ومن ثم كانت غالبية القبائل العدنانية التي يذكر أهل الأخبار أسماءها قبائل أعرابية، أي قبائل بدوية، أو قبائل غلبت البداوة عليها، وغالبية القحطانية قبائل مستقرة أو قبائل شبه حاضرة تنخت في أماكن ثابتة ومالت إلى حياة الحضارة. ولما كان الحضر أرقى فكرياً من أهل الوبر، صارت إليهم السيادة في الغالب، فتحكموا في القبائل العدنانية، وملكوا القبائل المعدية. فحكم المناذرة والغساسنة وآل كندة وغيرهم ممن يرجع نسبه النسابون إلى قحطان، قبائل عدنانية، ولم يحكم العدنانيون القحطانيين قبل الإسلام.
هذا هو رأي من يرى أن القحطانية والعدنانية كفاية عن الحضارة والبداوة، وتعبر عن أهل المدر وأهل الحضر. يستدلون على رأيهم هذا بما قلته من غلبة الحياة الحضرية والاستقرار على القبائل التي يرجع النسابون نسبها إلى قحطان، وغلبة البداوة أو شبه البداوة على القبائل العدنانية.
وللحكم على هذه النظرية، يجب تكوين جدول
بأسماء القبائل الجاهلية العدنانية منها والقحطانية، ودراسة أحولها الاجتماعية والمواضع التي عاشت فيها في مختلف الأزمنة، وعند ذلك نستطيع الحكم على ما فيها من قوة أو ضعف، فإن في القحطانيين قبائل متبدية، وفي العدنانيين قبائل مستوطنة وأصحاب قرى. ولهذا لن تصدق تلك النظرية إلا بمثل هذه الدراسة.
ولفهم النزاع القحطاني العدناني، أو نزاع يثرب ومكة، لا بد من البحث عن موارد جاهلية و إسلامية نستعين بها على فهم طبيعة هذا النزاع. أما الموارد الجاهلية، أي الكتابات، فليس فيها حتى الساعة شيء ما محدثنا عن هذا النزاع، وأما الموارد الإسلامية، فإن شعر حسان بن ثابت، أو الشعر المنسوب إلى هذا الشاعر بتعبير أصدق واصح، هو المرجع الأول الذي يحدثنا عن طبيعة هذا النزاع أو التحاسد الذي كان بين مكة ويثب قبل ظهور الإسلام وعند ظهوره، إذ كان حسان نفسه من المناضلين فيه الحاملين للواء يثرب في نزاعها مع مكة. ونرى القحطانيين يروون شعره ويذكرونه في افتخارهم على العدنانيين. وقد حمل شعره جلّ مواضع فخر قحطان على عدنان، ومفاخر أهل يثرب على أهل مكة، حتى نستطيع أن نقول إنه أحد نجاة النزاع القحطاني العدناني، باعتبار إنه أقدم مشارك فيه يصل خيره إلينا، وأن أكثر ما تذكره القحطانية من دعاوى مركزة في شعر هذا الشاعر مذكورة فيه.
وقد وصل جلّ شعر حسان إلينا، وطبع في ديوان. راجعناه وراجعنا ما يحمل من شعر، فلم نجد فيه ذكراً لعدنان، و إنما نجد فيه اسمي "قحطان" و"معد". ولم "رد فيه اسم الأول إلا مرة واحدة في قوله: فلو سُئِلَتْ عنه معد بأسرهـا وقحطان أو باقي بقية جرهما
وأما اسم الثاني، أي "معد"، فقد ورد في مواضع بلغت سبعاً في الديوان.
غير إننا نرى في الجزء الأول من "الإكليل"، أبيات شعر نسبها "الهمداني" لحسان، ورد فيها ذكر لقحطان، وفخر به، وانتسب إليه: لقد كان قحطان العلا القرم جدّنا له منصب في يافع الملك يشهر
ينال نجوم السعدِ إن مـدّ كـفـه تفلّ أكف عند ذاك وتـقـصـر
ورثنا سناءً منه برزاً ومحـتـداً منيف الذرى فخر الأرومة يذكر
ونرى أبياتاً أخرى من هذا النوع من الفخر، في مكان آخر من هذا الكتاب، نسبها أيضاً هذا الشاعر، هي هذه: فنحن بنو قحطان والملك والـعـل ومنا نبـيِّ الـلـه هـود الأخـاير
وإدريس ما إن كان فـي الـنـاس مثله ولا مثل ذي القرنين أبناء عابر
وصالح والمرحوم يونس بعـد مـا ألات به حوت بأخـلـب زاخـر
شعيب و الياس وذو الكفل كلـهـم يمانون قد فازوا بطيب الـسـرائر
ونرى أبياتاً أخرى نسبها "الهمداني" إلى "حسان" أيضاً، فيها نشر بقحطان وبقوم الشاعر، رواها على هذا النحو: فمن يك عنّا معشـر الأزد سـائلاً فإنا بنو الغوث بن نبت بن مالـك
ابن زيد بن كهـلان نـمـا سـبـأ له إلى يشجب فوق النجوم الشوابك
ويعرب ينميه لقحطان ينـتـمـي لهود نبيً الله فـوق الـحـبـائك
يمانون عاديون، لم يلتـبـس بـنـا مناسب شابت من إلـى وأولـئك
والأبيات المذكورة، لا يمكن أن تكون من نضم حسان، فأسلوبها غير أسلوبه في شعره، وفي بعضها ركة وضعف، ولفظة "المرحوم" عن الاصطل*********ت الحادثة المتأخرة، كما إن التفاخر بالأنبياء المذكورين لم يكن معروفاً على عهده.
وأما الشعر المبتدئ بهذا البيت: فمن يك عنا معشر الأزد سـائلاً فإنا بنو الغوث بن نجت بن مالك
ففيه إضافات لا تجدها في الديوان.
وفي المضاف إليه تباين ظاهر مع أسلوب حسان في شعره، وركة بينة، وطابع الصنعة ظاهر عليه. وقد ورد في ديوانه على هذا النحو: فإن تك عنا معشر الأسد سـائلاً فنحن بنو الغوث بن زيد بن مالك
لزيد بن كهلان الذي نـال عـزّه قديماً دراري النبوم الشـوابـك
إذا القوم عدّوا مجدهم وفعالـهـم وأيامهم عند التقاء المـنـاسـك
وجدت لنا فضلاً يقر لنا بـه إذا ما فخرنا كل باق وهالك
فأنت ترى أن الأبيات في الديوان خالية من نسب "سبأ" و "يشجب" و "يعرب" و "قحطان" و "هود" وغير ذلك، وان أسلوب صياغة هذا النظم لا يمكن أن يكون من أسلوب شاعر جاهلي أو شاعر مخضرم، بل لا بد أن يكون من نظم المتأخرين، إضافته بعض المتعصبين لليمن إلى شعر حسان، ونظمه على وزن البيت الأول وطريقته، يكون أوقع في النفس، ودليلاّ على قدم ذلك النزاع.
ولا أعتقد إن هنالك حاجة تدعوني إلى إلفات نظر القارئ إلى أن الأبيات المتقدمة الواردة في ديوانه، "هي الأبيات المتقدمة عليها نفسها، أي الأبيات التي أخذتها من كتاب الإكليل للهمداني رويت بشكل آخر، بشكل يرينا إن لم الرواة مهما حاولوا اظهار انهم على حرص تام في المحافظة على أصالة الشعر والمحافظة على الأصل، فإنهم لا يتمكنون من ذلك
ونسب بعض الرواة إليه هذه الأبيات: تعلمتم من منطق الشيخ يعرب أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
وكنتم قديماً ما بكم غير عجمة كلام، وكنتم كالبهائم في القفر
وهي أبيات لم ترد في ديوانه، شْعر إن "يعرب"، وهو جد القحطانيين، هو أول من أعرب في لسانه، وأول من نطق بالعربية، فهو أول متكلم بها، وأول من أوجدها وكوّنها، وان العدنانيين تعلموها من أبنائه، بعد إن كان لسانهم لساناً أعجمياً. وأما من ناحية صحة نسبتها إلى شاعر الإسلام وشاعرا وفي الأنصار، فإن في أسلوب نظمها وفي صياغة البيت الأول وجملة "منطق الشيخ يعرب"، ما فيه الكفاية لإظهار إنها مصنوعة، حملت عليه حملاً، ولا يمكن أن يكون هذا النظم من نظم أول الإسلام، حتى وان كان من شاعر من شعراء أهل المدر في ذلك العهد.
وزعم إن حسانا ذكر القيل "ذو ثات"، وهو من أقيال حمير، فقال هذا البيت: وفي هكر قد كان عز ومنعة و ذو ثبات قَيْلٌ ما يكلم قائله
ولم يرد هذا البيت في ديوانه. أما أسلوب نظمه، فينبئك إن قائله يجب أن يكون شخصاً آخر من المتأخرين عن حسان، ممن كانوا يضعون الشعر على ألسنة غيرهم على نحو ما وضعوا على ألسنة التبابعة وآدم والجن.
هذا ولحسان شعر لم يرد في ديوانه، بل ورد في موارد أخرى. منه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود، لأنه متحول وقد حمل على حسان وألصق به، ولم يغفل العلماء عنه، بل أشاروا إليه ونبهوا إن بعض الناس قد تعمدوا وضعه وحمله عليه لمآرب. قال الأصمعي في ذلك: " تنسب إليه أشياء لا تصح عنه. وهذا فيما يظهر صحيح، وكثيراً ما رأيت في سيرة ابن هشام أبياتاً لحسان من هذا القبيل يعقبها صاحب السيرة بقوله: وأهل العلم ينفيها عن حسان". وقد نسب الجمحي الوضع على حسان إلى بعض قريش للغض منه، فقال: "وقد حمل عليه ما لم بحمل على أحد. لمتا تعاضهت قريش، واستبّت، وضعوا عليه أشعاراً كثيرة، لا تليق به". وقد كان ذلك لتعرضه بهم، ولتعصبه المفرط ليثرب، وافتخاره بهم على قريش.
هذا و مع إفراط "حسان" في التعصب ليثرب، لا نراه يذكر قحطان إلا مرة واحدة، أما عدنان فلم يذكره في شعره قط. ولهذه الملاحظة أهمية كبيرة، لتكوي ن رأي في فكرة "قحطان" وعدنان في ذلك العهد، إذ إنها تدل على إن القحطانية والعدنانية لم تكن عنده على النحو الذي صارت فيه فيما بعد، بعد اشتداد النزاع بين الأنصار وأهل مكة ومن حولها في خلافة بني أمية خصوصاً، وهم عصب العدنانيين، وانه في كل فخره بالنسب لم يتجاوز الأزد، ابناء "الغوث بن زيد بن مالك بن زيد بن كهلان"، وغسان و آل نصر.
وأما بعد إسلامه، فقد حوّل فخره وتباهيه إلى فخر بالأنصار على قريش ومضر ومعد، أي أهل مكة، بنصرة قوم للإسلام، وبنصر النبي حين خذلوه وقاوموه. فكانوا ملوك الناس قبل محمد، فلما أتى الإسلام، كان لهم النصر في نصرته. ونجد هذا الفخر واضحاً قوياً في شعره، فهو فخر أهل يثرب على أهل مكة. فخر الأنصار على مضر ومعد وقريش، فلم يصل الفخر بقومه عنده إذن إلى حد الفخر بقحطان، أو باليمن كلها على عدنان. وأما ما ورد منه أكثر من ذلك، كما نرى في الأبيات المنسوبة إليه في الجزء الأول من الإكليل، إنه عندي من ذلك النوع المنحول الذي اضيف إليه. فالتكلف ظاهر عليه، والأسلوب مختلف عن أسلوبه، وهو من النظم المتأخر عن أيام حسان، من نظم وضّاح يتكلف قول الشعر ولا يحسن صناعته.
خذ قصيدته التي تمثل منتهى فخره بقومه، نره يقول: ألم ترنا أولاد عمرو بـن عـامـر لنا شرف يعلو على كل مرتقـي?
رسا في قرار الأرض، ثم سمت له فروع تسامى كل نجم مـحـلـق
ملوك وأبناء المـلـوك، كـأنـنـا سوارى نجومٍ طالعات بمشـرق
إلى أن يقول: كجفنة والقمقام عمرو بن عامرٍ وأولاد ماء المزن وابني مُحرّق
وحارثة الغطريف أو كابن منذرٍ ومثل أبي قابوس ربّ الخورنق
فلا تجد فخره بها يتعدى حدود الفخر بالأزد وبالغساسنة وآل نصر، أي ملوك الحيرة. وهو ما وجدناه في أشعاره الأخرى. وقد عاب في هذه القصيدة "قيساً" و "خندفاً" لأنهما قاومتا الرسول وآذتاه. مما يدل على أن هذين الاسمين كانا معروفين قبل الإسلام.
هذا، وقد أضاف أهل الأخبار إلى قصيدة حسان التي مدح فيها الملك "جبلة بن الأيهم"، ومطلعها: لمن الدار أقفرت بمـغـان بين أعلى اليرموك والصمان
هذا البيت: أشهرنها فإن ملكك بالـشـا م إلى الروم فخر كل يماني
ولم يرد ذكر هذا البيت في الديوان. وهو بيت يتحدث كما ترى عن فخر باليمن: أصل الغساسنة، وأهل يثرب، وكل قحطان. وأغلب ظني إنه من الأبيات المدسوسة، وضعه أحد المتعصبين لليمن ودسّه في القصيدة.
هذا وقد نسب إلى النعمان بن بشير الأنصاري شعر قيل إنه قاله في هذا الباب.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|