الفصل الخامس عشر
صلة العرب بالكلدانيين و الفرس
لا نعلم شيئاً كثيراً عن صلات العرب بالكلدانيين، فلم تصل كتابات منهم تفصح عن علاقتهم بالعرب. غير إن سكوت هذه الكتابات و عدم وصولها إلينا لا يمكن أن يكون سببا يحملنا على التفكير في عدم قيام صلات بين العرب و الكلدانيين. فقد رأينا فيما مضى أنهم ساعدوا أهل بابل في نزاعهم مع أشور، ثم إن العرب كانوا يحاربون البابليين منذ القديم، و هذه المجاورة القديمة في حد ذاتها واسطة طبيعية لتكوين المباشر بين العرب و الكلدانيين.
و قد تحدث الأخباريون عن غزو "بخت نصر" "بختنصر" "604-561 ق.م." للعرب في أيام "معد بن عدنان"، و وصوله إلى موضع "ذات عرق"، كما تحدثت عن ذلك في فصل "طبقات العرب"و قد قلت إن رواته أخذوا مادته من أهل الكتاب، و أضافوا إليه مادة جديدة أنتجتها أبتداعهم له، فصار نسيجاً جديدا هو المدوّن في الكتب. و هو حديث لا قيمة تأريخية له، و لذلك لا يمكن الاطمئنان إليه و الأخذ به. و قد قص علينا الأخباريون ألواناً كثيرة من هذا القصص الذي بان لونه و عرف أصله في القرن العشرين.
أنا لا أريد أن استبعد احتمال قتال "بخت نصر" مع القبائل العربية، فذلك
ممكن جداً، ولا سيما أن بابل مجاورة للعرب، وان توسع هذا الملك ود*********ه فلسطين جعل البابليين يتصلون اتصالاً مباشراً بالأعراب، فلا بد أن يكون "بخت نصر" قد احتك بالعرب واتصل بهم. وقد يكون حاربهم وأوقع خسائر بهم، لتحرشهم بجيوشه وبحدود إمبراطوريته التي شملت البادية الواسعة الفاصلة بين العراق وبلاد الشام. ولكن الذي نتوقف عنده وننظر إليه بحذر، هو هذا الطابع المعروف عن الأخباريين، الذي يروون به كيفية غزو ذلك الملك ل "معد ابن عدنان".
وقد يكون "بخت نصر"، قد بلغ موضع "ذات عرق" وقد يكون بلغ موضعاً آخر أبعد منه، إلاً أن الذي أراه أن استيلاء البابليين على الأماكن التي احتلوها من جزيرة العرب إن وقع فعلاً، فإنه لم يدم طويلاً، فقد كانت فتوحات الفاتحين لجزيرة العرب كالسيول، تأتي جارفة عارمة، تكتسح كل شيء تجده أمامها، ثم لا تلبث أن تزول وتختفي آثارها بعد مدة قصيرة،لأسباب منها بعد طرق المواصلات عن عواصم الغازين الفاتحين وعدم وجود مواد غذائية كافية في البلاد المفتوحة لإعاشة جيش كبير، ليستطيع ضبط القبائل والمحافظة على الأمن، ومهاجمة القبائل للقوافل التي ترد لتموين الحاميات وللحاميات نفسها، وعدم يمكن الفاتح من وضع جيش كبير جاهز في كل لحظة للقتال ليصدّ غارات القبائل التي تؤلف غالبية سكان جزيرة العرب في ذلك العهد.
ثم إذ القسم الأكبر من الذين قاتلوا وفتحوا أناس مرتزقة سيقوا إلى القتال سوقاً، خوفاً أو طمعاً، وقبائل اشترى الفاتحون ساداتها بأطماعهم في مغانم يجنونها أو لدوافع حقد قبليّ، ومن عادة سادات القبائل أنهم مع الفاتح ما دام قوياً سخياً يبذل، لهم بكل سخاء، فإذا ضعف أو أمسك أو دارت الدنيا عليه، كانوا هم أول من ينقلب عله. ولذلك صارت أمثال هذا الفتوحات غارات انتقامية سريعة، لا يلجأ إليها إلاّ جمد تفكير و إعداد خطط ووجود ضرورات ملحة تستوجب إرسال مثل هذه الحملات.
ويرى بعض علماء التوراة والبابليات ما جاء في كتاب "دانيال" الذي كتب بعد أيام "بخت نصر" من نبوءة ومن رسالة أرسلها النبي إلى ذلك الملك، ومن فتوحات في بلاًد العرب، هو من وضع كاتب تلك الرسالة، وضعه ليثبت نبوءته، وأن ذلك الكاتب أخذ فتوحات "نبونيد" فنسبها إلى "بخت نصر". أما أنا، فلا أريد أن أثبت فتوحات "بخت نصر"، ولا أريد أن أنفيها في هذا العهد، فوصول "بخت نصر" إلى الحجاز أمر ممكن، وسوف نرى أن "نبونيد" قد وصل إلى مدينة "يثرب"،فليس بمستعبد وصول "بخت نصر" إلى الحجاز، بعد أن استولى جيشه على فلسطين، وصار في إمكانه الزحف نحو الجنوب، ولكن الذي أراه الآن هو التريث، فلعلّ الزمن يجود علينا بنصوص قد تتحدث عن حروب وفتوح أمر بها هذا الملك فىِ بلاد العرب. وكتاب "دانيال"، وإن كُتب على شكل نبوءة، لا يستبعد أن يكون قد استمد خبر النبوءة من وثيقة أو خبر شائع، فصاغه في شكل نبوءة، ليثبت نبوءته لبني إسرائيل.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|