الفصل الحادي عشر
أنساب العرب
للنسب عند العرب شأن كبير، ولا يزال العربي يقيم له وزناً، ولا سيما عربي للبادية. فعلى نسب المرء في البادية تقوم حقوق الإنسان، بل حياته في الغالب. فنسب الإنسان، هو الذي يحميه، وهو الذي يحافظ علما حقوقه ويردع الظالم عنه ويأخذ حق المظلوم منه.
وقد يبدو ذلك للمدني الأعجمي أمراً غريباً شاذاً غير مألوف. ولكن هذا المدني نفسه يعمل بالنسب ويأخذ به، وإن كان في حدود ضيقة، فجنسيته هي نسبه، تحميه وتحفظ حقوقه. وليس نسب الأعرابي غير هذه الجنسية، يحتمي به، لأنه يصونه ويحفظ حقوقه ويدافع عنه. وهو مضطر إلى حفظه، وإلى عدّ آبائه وأجداده وذكر عشيرته وقبيلته، لأنه بذلك يسلم، ويحافظ على حياته. فإن أراد شخص الاعتداء عليه، عرف إن وراءه قوماً، يدافعون عنه ويأخذون حقه من المعتدى عليه. وهو لذلك مضطر إلى حفظ نسبه والمحافظة عليه.
وأما كون الحضر أقل عناية بأنسابهم من أهل الوبر، فلأن الحاجة إلى النسب عندهم أقل من حاجة أهل الوبر إليها. فالأمن مستقر، ولدى الحضر في الغالب حكومات تأخذ في المعتدى عليهم من المعتدين. ثم إن مجال الاختلاط والامتزاج عندهم أكثر وأوسع من أهل البوادي وسكان الأرياف، وكلما كانت الحواضر قريبة من السواحل ومن بلاد الأعاجم، كان الاختلاط أوسع وأكثر، ولهذا ضعفت فيها وشائج الدم والنسب، وكثر فيها التزاوج والتصاهر بين العرب والعجم، فصعب على الناس فيها المحافظة على أنسابهم، وقلت الفائدة من النسب عندهم. ولهذا لم يعتنوا به عناية الأعراب بالأنساب.
فالانتماء إلى عشيرة أو في قبيلة أو حلف، هو حماية للمرء، وجنسية في عرف هذا اليوم. ولهذا صار إخلاص الأعرابي لقبيلته أمراً لازماً له محتماً عيله، وعليه أن يدافع عن قبيلته دفاع الحضري عن وطنه.فالقبيلة هي قومية الأعرابي، وحياته منوطة بحياة تلك القبيلة. ولهذا كانت قومية أهل الوبر قومية ضيقة، لا تتعدى حدودها حدود القبيلة وحدود مصالحها وما يتفق أهل الحل و العقد فيها عليه. ومن هنا صارت القبائل كُتلاً سياسية، كل كتلة وحدة مستقلة، لا تربط بينها إلاّ روابط المصلحة والفائدة والقوة والضعف والنسب.
والعادة انتساب كل قبيلة إلى جدّ تنتمي إليه، وتدعي إنها من صلبه، وان دماءه تجري في عروق القبيلة، وتتباهى به و تفاخر، فهو بطلها ورمزها، وعلامتها الفارقة التي تميزها عن القبائل الأخرى. وليس ذلك بدعاً في العرب، بل إنّا لنجد الأمم والشعوب الأخرى تنتمي إلى أجداد وآباء. ف "هيلين" "Hellen"، هو جدّ أهل "دورس" "Dorus"، ومنه أخذ "الهيليون" اسمهم هذا. وكان للرومان وللفرس وللهنود وللأوروبيين أجداد انتموا إليهم واحتموا بهم وتعصبوا لهم ونسبوا أنفسهم إليهم على نحو ما نجده عند العرب والإسرائيليين وبقية الساميين.
وفي التوراة ولا سيما "أسفار التكوين" منه، أبرز أمثلة على النسب، نجد فيها أنساب الأنبياء والشعوب، وأنساب بني إسرائيل. يسبق النسب في العادة جملة: "وهذه مواليد" "وإله تولدت"، ثم يرد بعدها النسب. أي أسماء من يراد ذكر نسبهم. قد يذكر نسب الأب والزوجة والولد، وقد لا تذكر الزوجة، بل يكتفي بالأب وبأولاده. وقد لا يذكر الولد. والذي يقرأ هذه الأسماء يقرأها وكأنها أسماء أشخاص حقاً. ولكننا إذا قرأناها قراءة نقد، نرى أن بعضها أسماء مواضع ومواقع، أو أسماء قبائل، وعشائر أو أسماء طواطم، أي أسماء حيواناتّ سمت بها القبائل، مثل "ذئب" و "كلب" و "أسد" و "ضبة" وأمثال ذلك، وكلها كناية عن قائل وشعوب عاشت قبل الشروع في تدوين هذه الأنساب أو في أيام التدوين.
ويظهر من كيفية عرض هذه الأنساب وجمعها وتبويبها أن في العبرانيين جماعة من النسابين اختصت بجمع الأنساب وحفظها، ومنهم من كان يعتني بجمع أنساب الغرباء عن بتن إسرائيل، وربما كان كتبة الأسفار من هؤلاء. فلما شرع كتبة أسفار التكوين بقصة الخلق وبكيفية، وزع شعوب العالم وظهور الإنسان على سطح الأرض، كان لابد من ذكر الشعوب وأنسابها على أسلوب كتابة التأريخ في ذلك العهد، فاستعين بما نجمع عند نسابي العبرانيين من علم بالنسب، وأدرج في هذه الأسفار.
وقد وردت في التوراة في أسفار التكوين وفي "أخبار الأيام الأولى" أسماء قبائل عربية، رجعتها إلى مجموعات، مثل مجوعة "يقطن" "يقطان"، ومجموعة الإشماعليين، أي الإسماعيلين، نسل إسماعيل،غير إنها لم تشر كعادتها بالنسبة إلى كل أنساب البشر إلى المورد الذي أخذت منة تلك الأنساب. لذلك لا ندري إذا كانت التوراة قد اقتبست ما ذكرته عن أساب الأمم من الأمم التي تحدثت عن نسها، بأن أوردت تلك الأنساب على نحو ما كان شائعاً متعارفا عند الأمم المذكورة بالنسبة لنسبها، أو أنها روتها على حسب ما كان متعارفاً عند قدماء العبرانيين في أجداد البشر وفي أنسابهم، فدوّنتها على هذا النحو الشائع بين العبرانيين اذ ذاك.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|