوين تاريخ العرب قبل الإسلام إفادة غير مباشرة لأنها لفتت أنظار المستشرقين إليها والى دراسة التاريخ العربي القديم، حتى آل الأمر إلى حل رموز تلك الكتابة ومعرفة حروفها.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|