وقد ذكر "بروكوبيوس" أن معداً هم جماعة من "السركينوى"، أي جماعة من القبائل التي عرفت عند اليونان باسم "السرسين" أيضا، كما ذكرت ذلك في السابق. وهذا يعني أن معداً لم تكن في أيام ذلك المؤرخ الذي لم يبعد عهده عن الإسلام كثيراً، على النحو الذي يصوّره الأخباريون. وكل ما في الأمر إنها قبيلة أو مجموعة قبائل تسمى ب "معد"، وأنها كلها أو قبيلة منها كانت خاضعة لحمير، أي للسلطة الحاكمة على اليمن يومئذ، وهي الحبشة، ثم استقلت عنها.أما بقية معد، فلم يتحدث المؤرخ عنهم، لذلك لا ندري أكان "معد" "بروكوبيوس" هم جماعة أو جماعة منها.و إذا كان الشعر المنسوب إلى "أبن بقيلة"، و هو من نقباء الحيرة و ساداتها صحيحاً: تكون كلمة "معد" معروفة في ذلك العهد، على نهو يفهم منه إنها كانت تعني قبائل عديدة أعرابية تنضوي كلها تحت هذه التسمية. فقد جاء في شعره ألم وتوجع لما حل بأهل الحيرة بعد الفتح، فقد رأى سواماً تروح بالخورنق والسدير بعد ما كانا مكانين مختارين للمنذرين، وبعد فرسان النعمان، يرى الناس قلوصاً بين "مرة والحفير"، وصاروا بعد هلاك "أبي قبيس" كجُرب المعز في اليوم المطر، وقد تقاسمتهم القبائل من معد، علانية كأيسار الجزور، بعد أن كانوا أناساً لا يرام لهم حريم، وصاروا كضرة الضرع الفخور، يؤدون الخراج بعد خراج كسرى، وخراج من قريظة والنضير، ثم خلص إلى نتيجة يخلص إليها من ييأس ويقنع، فقال: كذاك الدهر دولتُه سجـالٌ فيوم من مساءة أو سرور
وقد ذكر "الطبري" إن خالداً لما أمره "أبو بكر" بفتح العراق، وقصد الأُبلّة، حشر ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، وربما قصد "ابن بقيلة" من "معد" هذه القبائل التي انضافت إلى خالد. ولكن القبائل التي انضافت إلى خالد في العراق أو التي حاربته هي من مضر وربيعة في الغالب، وبين سكان الحيرة قوم يرجعون أنسابهم إلى تميم وإلى قبائل معدية، فكيف يتألف "ابن بقيلة" من إدبار الدنيا ومن إعراضها عنه وعن أمثاله حتى صاروا في حكم "معد"، وقد اقتسمتهم قبائل معد. فالظاهر إنه كان يتأفف لأن الأمر أدبر منه ومن سادة أهل الحيرة والقرى، وهم حضر مستقرون، لهم نعيم وملك وقصور وبيوت وعيش رغيد. ولكن الدنيا أدبرت عنهم، وسلمت الأمر إلى قبائل من معد، وهم أعراب، وصار أمرهم إليهم، فتأفف من ذلك الزمان.
وقد عرف "حذيفة بن بدر" سيد غَظَفان ب "رب معد"، وكان من أشرف بيوتات هذه القبيلة، التي كانت محالفة ل"أسد". وقد عرفتا ب "الحليفتين" مما يدل على انهما كانتا متحالفتين. ويدل هذا النعت الذي نعت به "حذيفة"، وهو "رب معد"، على إن معدا كانت قبائل، وكل منها تنتسب إليها، وأنها لم تكن قبيلة معينة، أي إنها كانت قبائل ترى نفسها إنها من نسب واحد، وان قبيلة واحدة منها إذا برزت وظهرت جاز لها أن تمثل قبائل معد، وأن ينعت رئيسها نفسه ببعض النعوت التي تدل على ترأسه لها، ومنها "رب معد".
فيتبين من كل ما تقدم إن "معداً" كلمة أريد بها أعراب كانوا يتنقلون في البوادي، يهاجمون الحضر والأرياف بصورة خاصة، لأنها كانت أسهل صيد للأعراب بسبب بعد أهلها عن سيطرة الحكومة المركزية، وعدم وجود قوات دفاعية رادعة لتدافع عنهم. وكانوا يباغتون الناس ويفاجئونهم، وكانت حياتهم حياة قاسية صعبة. ولم يكونوا قبيلة واحدة، ولكن قبائل عديدة، تتشابه في المعيشة، وتشترك في فقرها وفي تعيشها على الغزو والتنقل، وقد كانت تقيم في البوادي وعلى أطراف الحضارة، كانت مواطنها بادية الشام ونجد والحجاز والعربية الشرقية. ثم صارت اللفظة علماً لرجل صير جدّاً للقبائل التي عاشت هذه المعيشة، وعرفت بهذه التسمية على الطريقة المعروفة عند العرب وعند غيرهم من الساميين من تحويل أسماء الأماكن أو الأصنام أو المحالفات إلى أسماء أجداد وآباء.
وقد كانت "تهامة" موطن أبناء معد على حسب رأي أهل الأخبار. سكنت قضاعة من ساحل البحر حيث أنشأت "جدة" فيما بعد إلى حيز الحرم، وسكن أبناء جنادة بن معد منطقة الغمر: غمر ذي كندة، وكانت كندة قد أقامت بها أيضاً فعرفت بها. وسكن أبناء قنص بن معد وسنام بن معد، وبقية ولد معد أرض مكة، حيث أقاموا مع بقايا جرهم. ظلوا على ذلك متساندين متآلفين تضمهم المجامع، وتجمعهم المواسم، حتى وقع الشر بين هم، فتفرقوا وتخاذلوا وقاتل بعضهم بعض، يقتل العزيز منهم الذليل.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|