وأما موضوع الاستشهاد بالهجرات، فإنه موضوع غامض محتاج إلى دراسة علمية عميقة، فالذين يرون أن جزيرة العرب كانت مهد الجنس السامي،وضعوا نظريتهم هذه قياساً على روايات أهل الأخبار من أمر هجرة العرب إلى تلك الأرضين، ومن الفتح الإسلامي الذي جرف قبائل عدنانية وقحطانية فساقها إلى بلاد العراق وبلاد الشام وإلى ما وراء هذه الأرضين، ومن هجرة قبائل من جزيرة العرب إلى تلك البلاد حتى الزمن القريب،ومن أخبار عن هجرة الفينيقيين من البحرين إلى بلاد الشام. ولكننا تجد من ناحية أخرى ان التوراة تذكر آن الاسماعيليين هم سكان أرضين تقع في الأقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب وفي شرق فلسطين في البادية وفي طور سيناء، والأخباريون يذكرون أن العدنانيين هم من سلالة اسماعيل أي أنهم اسماعيليون، ويذكرون أنهم جاؤوا من الشمال فسكنوا الحجاز، وأن جدهم رفع قواعد البيت الحرام، ونرى أن اليهود زحفوا من فلسطين نحو الحجاز، وأن أقواماً من سكان العراق زحفوا نحو الجنوب فسكنوها في العروض. وان قبائل عراقية كالقبائل العبرانية هاجرت من العراق إلى بلاد الشام ثم إلى مصر ثم عادت إلى بلاد الشمام، فمثل هذه الهجرات تلفت النظر وتجعل الباحث يبحث عن أمثلة أخرى من هذا القبيل، لعله يجد غيرها أيضا. وهي تجعله يشعر أن الهجرات لم تكن دائماً في اتجاه واحد، بل كانت حركة دائمة نتجه مختلف الاتجاهات، لعوامل سياسية واقتصادية وحربية ساحتها من شمال بلدية الشام إلى سواحل البحر العربي في الجنوب، ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل الخليج العربي، فهي ليست هجرات بالمعنى الذي نفهمه من الهجرات في لغة علماء الساميات، ذات أزمان معينة لها أمد محدود كألف عام أو أكثر من ذلك أو أقل، و بمقياس ضخم كبير، بل هي حركة دائمة لقبائل أو لجماعات تتنقل من مكان إلى مكان طلباً للمعاش أو لأحوال سياسية وحربية، فهي هجرة بهذا المعنى إذن ليس غير. فهذه الأرضون التي تشمل كل جزيرة العرب والعراق إلى حدود الجبال وكل البادية الواسعة حتى سواحل البحر الأبيض فطور سيناء إلى نهر النيل،
هي مواطن الساميين، ومسارحهم التي كانوا وما زالوا يدرجون عليها. وقد درجت عليها أقوام أخرى أيضا ليست بأقوام سامية، قبل الميلاد وبعده، بل حتى في زمن الاسلام، ولكنها غلبت على أمرها، وصهرت في بوتقة الساميين، أمثال الفرس واليونان والرومان والصليبيين. فقد بقي من هؤلاء خلق اندمجوا بهم وتخلقوا بأخلاقهم وتكلموا بألسنتهم بمرّ السنين، حتى صاروا مثلهم ومنهم، وبذلك امتزجت دماء الساميين بدماء غريبة عنهم فدمهم من هنا ليس بدم صاف نقي، وليس في الأجناس البشرية جنس يستطيع أن يفخر فخراً مطلقاً بكونه الجنس النقي الخالص الذي لم يختلط قط بأي دم غريب.
أضف إلى ما تقدم أن العلماء القائلين بتبدل الجو وبتغيره، هم على خلاف بينهم في الأزمنة وفي الأسباب. فمنهم من بالغ، ومنهم من أفرط حتى قال إن الجو في جزيرة العرب كان يختلف في أيام اليونان والرومان عنه في الأيام الحديثة. ومنهم من قال إن الجو لم يتبدل تبدلا محسوسا مؤثرا فيها منذ حوالي ألفي عام، و منهم من عزا أسباب انخفاض مستوى الماء الارضي في جزيرة العرب إلى عوامل ليست لها صلة بتبدل الجو، وعزا خراب القرى و المدن و اندثار السدود إلى عوامل أخرى لا علاقة لها بتبدل الجو. ومع كل ذلك، فأن هذه الدراسات لم تنضج بعد، ودراسة جزيرة العرب و جوها لم تتم بصورة علمية مختبرية بعد، و أكثر ما ذكرته هو ملاحظات مؤرخين أو باحثين علميين، على نحو من الحدس و التخمين، و لا يمكن بناء نظريات معقولة على مثل هذه الآراء.
إن هذه الملاحظات تدفعني إلى التريث في البت في وطن الجنس السامي،حتى تتهيأ دراسات أخرى علمية دقيقة عنه، لأن الأخذ بالقياس، و بمجرد الملاحظات والمشاهدات، لا يمكن أن يكون دليلاً علمياً مقنعاً في تثبيت الوطن الأول الذي ظهر فيه هدْا النسل الذي نسميه بالنسل السامي. وان كنت أجد أن جزيرة العرب قد أمدّت الأقسام العليا منها، وهي بلاد العراق والبادية وبلاد الشام بفيض من الناس، بصورة دائمة مستمرة، وذلك لأسباب عديدة عسكرية واقتصادية، و إنها لم تأخذ من تلك الأرضين مثل هذا الفيض.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|