ونسب إلى الطرماح بن حكيم مثل ذلك، وهو أيضاً شاعر من شعراء الأنصار. وعلينا أن ندرس شعرهما، وشعر أمثالهما، وشعر شعراء قريش أيضاً دراسة نقد وتمحيص نميز بها بين صحيحه وفاسده، لنتمكن بذلك من تكوين رأي علمي صحيح في القحطانية والعدنانية وتأريخ ظهورهما. ولو تيسر لنا ديوان الأنصار أو دواوين الأنصار، لزادت معارفنا، ولا شك، في هذا الباب وتمكنا من تكوين رأي في تلك العصبية القبلية بصورة أصح وأدق ولا شك.
لقد حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش وأهل يثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، وروي عنه إنه قال: "لا حلف في الإسلام"، لما ينتج عنه من فتن ومن قتال بين القبائل وغارات، ولأن الإسلام قد عوّض عن الحلف، وزاده شدة بنزوله. "وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". وعدّ "التعرب" بعد الهجرة، أي أن يعود المرء إلى البادية ويقيم مع الأعراب، كبيره من الكبائر، حتى عدّ من يعود إلى موضعه من البادية بعد الهجرة كالمرتد. ومع ذلك، لم يكن من الممكن تنامي العصبيات، وغسل آثار الجاهلية، وطمس معالمها تماماً، فتحزبت القبائل وتكتلت، وكانت تحارب على إنها همدان، أو ربيعة، أو طيء، أو مضر، أو قريش، أو قيس، او الأزد، أو ربيعة.، أو تميم، أو غير ذلك من أسماء قبائل.
القحطانية والعدنانية في الإسلام
الحق إن ما نسميه قحطانية أو عدنانية إنما هو صفحة من صفحات النزاع الحزبي عند العرب في الإسلام، شاء أصحابه ومثيروه رجعه إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم له، فجعلوا له أصولاً زعموا إنها ترجع إلى ما قبل الإسلام بكثير، ورووا في ذلك شعراً لا يخرج في نظرنا عن هذا الشعر الذي يحفظه الرواة على لسان آدم و هابيل وقابيل والجن.
وفي هذا الصراع القحطاني العدناني العنيف شرع في تدوين الأنساب وتثبيتها في القراطيس والكتب. فكان لهذا الصراع ولوضع القبائل وتكتلاتها في هذا الوقت أثر خطير في تثبيت أنساب القبائل وتسجيلها، ليس في هذا العهد فقط، بل في تثبيت أنساب قبائل الجاهلية وتسجيلها أيضاً. إذ سجلت هذه الأنساب: جاهلية و إسلامية على الرأي السائد في النسب يوم شرع في التسجيل والتدوين، أي في أوج هذه العصبية الضيفة التي عمت الناس في صدر الإسلام. ومن هنا كان لا بد لفهم الفكرة القحطانية العدنانية من الإلمام بنزاع قحطان وعدنان في ا لإسلام.
والذين قاموا بتسجيل الأنساب وتدوينها وتثبيتها في الكتب، كانوا هم أنفسهم من أصحاب العصبية لنزار أو لليمن ومن المتأثرين بالأحوال السياسية لذلك العهد. ولهذا نجد في أقوال بعضهم تحزباً وتطرفا وميلاً إلى تأييد فريق على فريق. ومن هنا كان لا يد لنا من التنبه لهذه العصبية، واتخاذ الحيطة والحذر عند دراسة هذا النزاع القحطاني العدناني.
وقد استعملت في هذا العهد "مضر" في مقابل "الأزد"، كما استعملت الأزد في مقابل تميم، وورد "أهل اليمن" أو اليمانية. ولكننا قلما نسمع في نداء القبائل وأخبار هذه الفن أو الحروب التي وقعت في هذا العهد استعمال كلمة "عدنان" في مقابل "قحطان"، ويقال مثل ذلك في الأشعار أيضاً، في مثل شعر "الفرزدق" الذي استعمل كلمة "قحطان" في مقابل كلمة "نزار" وكلمة "لحن" في مقابل "نزار" أو "الأزد" في مقابل "نزار". كما استعمل الحكم بن عبدل "قحطان" في مقابل "معد". وقد ذكر الأعشى في شعر له: "ومن معدّ قد أتى ابن عدنان"، وذلك في مقابل "قحطان". وفي أيام معاوية وابنه "يزيد" و "مروان بن الحكم"، نالت "كلب" مركزاً سامياً، لتزوج معاوية امرأة من كلب، هي "ميسون بنت بحدَل"، فأصبحت هي والقبائل التي تؤيدها مقربة عند الخلفاء، مع أن الخلفاء من قريش، وقريش من قيس. وهذا مما أغضب قيساً المعروفة بعدائها لكلب. وقد كانت لفظة "قيس" في هذا العهد ترادف كلمة "معد" و "مضر" و "نزار". وأما "كلب"، فترادفه اليمن.وقد عرفت المعركة التي وقعت في "مرج راهط" بين مروان وابن الزبير بأنها معركة "قيس" و "كلب" لأن قيساً حاربت فيها عن "ابن الزبير". أما كلب، فقاتلت عن مروان، و قد أوجد هذا الانتصار حقداً كبيراً بين "قيس" وحلفائها من القبائل، وبين كلب وأنصارها من القبائل التي أدعت إنها من اليمن، فوقعت حروب بن قيس وكلب هلك فيها خلق كثير من الفريقين.
ولعب دوراً مهماً في تكتل القبائل وفي تجمع القحطانيين والعدنانين.
وقد اسهم الخلفاء الذين جاؤوا بعد "عبد الملك"، ويا للأسف، في هذا النزاع، متأثرين بعاطفتهم وبدمهم من الأمهات، فكان يعضهم يؤيد القيسيين إذا كانت أمهم من قيس، وكان آخرون يؤيدون "كلباً" إذا كانت أمهم من اليمن. وسار على هذه السياسة الولاة والعمال، فكانت النتيجة تكتل القبائل وانقسامها إلى معسكرين "قيس" و "يمن"، وتزعمت "أزدعمان" في البصرة و خراسان حزب "يمن" في مقابل "قيس" و "تميم".
ووقعت وقائع دموية بين يمن و قيس، أنهكت العرب جميعاً، وصارت من جملة العوامل، التي عجلت بسقوط الأمويين.
وحمل الشعراء مشاعل هذا النزاع، وأمدّوا ناره بوقود غزير. نظموا القصائد في مدح قيس وفي ذم يمن وذم قيس بحسب قبيلة الشاعر ونسبه. ساهم فيه الأخطل والكُميت ودِعْبل الخزاعي وجرير بن عطية بن الخَطَفَى التميميّ و إسحاق بن سويد العَدوَي وغيرهم، فكان مدح وكان ذم، وكان تباه وافتخار، وكان قذع وهجاء. وبدلاً من أن يتدخل الحكام و مسيرو الأمة في إخماد نار هذه الفتنة و إسكات الشعراء جمعاً للصف، ساهموا هم أنفسهم كما قلت في هذه المعركة وشجعوا المحاربين فيها، ففرقوا بين العرب بسياستهم هذه وأطمعوا الأعاجم فيهم، وجعلوا العرب يقاتل بعضهم بعضاً، وبذلك توقفت الفتوحات العربية الإسلامية، نتيجة لهذه السياسة المفرقة الخرقاء.
ولم يقف هذا النزاع على التباهي بقحطان وعدنان وبالأيام وبالشجعان، بل تجاوز ذلك إلى التباهي بارتباط كل فريق بجماعة من الأعاجم بروابط الدم والنسب والثقافة، فافتخرت النزارية بالفرسّ على اليمانية، وعدوهم من ولد "إسحاق ابن إبراهيم" وافتخروا بإبراهيم جد العرب والفرس. ونظم "جرير بن عطية ابن الخَطَفَى التميمي"، في ذلك شعراً، جاء فيه: أبونا خليل الـلـه لا تـنـكـرونـه فأكرم بإبراهيم جداً و مـفـخـرا
وأبناء إسحاق الـلـيوث إذا ارتـدوا حمائل موت لابسـين الـسّـنَّـورا
إذا افتخروا عدّوا الصبهبذ مـنـهـم و كسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا
أبونا أبو إسحاق بجـمـع بـينـنـا أب لا نبالي بعـده مـن تـأخـرا
أبونا خليل الـلـه، والـلـه ربـنـا رضينا بما أعطـى الإلـهَ وقـدرا
ومن هذا القبيل، قول إسحاق بن سويد العدوي: إذا افتخرت قحطان يوماً بسـؤدد أتى فخرنا أعلى عليها وأسـودا
ملكناهم بداً بإسحـاق عّـمـنـا وكانوا لنا عوناً على الدهر أعبدا
ويجمعنا والغر أبـنـاء فـارس أب لا نبالي بعده من تـفـردا
وقول بعض النزارية: و إسحاق وإسماعـيل مـدا معالي الفخر والحسب اللبابا
فوارس فارس وبنو نـزار كلا الفرعين قد كبرا وطابا
ولم يقف النزاريون عند هذا الحدّ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فزعموا أن هذا النسب قديم، وأن قرابة الفرس بالعدنانيين قديمة، وأن الفرس كانت في سالف الدهر تقصد إلى البيت الحرام بالنذور العظام تعظيماً لإبراهيم الخليل بانيه،
وانه عندهم أجل الهياكل السبعة العظيمة والبيوت المشرفة في العالم، وأن رجلاً تولاه وأعطاه العدة والبقاء، واستشهدوا على صحة دعواهم بشعر زعموا أن قائله هو أحد شعراء الجاهلية: زمزمت الفرس على زمزم=وذاك في سالفها الأقدم وترتب على هذا وضع نسب الفرس يتصل بنسب العرب العدنانيين، فزعموا أن "منوشهر" الذي ينتسب اليه الفرس هو "منشخر بن منشخرباغ"، و "هو يعيش بن ويزك"، و "ويزك" هو اسحاق بن إبراهيم الخليل، واستشهدوا على زعمهم هذا بشعر، قالوا إن بعض شعراء الفرس في الإسلام قاله مفتخراً: أبونا ويزك وبه أسامي=إذا افتخر المفاخر بالولاده أبونا ويزك عبد رسول=له شرف الرسالة والزهاده أما "يعيش بن ويزك" جد الفرس الجديد، فهو "عيسو" "Esau"، وفي العبرانية "Usu"، ومعناها "مشعر" أو "خشن"، وهو شقيق يعقوب وجد الأدوميين في التوراة وابن إسحاق. وأما "ويرزك" فهو "يزك" أو "إيزك" "Isaac" "Icaak" وهو "إسحاق"، وهو في العبرانية "يصحق" "يصحك" "يصحاك" "Yishak" أي "الضحاك(. و يرى علماء التوراة إن الأصل اسم قبيلة كان يقال لها "يصحقيل" "يصحق ال" "يضحك ال" "Yishhakel" "Yishakil"، وهو والد "عيسو" و "يعقوب".
وقد أسهم بعض الفرس أنفسهم في إذاعة هذا النسب ونشره، وقد استشهد على صحة دعواه بالأشعار المذكورة التي تفتخر بالفرس على اليمانية، وانهم ولد أبيهم إبراهيم. ولعلهم قالوا ذلك تقرباً إلى الحكومة، وهي عدنانية، ولعوامل سياسية أخرى، منها تقريب الفرس من العرب، وضمان تعاونهم مع الخلافة في وجه النعرات القومية التي ضهرت في إيران.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|