بل خذ القحطانيين الجنوبيين، وهم لبّ القحطانية ومادتها، ترَ إن القحطاني الساكن على السواحل الجنوبية يختلف في سحنته عن القحطاني الساكن في المرتفعات والهضاب، والجبال. وان الساكن على السواحل المقابلة للسواحل الأفريقية يختلف في ملامحه الجسمية عن الساكن على السواحل المقابلة للهند، وان سكان حضرموت أو عمان أو مسقط يختلفون في الملامح والسحن عن إخوانهم القحطانيين الساكنين في اليمن وفي نجران وفي الأقسام الجنوبية من المملكة العربية السعودية. فهل يكون هذا الاختلاف دليلاً على قحطانية بالمعنى الذي يزعمه أهل الأنساب ?
ولقد ذهب بعض الباحثين في علم الأجناس البشرية "الأنتروبولوجي" "Anthropology" إلى إن العرب الجنوبيين هم من أصل حامي، وان وطنهم الأصلي هو أفريقية. وقد ذهب بعض آخر إلى وجود شبه كبير في الملامح وفي الخصائص البشرية بين العرب الجنوبيين والقبائل الإفريقية الساكنة على الساحل الإفريقي من البحر الأحمر والصومال، إلا إنه نسب ذلك إلى إن تلك القبائل كانت عربية في الأصل، هاجرت من جزيرة العرب عن طريق باب المندب إلى أفريقية، فسكنت هناك. ومن ثم وقع هذا التشابه. بين تلك القبائل والعرب الجنوبيين.
ورأى آخرون أن العربية الجنوبية هي مزيج من الأجناس البشرية واضح المعالم، وذلك منذ أقدم أيامها.
فنرى فيها قبائل تشبه جماعة "الفيديد" "Weddid" الهندية، وهي من للسلالات الهندية القديمة، يسكن بعضها في أرض "سيهان" و "معارة" من حضرموت، ونرى فيها عناصر مما يطلق عليها اسم "الجنس الشرقي" "Orientalide Rasse"، وهو الجنس الذي يكثر وجوده بين العرب الشماليين، وعناصر أخرى تمثل إنسان حوض البحر المتوسط "Mediterranen Rasse" أو الأجناس الأوروبية، حيث وجد بعض السياح بين بعض قبائل اليمن جماعة من الناس لها عيونُ زرق وشعر أشقر وبشرة بيضاء أو تميل إلى البياض وملامح أوروبية بينة، وتتراوح نسبة هؤلاء بين 8 إلى 12 بالمئة.
ووجد الباحثون بين قبائل العربية الجنوبية،جماعات لها ملامح آشورية وجماعات ذات ملامح تشبه ملامح سكان آسية الصغرى، وجماعات ذات ملامح أفريقية. وقد وجد الدكتور "سليمان أحمد حزين" أن بين أهل شمال اليمن وبين أهل جنوب اليمن إلى المحيط اختلافات بارزة في الملامح وفي المظاهر الجسمية يخرجنا البحث عنها هنا من حدود التأريخ العام. ووجد غيره مثل ذلك. كما وجد هذا الاختلاط بارزاً في بقايا الهياكل البشرية القديمة التي عثر عليها في العاديات.
وما هذه المظاهر والملامح التي رأيناها من الجماجم وبقية الهياكل البشرية ومن أشكال التماثيل والصور، ومن دراسات الباحثين "الأنتروبولوجيين" للقبائل الحاضرة،
إلا حكاية واضحة صريحة عن عملية امتزاج أجناس بشرية متعددة في العربية الجنوبية، بسبب الهجرات والحروب والاتصال البحري والتجارة وعوامل أخرى، ونجد مثل ذلك بالطبع بين من نسميهم بالعرب الشماليين. وسوف نرى إن الدول القديمة كانت تنقل البشر نقلا من مناطق إلى مناطق فتزرعهم فيها، وان أكثر أفراد الجيوش التي كانت ترسل لمحاربة القبائل أو للتوسع في الجزيرة كانت تبقى وتستقر في المواضع التي ترسل إليها، فتتطبع بطباع من نزلت بينهم، وتكون في النهاية منهم، أضف إلى ذلك الرقيق.
وقد ذكر إن جماعة من "بني الحارث بن كعب" وفدت على الرسول، فنظر إليهم، فقال: " من هؤلاء الذين كأنهم من الهند?". وقد كان "قيس بن عمرو" الشاعر المعروف ب "النجاشي" من هؤلاء. وسواء أكان ما نسب إلى الرسول من قوله المذكور صحيحاً أم موضوعاً، فإن الأخبار تذكر إن بشرة "بني الحارث بن كعب"، كانت تميل إلى السمرة الشديدة، بل إلى السواد الذي يشبه سواد بشرة الإفريقيين، أفلا يحوز أن يكون أصلهم من إفريقية?. وقد عرفت جماعة كبيرة من أهل مكة بالأحابيش، لأن أصلهم من رقيق الحبشة والسواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب ? فدعوى وجود جنس "أنتروبولوجي" واحد أو جنسين منفصلين، لكل منهما خصائص جسمية وملامح "فسيولوجية" معينة للعرب،
وبالمعنى العليم المفهوم اليوم عند علماء الأجناس، هي دعوى غير مقبولة، لأن البحوث العلمية والمختبرية لا تؤيدها ولا تثبتها، ولأن البحوث التأريخية الحديثة تعارضها أيضاً، وكل ما نقوله هو أن ما نسميه اليوم بالجنس هو جنسية ثقافية فكرية، لا جنسية دموية تقوم على وحدة الملامح والمظهر والدم.
فما يذكره أهل الأنساب عن النسبين، وما يتصوره بعض الناس من صفاء الجنس العربي صفاءً تاماً ونقائه من كل دم غريب، دعوى لا يمكن الاطمئنان إليها في هذا اليوم. لن يضير العرب قول مثل هذا، فصفاء الأجناس البشرية صفاءً تاماً، من القضايا التي عجز حتى القائلون بنظرية العنصريات مثل النازيين عن إثباتها في هذا اليوم. وسيظهر ضعفها في المستقبل ظهوراً أوضح مما هو عليه الآن.
لقد كان "نولدكه" أول من شك من المستشرقين في هذا النسب العام الذي وضعه أصحاب الأنساب للعرب، وكان أول من نبه على أثر اليمانيين في وضعه وفي محاولتهم رجعه إلى عهود قديمة قبل الإسلام. وذهب "هاليفي" إلى أبعد من ذلك، فرأى إن كل ما قيل في هجرة القبائل اليمانية إلى الشمال هو أسطورة، وان ما يزعم من انتساب تلك القبائل إلى اليمن هو حديث خرافة لا يركن إليه.
ونحا مستشرقون آخرون هذا المنحى، فرأوا إن للنسابين يداً في ترتيب هذه الشجرة العظيمة للأنساب،أو الشجرتين بتعبير أصح: شجرة نسب أبناء قحطان، وشجرة نسب أبناء عدنان. ولذلك نهم لا يطمئنون إليها، ولا يصدقون بكثير من هذه الأنساب المروية وبالأخبار والروايات الواردة في هجرة القبائل القحطانية نحو الشمال.
اذن، فقحطان ليس بجدّ لكل القبائل القحطانية المعروفة، وعدنان لم يكن جداً لجميع القبائل العدنانية، و إنما ما كنايتان عن مجموعة قبائل، تدعى عند العرب "بالحلف"، وقد أخذ أهل النسب قحطانهم من التوراة، وهو هناك كناية عن مجموعة قبائل مواطنها في العربية الجنوبية. أما "عدنان" فلم يرد اسمه في التوراة، ولا نعرف من أمره شيئاً في الزمن الحاضر، والظاهر إنه كناية عن حلف، ويظهر إنه ظهر للوجود قبيل الإسلام. وعدم وقوفنا على أخباره، لا يسوغ لنا نكران وجوده، فلعل الأيام تكشف لنا عن كتابات نرى فيها اسمه، كما حدث بالنسبة إلى أسماء أخرى شك فى أصلها بعض المستشرقين، ثم تبين إنها كانت معروفة، بدليل ورودها في بعض كتابات الجاهليين.
ولا أعتقد إن التوراة ابتدعت فكرة "يقطان" ونسل يقطان، اذ لا يعقل تصور ذلك. والذي أراه إنها حكت نسباً كان يجمع شمل القبائل العربية المذكورة عند العرب، وصل خبره إلى العبرانيين فسجله كتبة التوراة في الأسفار، مع أنساب الشعوب. كما إنها أخذت من العرب أيضاً نسب "الإشماعيليين" على نحو ما كان م معروفاً يومئذ، وكذلك نسب أبناء "قطورة". فتكون التوراة قد ذكرت أنساب ثلاث مجموعات أو أحلاف عربية كبيرة، كانت قائمة في ذلك الزمن.
و قد يكون من الخير الاتيان بأمثلة من أيام الإسلام، تساعدنا في شرح موضوع النسب عند الجاهليين وتفسيره. فإن الزمن وان تغير وتبدل في الإسلام وتباعد عن الجاهلية، إلا أن الأفكار القبلية بقيت هي هي عند تلك القبائل بالنسبة إلى النسب وتكوين الأحلاف. فقبيل ظهور الإسلام كان بين "يثرب" و "مكة" نزاع شديد. ولما هاجر الرسول إلى "يثرب" عرف أتباعه الذين تبعوه بالمهاجرين.
وقد دامت الهجرة إلى عام الفتح: "فتح مكة". وأما أهل المدينة الذين آووا الرسول ونصروه، فقد عرفوا بالأنصار لانتصارهم للرسول ولتقديم مساعداتهم له وللمسلمين. وللقضاء على الخصومة، آخى الرسول بين الأنصار والمهاجرين.
غير أن العداء عاد فتجدد بين الأنصار والمهاجرين، بعد وفاة الرسول، ويظهر أثره في شعر حسان بن ثابت والنعمان بن بشير والطّرمّاح بن حكيم، وهم شعراء يثرب وألسنتها، وفي الأشعار الأخرى التي جمعا في دواوين الأنصار.
وقد صيّر النزاع المذكور لفظة "الأنصار" علماً خاصاً على أهل المدينة، حتى كادت تكون نسباً، واصطبغت الدعوة بصبغة يمانية، فنجد في شعر الأنصار فخراً باليمن، واعتزازاً بأصلهم اليماني، ومجاهرة بأنهم يمانيون صرحاء وبأنهم من أقرباء الغساسنة ومن ذوي رحمهم. كما انهم استعملوا لفظة الأنصار مقابل قريش ومعده ومضر ونزار، وأطلقوا على لسانهم حسان بن ثابت شاعر الأنصار، وشاعر اليمن، وشاعر أهل المقرى.
ونبد في أيام معاوية وفي أيام ابنه يزيد قصصا عن هذا النزاع اليثربي المكي، النزاع الذي سمي نزاع الأنصار مع المهاجرين، أو نزاع الأنصار مع قريش، ويلاحظ إن هذا القصص لم يستعمل لفظة "مهاجرين" في مقابل "الأنصار" إلا نادراً، إنما استعمل الألفاظ المذكورة. وقد عرفت وفودهم فيه ب "وفود الأنصار" أو "الأنصار". فصارت تلك اللفظة وكأنها نسبٌ أو علم من أعلام القبائل، حتى تضايق من ذلك رجال قريش. قيل بينما كان "عمرو بن العاص" عند "معاوية" يوماً، إذ دخل عليه حاجبه يقول: "الأنصار بالباب"، فتضايق من ذلك عمرو، وقال: "ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسب?
أرددهم إلى نسبهم". فقال له معاوية: إن علينا في ذلك شناعةً. قال: وما في ذلك ? إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها.
فقال معاوية لحاجبه: أخرج، فنادِ: مَنْ كان بالباب من ولد عمرو بن عامر، فليدخل. فخرج، فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار، فقال له: أخرج، فناد: من هنا من الأوس والخزرج، فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمانَ بن بشير، فأنشأ يقول: يا سعد، لا تعد الدعاء، فما لنا نسب نجيب به سوى الأنصار
نسب تخيره الإلهَ لقـومـنـا أثقل به نسباً إلى الـكـفـار
إن الذين ثووا ببدر مـنـكـم يوم القلَيِب همُ وقود الـنـار
وقام مغضباً. فبعث معاوية، فرده، وترضاه وقضى حوائجه وحوائج من كان معه من الأنصار. وكان النعمان بن بشير حامل لواء الأنصار قد غضب في مجلس من مجالسه مع معاوية، ولاحظ معاوية عليه الغضب فضاحكه طويلاً، ثم قال له: " إن قوماً أولهم غسان، و آخرهم الأنصار، لكرام". وكان أهل يثرب يلحقون نسبهم بنسب غسان، ويرجعون نسهم ونسب غسان إلى الأزد. ونسب الأزد إلى اليمن.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|