وقد ذهب بعض الباحثين في التوراة إلى إن عابراً، جدّ قبيلة كبيرة، انقسمت على نفسها إلى قسمين: قسم بقي فيما بين النهرين، وهو القسم الذي عرف بذرية "فالج"، ومن هذه الذرية انحدر "العبرانيون"، و قسم ترك ما بين النهرين" و ارتحل إلى جزيرة العرب، و هو القسم الذي عرف ب "يقطان"، و دليلهم على ذلك إن معنى "فالج" هو الانشقاق" و "الانقسام"، و إن في أيامه "قسمت الأرض" على رواية أهل التوراة. ومعنى ذلك انقسام ذرية "عابر"، وانشطارهم إلى شطرين.
وقد ذكر "الطبري" إن "بني يقطن" لحقت باليمن، فسميت اليمن حيث تيامنوا، ومصدر خبره هذا "ابن هشام"، وقد اخذ "ابن هشام" خبره هذا من أهل الكتاب و لا شك.
ويشك بعض دارسي التوراة في كون "يقطان" المذكور هو "قحطان" الذي يذكره علماء الأنساب، ويرون إن نظرية من يجعل قحطاناً هو "يقطان"، نظرية لا تستند إلى أساس، و إنما وضعت على التشابه الموجود بين اللفظين، وهذا التشابه هو الذي دفع علماء الأنساب إلى اعتبار "قحطان" "يقطاناً"، فمن ثم صار "يقطان" جدّاً للعرب القحطانيين. ولكنهم لا ينكرون ذلك أن "يقطان" التوراة، هو جدّ قبائل ذكرت التوراة أسماءها، وبعضها قبائل، عربية معروفة، فلا يستبعد أن يكون "يقطان" على رأيهم كناية عن قبائل عربية لم يكن العبرانيون على علم بها تمام الحلم.
ولم ترد في القرآن الكريم لفظة "قحطان" أو "يقطان".
ولم ترد كذلك في الكتابات الجاهلية. أما الشعر الجاهلي، فقد وردت فيه في مواضع الفخر والحماسة. و إذا وافقنا على إنها وردت في الجاهلية القريبة من الإسلام،فان موافقتنا هذه لا تعني أن قدماء أهل الجاهلية البعيدين عن الإسلام كانوا على علم ب "قحطان"، أو إن قوما منهم كانوا ينتمون إليه وينتسبون بنسبه، فحكم مثل هذا لا بد أن يستند إلى كتابات وأدلة مقبولة. ولهذا رأى نفر من المستشرقين إن الأخباريين جاؤوا بقحطانهم هذا من التوراة، من تأثرهم بأهل الكتاب، ومن مطالعتهم للتوراة، فحولوا النزاع الذي كان بين أهل اليمن وفيهم "سبأ"، والنزاع الذي كان بين أهل مكة وبين أهل مكة ويثرب التي ينتمي أهلها إلى اليمن إلى نزاع بين جدّين، وصار "قحطان" وليد "يقطان" "يقطن" جدّاً حقيقياً ليمن ولمن نسب نفسه إليهم من الأفراد والقبائل.
وقد ورد في جغرافيا "بطلميوس" اسم قريب من "قحطان" هو "كتنيته" "كتانيته" "Katanitae"، قد يكون دليلاً على وجود أسماء عند الجاهليين قريبة من" قحطان". أما هذه التسمية، فإننا لا نستطيع أن نقول لها علاقة بقحطان. فالتشابه في التسميات، لا يكون دليلاً قاطعاً على وحدة تلك التسميات. وقد ورد في الموارد العربية اسم قبيلة عرفت ب "قطن" و ب "بني قطن"، كما ورد اسم مكان عرف ب "جو قطنن"، واسم مدينة تدعى "قحطان"، تقع بين "زبيد" و "صنعاء". لهذا أرى إن من الخير لنا ألا نتحذ موقفاً خاصاً لا سلباً ولا إيجاباً تجاه هذا الموضوع انتظاراً لاستكمال العدة والحصول على مواد جديدة تكفي لإصدار حكم فيه.
أما بلاد "اليقطانيين"، على رأي التوراة، فتمتد من "ميشا" "Mesha" إلى "سفار" "Sephar
ولم تذكر التوراة حدوداً جغرافية لها غير هذين الحدين. ولا يعرف العلماء عن موضوع "ميشا" شيئاً. فذهبوا في تعيينه مذاهب. ذهب بعضهم إن إنه "مسينة" أو "ميسان" "Mesene" على رأس الخليج العربي، وذهب آخرون إلى إنه "موزح" أو "موسج" في نجد، ورأى آخرون إنه "ماشو" "Mashu" أو "ماش" "Mash"، أي بادية الشام في الكتابات الآشورية.
وذهب "ديلمن" "Dillmann" إلى إن "ميشا"، تحريف "مسا" "Massa"، وهو اسم أحد أبناء إسماعيل، فتكون حدود "اليقطانيين" على رأيه بعد حدود أرض "مسا"، من قبائل، الإسماعيليين مباشرة، غير إننا لا نستطيع مع ذلك من تعين الموضع، لأننا لا نعلم أيضاً أين كانت مواطن "مسا" من قبائل الإسماعيليين، فكيف نثبت هذه الحدود? وأما الحد الآخر، وهو "سفار"، فهو الحد الجنوبي للبلاد "اليقطانيين"، وذلك باجماع آراء علماء التوراة. ولكنهم يختلفون في تعين الوضع فقط، فمنهم من رأى إنه "ظفار" عاصمة الحمربلإت، ومنهم من يرىً إنه "ظفار" حضرموت التي اشتهرت شهرة واسعة في العالم القديم، وورد ذكرها في الكتب "الكلاسيكية". ومن المرجح أن تكون هي الموضع المقصود، وذلك لشهرتها هذه ولقدمها.
وقد جعلت التوراة ل "يقطان" أولاداً، عدتهم فيها ثلاثة عشر ولداً، هم: الموداد، و شالف، وحضرموت، ورياح، وهدورام، وأوزال، و دقلة، و عوبال، و ابيمايل، وشبا، و اوفير، و حويلة، و يوباب. و هذه الأسماء، هي أسماء قبائل، وأمكنة، اعتدَّها كتبة التوراة على عادة ذلك العهد أسماء أعيان، و صيروها أسماء أولاد "يقطان".
ولا يعني هذا العدد، في نظري إنه جميع القبائل العربية التي كانت تقيم في مواطن "اليقطانيين": و إنما هو حاصل ما بلغ إليه علم كتبة تلك الأسفار في ذلك اليوم من أمر هذه القبائل، ولم تكن معارف أولئك الكتبة يومئذ أكثر من هذا الذي ذكروه ودنوه. على نحو ما وصل إلى علمهم ومسامعهم، فهو لهذا لا يمثل أي ترتيباً جغرافياً للأماكن المذكورة ولا سرداً على نسق معين مضبوط.
ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه الأسماء نجد إنها قد كدّست في منطقة ضيقة، هي اليمن وحضرموت. أما ما فوقها إلى "ميشا" نهاية الأرض اليقطانية في الشمال، فلم يذكر الكتبة من أسماء قبائلها شيئاً ما. وهو يدل على أنهم لم يكونوا يعرفون عن باطن جزيرة العرب شيئاً، أو أن موضع "ميشا" في مكان آخر في غير هذا الموضع الذي تصوره علماء التوراة، كأن يكون في شمال اليمن مثلاً، وبذلك يستقيم التحديد كل الاستقامة مع ما هو شائع معروف من أن أرض اليمن وبقية العربية الجنوبية هي موطن القحطانيين.
ويظر أن كتبة النسب في التوراة لم يراعوا في عدهم أسماء أبناء يقطان الترتيب الجغرافي، أو قرب اليقطانيين وبعلي هم عن العبرانيين. فهذا الترتيب، لا يشير - في الحقيقة - إلى أن الأسماء وضعت على أساس جغرافي. والظاهر إنها جمعت كما وصلت إلى مسامع العبرنيين من غير فحص أو تدقيق، كما أننا لا نستطيع أن نؤكد إنها وصلت صحيحة سالمة من غير تصحيف أو تحريف.
و "الموداد" "مودد" "المودد" "Al-Modad"، هو الابن البكر ليقطان على ما يفهم من التوراة. وهو رمز عن شعب من الشعوب اليقطانية، يرى نفر من علماء التوراة أن مواطنه في العربية الجنوبية. قد يكون في جنوب غربي جزيرة العرب. وقد وردت في النصوص العربية الجنوبية وفي نصوص غير عربي كلمات قريبة من هذه الكلمة، مثل "موددى" في البابلية، و"مودادو" "موددو" في البابلية أيضاً وفي "الأمودية". ووردت لفظة "مودد" في كتابات "جبانية" "كبانية" "Gebanitae"، في نصوص تدل على تقرب ملوك "حبان" "جبن" "كبن" "جبان" من ملوك معين، وإلى سيادة "معين" على "الجبأنيين" في ذلك الحين. فورد "مودد ملك معين" بمعنى "المتودد لملك معين" و "المحب لملك معين".
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|