ولم يكن هذا الشيخ الذي اعتمد طليه ملك آشور فعينه والياً عنه، إلا سيد قبيلة كلف حماية الحدود وحفظ مصالح الآشوريين بحفظ الأمن والسلامة ومنع الغزو والتحرش بالحدود. ولما كان من الصعب على الجيوش النظامية ولوج البوادي وتعقب أثر الأعراب، فكرت الحكومات القديمة والحكومات الحديثة في القرن العشرين في حماية مصالحها بدفع، جعالات شهرية وسنوية وهدايا إلى سادات المشايخ، وتعيين بعضهم في مناصب كبيرة، ليولوا حماية الحدود، وكبح جماح البدو ومنعهم من الغزو، والاستفادة منهم في إزعاج خصومهم بغزوهم ومحاربتهم أو محاربة القبائل المتحالفة معهم، كالذي فعله الفرس واليونان والرومان والدول المستعمرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
ويظهر إن بلوغ جيوش "تغلا تبلاسر الثالث" غزة كان في حوالي السنة "738 ق. م.". فسيطر الآشوريون بذلك على هذا الميناء المهم، الذي كان نهاية طرق القوافل التجارية الآتية بصورة خاصة من الحجاز، وهو ميناء كان مقصد تجار يثرب ومكة حتى عند ظهور الإسلام.
ويحدثنا "سرجون الثاني" "724 -705 ق.م" إنه في السنة السابعة من حكمه، سنة "715 ق م" أدّب "تمودي" "Tamudi" و "اباديدي" "عباديدي" و "مرسماني" "Marsimani" و "خيابه" "Hajapa"، وهزمهم، ونقل من وقع في يديه منهم إلى ""السامرة" "Samaria". ثم يذكر يعد هذا الخبر إنه تلقى الجزية من "سمسي" "Samsi" ملكة "اريبي" و من "برعو" "Pir'u" ملك "مصر ي" "Musuri" و من "يتع أمر" "It'amra" السبئي. وذكر أن الجزية كانت من الذهب وحاصلات الجبل والحجارة الكريمة والعاج وأنواع البذور والنبات والخيل والإبل.
ويتبين من أسماء المواضع والقبائل التي ذكرها "سرجون"، أن تلك المعارك كانت قد وقعت في أرضين تقع في الشمال الغربي من جزيرة العرب، وفي المنطقة الواقعة فيما بين خليج العقبة و "تيماء" والبادية. ولا بد وأن تكون الجيوش الآشورية قد هاجمتها من الشمال أي من فلسطين.
وقد ورد في بعض ترجمات نص "سرجون" إنه نقل الأعراب الذين ينزلون في مواضع نائية من البادية، ولم يعرفوا حاكماً رسمياً ولا موظفاً ولم يدفعوا جزية إلى أي ملك سابق، نقلهم إلى "السامرة" وأسكنهم فيها. ويظهر أن هذه الجملة لا تخص الجملة السابقة التي ذكر فيها "ثمود" وبقية الأسماء، وليست معطوفة عليها، لأنه وصف هؤلاء الأعراب بأنهم سكان بوادٍ نائية، ولم يدفعوا الجزية لأحد من قبل، على حين يقيم المذكورون في أرض معروفة ولمنازلهم أسماء، وهي ليست من البوادي.
وورد في هذه الترجمات بعد جملة "ويثع أمر السبئي" "ومن هؤلاء الملوك ملوك على الساحل، ومنهم ملوك في البادية. تسلمت منهم جزية: تبراً، وأحجاراً كريمة... الخ"، م! ا يدل على أن أولئك الملوك كانوا يحكمون أرضين واسعة تمتد من البادية إلى البحر الأحمر.
ووردت في نص "سرجون" المشار إليه أسماء مواضع هي "Uaidaue" و "Bustis" و "Agazi" و "Ambanda" و "Dananu"، ووردت معها جملة: "اريبي الساكنيين في مشرق الشمس" "اريبي مطلع الشمس".
ولهذا ذهب بعض الباحثين إلى آن الأسماء المذكورة هي أسماء مواضع في أرض "اريبي"، أي البادية. وهو رأي يعارضه باحثون آخرون، لغموض العبارة، ولتعذر القول إن أسماء هذه المواضع تعود إلى "أريبي الساكنين في مشرق الشمس".
أما "تمودي" "Tamudi"، فإنهم "ثمود"، الذين سبق أن تحدثت عنهم. وأما "أباديدي" "Ibadidi"، فشعب لا نعرف من آمره شيئاً. وقد ذهب "موسل" إلى احتمال كونهم "أبيداع" "Abida" المذكورين في التوراة. وهو فيها ابن "مديان"، أي "مدين". ويرى أن مساكنهم كانت في جنوبي شرقي "أيلة" "Elath" أي العقبة، على الطريق التجارية المهمة التي تربط ديار الشام بالحجاز.
ورأى "كلاسر" أن "الاباديدي" هم "Apataei" المذكورون في جغرافيا "بطلميوس"، وكانوا يقيمون في مكان يقال له "وادي العبابيد" أو "العباديد" على مقربة من العقيق، أو أن فرعاً منهم كان يقيم في هذا المكان. وذهب "فورستر" إلى أن شعب "Apataei"، هم شعب آخر، وأن الكلمة هي في الأصل "Nabataei"، وهو شعب كانوا يقيمون في موضع "نبت" على ساحل الحجاز.
ولا نعرف من أمر "مرسماني" "Marsimani" شيئاً يذكر، ولم يرد لهذه القبيلة اسم في التوراة. غير أن بعض الكتبة "الكلاسيكيين" ذكروا قبيلة عربية يظهر إنها كانت تقيم في جنوب شرقي "العقبة" سموّها "Batmizomaneis" "Banizomaneis"، وقد كانت في جوار قبيلة "Thamudenoi" أي ثمود. ويرى "موسل" احتمال كون هذه القبيلة هي "مرسماني"، تحرف اسمها في النص الآشوري أو حرفه الكتبة "الكلاسيكيون" حتى صار على نحو ما نرى. وعلى كل حال فإن على لفظة "Marsimani" طابع العروبة، فلا يستبعد أن تكون من "مرسم"، أو أسماء أخرى عربي قريبة منها.
ويظهر أن كراهية الأعراب للآشوريين كانت شديدة جداً، لم تخفف من حدتها لا سياسة القوة والعنف ولا سياسة التودد واللبن. لقد حملت هذه الكراهية القبائل على مدّ بد المساعدة إلى كل مبغض للآشوريين، أو متمرد عليهم، فقسمت المعونة إلى "مردخلبلدان" "مردخ بلذان" "مردخ بلادان" "Merodachbaladan" ملك بابل خصم وعدوّ "سنحاريب" "سنحريب" وأرسلت "ياتيعة" "يثعة" "يطيعة" "Ja'it'e"، ملكة "اريبي" جيشاً لمساعدته ومناصرته في كفاحه هذا مع الآشوريين وضعته تحت قيادة أخيها "بسقانو" "يصقانو" "Basqanu"،
إِلاً إنه لم يتمكن من الوقوف أمام الآشوريين، فنزلت به خسارة فادحة، وأسر "بسقانو" وأسر معه معظم جيشه، وكانت هذه الهزيمة في موضع "كيش" "Kish". وقد كانت في حوالي سنة "703" أو "752" قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين.
ويظهر أن لفظة "Iati'e" هي تحريف لاسم عربي من أسماء النساء لعله "بطبعة" أو ما يشابه ذلك. وقد كانت ملكة إذ ذاك، أي إنها كانت مثل "زبيبة" و "شمس" المذكورتين. وأما اسم "بسقانو" "Basqanu"، فالظاهر إنه "الباسق" فإنه قريب منه.
ويحدثنا "مرجون" في كتاباته عن أيامه وعن أعماله المجيدة أن الملك "أبيري" "Uperi" ملك "دلمون" سمع بقدرة آشور وبعظمتها فأرسل هداياه إليه. ومعنى هذا أن البحرين كانت إذ ذاك تحت حكم ملك اسمه "أبيري"، لعله "أبير"، وان الصلات السياسية كانت وثيقة بين آشور والبحرين في ذلك العهد. وقد ذكر "سرجون" إن "أبيري"، "ملك دلمون"، "كان يعيش كالسمكة في وسط بحر الشروق، البحر الذي تشرق عليه الشمس، وعلى مسافة ثلاثين ساعة مضاعفة، وكان قد سمع بجلال عظمتي فأرسل بالهدايا إليّ". وفي هذا الخبر اشارة واضحة إلى استقلال البحرين، أي جزيرة "دلمون" وخضوعها لحكم ملك لعله كان من أهلها. ولما كان القسم الجنوبي من العراق تحت حكم الآشوريين في هذا العهد. وللبحرين علاقات تجارية متينة مع هذا القسم، لذلك أرسل هدايا ثمينة إلى ملك آشور.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|