وقد لاقت نظرية "كيتاني" هذه رواجاً بين عدد كبير من المستشرقين، واعتدها "السير توماس أرنولد" من أهم النظريات التي اكتشفها المؤرخون الحديثون بالنسبة إلى التاريخ العربي. غير أن المستشرق "الويس موسل"، يرى أنها لا تستند إلى أسس تاريخية، ولا إلى أدلة علمية، وأن القائلين بها قد بالغوا فيها مبالغة كبيرة، ويرى أنه ما دامت البحوث "الجيولوجية التي قام بها العلماء في مراحلها الأولى، قد جرت في مناطق محدودة فلم تفحص أكثر مناطق جزيرة العرب فحصاً علمياً فنياً، حتى الآن، فلا يصح الاعتماد على فرضيات، تبنى عليها آراء ثابتة. ولهذا فهو يرى أن الأدلة "الجيولوجية" التي استشهد بها "كيتاني" ضعيفة وغير كافية، فهي لا تستحق مناقشة، واكتفى بمناقشة الأدلة التأريخية.
يرجع "موسل" سبب الهجرات، وتحول الأرضين الخصبة صحارى، إلى عاملين هما: ضعف الحكومات، وتحول الطرق التجارية. فضعف الحكومات ينشأ عنه تزعم سادات القبائل و الرؤساء، و انشقاقهم على الحكومات المركزية، ونشوب الفتن والاضطرابات واشتعال نيران الحروب، وانصراف الحكومة والشعب عن الأعمال العمرانية، وتلف المزارع والمدن، وتوقف الأعمال التجارية وحصول الكساد، وانتشار الأمراض والمجاعة، والهجرة إلى مواطن أخرى يأمن فيها الإنسان على نفسه و أهله وماله. فخراب سدّ "مأرب" مثلاً لا يعود إلى فعل الجفاف الذي أثر على السدّ كما تصور ذلك "كيتاني"، بل بعود إلى عامل آخر لا صلة له بالجفاف، هو ضعف الحكومة في اليمن، وتزعم "الأقيال" و "الأذواء" فيها، وتدخل الحكومات الأخرى في شؤون العربية الجنوبية كالحبشة والفرس، مما أدى إلى اضطراب الأمن في اليمن، وظهور ثورات داخلية وحروب، كالذي يظهر من الكتابات التي تعود إلى النصف الثاني من القرن للسادس للميلاد، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بإصلاح السد، فتصدعت جوانبه، فحدث الانفجار، فخسرت منطقة واسعة من أرض اليمن مورد عيشها الأول، وهو الماء، ويبست المزارع التي كانت ترتوي منه، واضطرت القبائل وأهل القرى والمدن الواقعة فيها إلى الهجرة إلى مواطن جديدة. وتصدع السد بسبب ضغط الماء على جوانبه،هو في حد ذاته دليل على فساد نظرية الجفاف.
ويرى "موسل" أن التقدم الذي حدث في البلاد العربية بعد القرن التاسع عشر دليل آخر على فساد نظرية "كيتاني"، فقد ظهرت مدن حديثة، وعمرت قرى، وشقت ترع، وحفرت آبار، وعاش الإنسان والحيوان والنبات في مناطق من العراق وسورية ولبنان وفلسطين والأردن كانت تعد من الأرضين الصحراوية. فليس الجفاف هو المانع من عمارة هذه المناطق، والسبب في تكون هذه الصحارى، بل السبب شيء آخر، هو ضعف الحكومات وانصرافها عن العمارة وعن المحافظة على الثروة الطبيعية وضبط الأمن، ووقوفها موقف المتفرج تجاه قطع الناس للأشجار واستئصالها لاستخراج الفحم منها، أو لاستعمال خشبها في أغراض أخرى، وقتال القبائل بعضها ببعض، هذا وان من الممكن إعادة قسم من الأرضن الجرد إلى ما كانت عليه، إذا ما تهيأت لها حكومة قوية رشيدة تنصرف إلى حفر الآبار، و إقامة السدود، وغرس الجبال، وإنشاء الغابات، والاستفادة من مياه العيون.
وبرى "موسل" أيضا أن ما ذكره "كيتاني" عن الأنهار في جزيرة العرب مسالة لا يمكن البت فيه ألان، لقلة الدراسات العلمية، كما ان ما ذكره عن انعدام أجناس من الحيوانات، ليس مرده إلى الجفاف وعدم احتمال تلك الحيوانات الجو الجديد، فهلكت، أو هاجرت إلى مواطن جديدة، بل مرده في نظره إلى اعتداء الإنسان عليها، وقتله اياها. ودليله على ذلك أن الحيوانات التي ورد ذكرها في كتب "الكلاسيكيين" لا تزال تعيش في المناطق التي عيّنها أولئك الكتاب، ولكنها بقلة. كذلك نجد الهمداني وغيره ينكر وجود الأسد و حيوانات أخرى في مواضع قل فيها وجودها الأن، وهذا مما يشير إلى أن هذه الحيوانات لم تنقرض أو تقل بفعل تبدل الجو، بل بفعل اعتداء البشر عليها، وان اعتداء البشر على الحيوان شر من اعتداء الطبيعة عليه.
ولا يوافق "موسل" على نطرية "كيتاني" في هجرة القبائل العربية من الجنوب إلى الشمال، أو من الشرق إلى الشمال. وقد رأى "كيتاني" كما سبق أن ذكرنا تقسيم جزيرة العرب إلى قسمين: قسم غربي وهو الممتد من فلسطين إلى اليمن، وينتهي بالبحر العربي، وتكون حدوده الشرقية "السراة" والغربية البحر الأحمر ومضيق باب المندب. وقسم شرقي، وهو ما وقع شرقي "السراة" إلى الخليج والبحر العربي.
وقد ظهر الجفاف في رأي "كيتاني" في القسم الشرقي قبل الغربي، وهذا صار سكانه يهاجرون منه بالتدريج إلى مواطن جديدة صالحة للاستيطان مثل العراق والشام، كما صار سبباً لظهور الصحارى الشاسعة في هذا القسم بصورة لا نعهدها في القسم الغربي. و يرى "موسل" أن هذا التقسيم لا يستند إلى أسس طبيعية و جغرافية، ولا إلى أراء "الكلاسيكين"، أو علماء الجغرافية العرب، أو غيرهم و انه مجرد رأي لا يكون حجة لإثبات هذا الرأي.
و لموسل رأي في الهجرات، يرى أن ما قاله "كيتاني" و غيره عن الهجرات من جزيرة العرب، من اليمن أو من نجد إلى الشمال، قول لا يستند إلى دليل تاريخي قوي. فليست لدينا حتى ألان براهين كافية تثبت - على حد قول موسل- أن أصل "الهكسوس" أو "العبرانيي" مثلا من جزيرة العرب. كما إن ما ادعاه "كيتاني" عن استمرار الهجرات من الألف الثالث أو قبل ذلك قبل الميلاد إلى القرن السابع بعد الميلاد قول لا ينطبق مع المنطق. فَلِمَ ضلت هذه الهجرات مستمرة إلى أن توقفت بعد القرن السابع للميلاد? أزدادت الرطوبة و تحسن الجو? أم أن القبائل الكبيرة قد تجزأت إلى قبائل صغيرة و عشائر و أفخاذ، فأصبح في إمكانها العيش بعض الشيء في محال صغيرة، لا تحتاج إلى مراعي شاسعة ، و لا إلى مياه غزيرة? فلم تدفعها الحاجة منذ هذا العهد إلى الهجرة في شكل موجات كبيرة و هل كان الجفاف هو المانع من مهاجمة حدود الإمبراطورتين البيزنطية و الساسانية كانتا قد سدتا أبواب جزيرة العرب على اهلها، فلم تسمحا بتخطي هذه الحدود? و يرى إن ما ادعاه "كيتاني" من أن الجفاف والجوع حملا قبائل اليمن على الهجرة إلى الهلال الخصيب حيث نزلت في أرضين كانت خالية مهجورة على أطراف الفرات والشام، فألفت حكومتي "المناذرة" و "الغساسنة"، قول لا يؤيده ما جاء في الكتب "الكلاسيكية" وفي المصادر "السريانية" من أن تلك الأرضين كانت عامرة، آهلة بالسكان، تمر بها الطرق التجارية العالمية. ويرى "موسل" أن الحكومتين "اللخمية" و "الغسانية" إنما ظهرتا بعد سقوط "تدمر" وقد أسس الدولتين "مشايخ من أهل الهلال الخصيب،ولم يكونوا مهاجرين وردوا من الجنوب، أو من العروض على نحو ما تزعمه بعض الروايات.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|