و البدوي يحتقر الحضري مهما أكرمه، كما إن الحضري يحتقر البدوي، فإذا و صف البدوي الحضري، فأنه في الغالب يقول حُضيري تصغيرا لشأنه.
و من عادة البدوي الاستفهام عن كل شيء، و انتقاد ما يراه مخالفا لذوقه أو لعادته بكل صراحة، فإذا مررت بالبدوي في الصحراء استوقفك و سألك من أين أنت قادم? و عمن وراءك من المشايخ و الحكام? و عن المياه التي مررت بها? أسعار الأغذية و القهوة? وعمن في البلد من القبائل? و عن العلاقات السياسية بين الحكام بعضهم و بعض.
و مع إن البدوي قد اعتاد النهب و السلب، فإنهم كثيرا ما يعفون عن أهل العلم خوفا من غضب الله عليهم، و بعض البدو لا يحلف كاذبا مهما كانت النتيجة. و البدوي ينكر إذا وجد مجالا للإنكار، و يفلت بمهارة من الإجابة عما يسأل، و لكن إذا وجه له اليمين و كان لا مفر له اعترف بجرمه إذا كان مذنبا، و لا يحلف كذبا" "وليس أعدل من البدوي في تقسيم الغنيمة حتى قد يتلفون الشيء تحريا للعدل، و يقسمون السجادة بينهم كما يقسمون القميص لو السروال، كل هذا إرضاء لضمائرهم دفعا للضلم، إنهم يعرفون الخيام حق المعرفة لأنها بيوتهم التي يعيشون فيها، و مع ذلك فهم يقسمونها مراعاة للعدل، أما الإبل و الغنم فأنهم يقسمونها إذا أمكن القسمة أو يقومونها بثمن إذا لم يكن هناك سبيل للقسمة".
"و البدو لا يفهمون الحياة حق الفهم كما يفهمها الحضري، لا يفهمون البيوت و هندستها، ولا يفهمون فائدة الأبواب والنوافذ الخشبية، حتى إن البدو الذين كانوا في جيش الملك حسين في الثورة العربية كان عملهم بعد الاستيلاء على الطائف نزع خشب النوافذ والأبواب، لا لبيعها والانتفاع بثمنها بل لاستعمالها وقوداَ أما للقهوة أو الطبخ أو التدفئة، وبدو نجد قد فعلوا مثل ذلك تمامأ، فعندما أسكنت الحكومة بعض القبائل في ثكنة جَرْوَلْ، اكتشفت الحكومة إن النوافذ الخشبية والأبواب تنقص بالتدريج، وأنها استعملت للطبخ وتحضير القهوة، فأخرجهم جلالة الملك تواً من الثكنة، وأسكن الحضر فيها، والحضر بطبيعتهم يصفمون ما لا يفهمه جهلة البدو عن النوافذ والأبواب.
"وللبدو مهارة فائقة في اقتفاء الأثر، وكثيراً ما كانت هذه المعرفة سببا في اكتشاف كثير من الجرائم ولا تكاد تخلو قبيلة من طائفة منهم.
"والقبائل العريقة المشهورة من حضر وبادية تحافط على أنسابها تمام المحافظة وتحرص عليها كل الحرص، فلا تصاهر إلا من يساويها في النسسب، والقبائل المشكوك في نسبها لا يصاهرها أحد من القبائل المعروفة.
"أما حكام العرب، فيترفعون عن سائر الناس حضرهم وبدوهم،لا يزوجون بناتهم إلا لقرباهم. ما هم فيتزوجون من يشاءون، وطبقات الحكام يترفع بعضها على بعض: الأشراف يرون أنفسهم أرفع الخلق بنسبهم، وآل سعود يرون أنفسهم أرفع من الأشراف، وأرفع من سواهم من حكام العرب الآخرين".
وهنا ترى الروح الصحيحة البدوية التي لا تملك شروى نقير ترفض الزواج من غني، لأنه ابن صانع، أو انه من سلالة العبيد، أو لأن نسبه القبلي يحيط به شيء من الشك، فسلطان المال لا قيمة له عند العرب. ومع وجود هذه الروح الأرستقراطية التي تتجلى فقط في الزواج ورياسة القبيلة والحكم،فإنه لا يكاد يوجد فارق في طرق المعيشة الأخرى".
ومن عادة القسم الأكبر من سكان الجزيرة، ولا سيما البدو، مخاطبة رؤسائهم بأسمائهم أو بألقابهم، لأنهم لا يعرفون الألقاب وألفاظ التعظيم والتفخيم، فيقولون يا فلان ويا أبا فلان ويا طويل العمر.
ولا يزال العربي الصريح ينظر إلى الحِرَف والمهَن نظرة ازدراء، وإلى المشتغل بها نظره احتقار وعدم تقدير.
والبدوي، لا ينسى المعروف، ولكنه لا ينسى الإساءة كذلك، فإذا أسيء اليه، ولم يتمكن من رد الإساءة في الحال، كظم حقده في نفسه، وتربص بالمسيء حتى يجد فرصته فينتقم مه. فذاكرة البدوي، ذاكرة قوية حافظة لا تنسى الأشياء.
فترى من هذه الملاحظات إن كثيراً من الطباع التيّ تطبع بها عرب الجاهلية ما زالت باقية، وبينها طباع نهى عنها الإسلام وحرمها، لأنها من خلال الجاهلية، و مع ذلك احتفظ بها البدوي وحافظ عليها حتى اليوم، وسبب ذلك أن من الصعب عليه نبذ مما كان عليه آباؤه وأجداده من عادات وتقاليد. فالتقاليد والعرف وما تعارفت عليه القبيلة هي عنده قانون البداوة. وقانون البداوة دستور لا يمكن تخطيه ولا مخالفته، ومن هنا يخطئ من يظن أن البداوة حرية لا حد لها، وفوضى لا يردعها رادع، وان الأعراب فرديون لا يخضعون لنظام ولا لقانون على نحو ما يتراءى ذلك للحضري أو للغريب. انهم في الواقع خاضعون لعرفهم القبلي خضوعاً صارماً لشديداً، وكل من يحرج على ذلك العرف يطرد من أهله ويتبرأ قومه منه، ويضطر أن يعيش "طريداً" أو "صعلوكا" مع بقية "صعاليك".
العرب والعربي رجل جاد صارم، لا يميل إلى هزل ولا دعابة، فليس من طبع الرجل أن يكون صاحب هزل و دعابة، لأنهما من مظاهر الخفة والحمق، ولا يليق بالرجل أن يكون خفيفاً. ولهذا حذر في كلامه وتشدد في مجلسه، وقل في تجمعه الإسفاف. وإذا كان مجلس عام، أو مجلس سيد قبيلة، روعي فيه الإحتشام، والابتعاد عن قول السخف، والاستهزاء بالآخرين، وإلقاء النكات والمضحكات، حرمة لآداب المجالس ومكانة الرجال.
وإذا وجدوا في رجل دعابة أو ميلاً إلى ضحك أو إضحاك، عابوا ذلك الرجل وانتقصوا من شأنه كائناً من كان، وعبارة مثل "لا عيب فيه غير أن فيه دعابة لا أو "لا عيب فيه إلا أن فيه دعابة "، هي من العبارات التي تعبر عن الانتقاص والهمز واللمز.
والبدوي محافظ متمسك بحياته وبما قدر له، معتز بما كتب له وان كانت حياته خشونة وصعوبة ومشقة. ومن هذه الروح المسيطرة عليه، بقي هو هو، لا يريد تجديداً وتطويراً، إلا إذا أكره على التجديد والتغير والتبديل، فهنا فقط يخضع لقانون "القوة"، وهو لا يسلم له إلا بعد مقاومة،و إلا بعد شعوره بضعفه وبعدم قابليته على المقاومة. فيتقبل الآمر الواق مستسلماً، ومع ذلك يبقى متعلقا بما فيه، يحاول جهد إمكانه التمسك به، ولو بإلباسه ثوباً جديداً. وفي القرآن الكريم آيات بينات فيها تقريع و تعنيف للأعراب، ووصف لحياتهم النفسية. فيها أن الأعرابي محافظ لا يقبل تجديداً، ولا يرضى بأي تغيير كان لا يتفق وسنة الإباء والأجداد. ومنطقه في ذلك: "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا "، "إنا وجدنا إباءنا على أمة، و إنا على آثارهم مقتدون".
ولهذا لا نجد البدو يؤمنون بصفة التقدم والنشوء والأرتقاء. فالبدوي يعيش أبداً كما عاش آباؤه وأجداده، مساكنه بيوت الشعر، وهي لا تحميه ولا تقيه من اثر أشعة الشمس المحرقة ولا من العواصف والأمطار، ومع ذلك لايستبدلها بيتاً آخر، ولا يفكر في تحسين وضعه وتغيير حاله: "إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون ". وليس من الممكن أن تقوم في هذه البادية ثقافة غير هذه الثقافة الصحراوية الساذجة، ما دام البدوي مستسلماً مسلماً نفسه للطبيعة ولحكم القدر، وهو استسلام اضطر إلى الخضوع له والإيمان بحكمه، بحكم عمل الطبيعة القاسية فيه منذ آلاف السنين.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|