أو من الطريق البري إلى العراق ومنه إلى الشام. وقد ترسل في السفن إلى "سلوقية" Seleucia، أو بابل Thapascus ومنها بالبر إلى موانئ البحر المتوسط. وما بي حاجة إلى إن أقول إنها كانت تستقبل تجارات البحر المتوسط والعراق والأسواق التي تعاملت معها، لتتوسط في إصدارها إلى العربية الجنوبية إفريقية والهند، وربما إلى ما وراء الهند من عالم ينتج ويستهلك. فهي سوق وساطة، والوسيط يصدر ويستورد و بعمله هذا يكتنز الثروة والمال.
وذكر القدماء إن الجرهائيين تاجروا مع حضرموت، فوصلت قوافلهم إليها في أربعين يوماً. وكانت تعود وهي محملة بحاصلات العربية الجنوبية، وحاصلات إفريقية المرسلة بواسطتها وهي بضاعة نافقة ذات أثمان عالية في الأسواق التجارية لذلك العهد. وتاجروا مع النبط بإرسال قوافلهم التي قطعت الفيافي مارة بمواضع الماء والآبار إلى "دومة الجندل" Dumatha ، و منها إلى "بطرا" عاصمة النبط. والنبط هم مثل بقية العرب تجار ماهرون نشيطون. فإذا وصل تجار "جرها" إلى أرض النبط باعوا ما عندهم للنبط واشتروا منهم ما محتاجون إليه من حاصل بلاد الشام والبحر المتوسط. أما التجار الذين يريدون أسواقاً أخرى غير أسواق النبط، فكانوا يتجهون نحو الشمال، فيدخلون فلسطين قاصدين "غزة"،
أو يتجهون وجهة أخرى هي وجهة بصرى وبقية بلاد الشام. وقد اكتسبت."جرها" شهرة بعيدة في عالم التجارة في ذلك الزمان، بسبب مركزها التجاري الممتاز، وذاع خبر ثراءْ أهلها وغناهم، حتى زعم إنهم كانوا يكنزون الذهب والفضة والأحجار الكريمة، وأنهم اتحذوا من الذهب آنية وكؤوساً وأثاثاً، وجعلوا سقوف بيوتهم وأبواب غرفهم به وبالأحجار النفيسة الغالية، وغير ذلك مما يسيل له لعاب الجائعين إلى المال. وهذا الصيد البعيد، هو الذي أثار الطمع في نفس الملك "إنطيوخس الثالث" Antiochus III، فجعله يقود أسطوله في عام "205 ق. م."، للاستيلاء على المدينة الغنية الكانزة للذهب والفضة واللؤلؤ وكل حجر كريم، وإذلال القبائل المجاورة، وإلحاقها بحكومته فإما إن تذعن وتستسلم بغير قتال، وتقدم ما عندها هدية طيبة إليه، وإما القتل والنهب ودك المدينة في دكّاً.
وتقول الرواية التي تتحدث عن طمع هذا الملك وجشعه للمال إن المدينة المسالمة التاجرة، أرسلت رسولاً إلى الملك يحمل رجاءها إليه إلا يحرمها نعمتين عظيمتين أنعمتهما الآلهة عليهم: نعمة السلام، ونعمة الحرية. و هما من أعظم نعم الآلهة على الإنسان.
فرضي من حملته هذه بالرجوع بجزية كبيرة من فضة و أحجار كريمة، فأبحر إلى جزيرة "تيلوس"، ومنها إلى "سلوقية" "255-204 ق. م.". وهكذا اشترت المدينة سلمها وحريتها من هذا الطامع بالمال، وصدَق أهل المدينة. إن كانت الرواية صادقة، فالسلم والحرية من أعظم نعم الله على الإنسان.
وفي رواية إن الملك المذكور لما عاد من حملته على الهند اتجه نحو الغرب، أي السواحل الشرقية لجزيرة العرب؛ ساحل العروض. فنزل في أرض دعتها "خطينة" Chattenia. وهي أرض من "جرها". وعندئذ أرسل الجرهائيون رسلا إليه يفاوضونه على الصلح على نحو ما ذكرت، فوافق على إن يدفعوا إليه في كل سنة جزية من فضة ولبان وزيت مصنوع من البخور.
ويظهر من هذه الرواية إن مجيء الملك إلى أرض الجرهائيين، كان من الهند، وكان قد رجع بعد إن قاد جيشه إليها، وانه نزل في ساحل عرف بإسم Chattenia و هو الخط.
يتبين من وصف "سترابون" للحجارة التي بنيت بها المدينة على زعمه ومن ادعاء "بلينيوس"، إن أبراج المدينة وسورها قد بنيت بقطع مربعة من صخور الملح. يتبين من ذلك إنها بنيت في أرض سبخة. وان هذا السبخ هو الذي أوحى إلى مخيلة "الكلاسيكيين" ابتداع قصة حجر الملح الذي بنيت به دور المدينة وسورها. وفي التأريخ قصص من هذا القبيل عن قصور ومدن شيدت بحجارة من معدن الملح.
يظن ان Gerra أو Garraei أو Gerrei على حسب اختلاف القراءات، "وهو موضع ذكره "بطلميوس""، هو هذه المدينة "جرها". وذكر "بلينيوس" إنها تقع على خليج يسمى بأسمها Sinus Gerraicus ويبلغ محيطها خمسة أميال "خمسة آلاف خطوة". وعلى مسافة خمسين ميلاً من الساحل، "أي خمسين ألف خطوة"، تقع منطقة تدعى "أتنه" Attene، وفي مقابل مدينة "جرها" من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلاً تقع جزيرة "تيلوس" Tylos المشهورة باللؤلؤ. والمدينة التي ذكرها "بلينيوس" هي المدينة التي، قصدها "سترابون".
وبعد، ف "جرها" إذن، مدينة تقع في العربية الشرقية على ساحل الخليج
ويظهر إن "جرهاء" كانت قد بلغت أوجها في هذا العهد، وقد بقيت على ذلك مدة. غير إننا لا ندري إلى متى بقيت على هذه الحال. والظاهر إن مدناً أخرى أخذت تنافسها، مثل مدينة Charax، فأثرت هذه المنافسة فيها، وذلك بتحول الطرق البحرية عنها، وتحسن وضع صناعة السفن مما أدى إلى تمكنها من قطع مسافات واسعة من غير حاجة إلى التوقف في موانئ كثيرة فلم تعد تقف في موانئ الجرهائيين أو أن الجرهائيين لم يتمكنوا بذلك من مزاحمة السفن الأخرى فأخذ تجمعها في الأفول بالتدريج. ولعل لتحول طرق القوافل البرية دخلاً في ذلك أيضاً. فقد كانت الطرق البرية تتحول دوماً، لعوامل سياسية واقتصادية وعسكرية، وبتحسن وسائل المواصلات، فيؤدي هذا التحول إلى اندثار مدن وظهور مدن، ولا نزال نرى أثر هذا التحول في حياة قرى جزيرة العرب.
وأما جزيرة TyreTyrus، التي أشار "سترابو" إليها، فإنها جزيرة "تيلوس" TylusTylos، التي ذكرها "بلينيوس". ويلاحظ وجهود شبه بين "تيلوس" Tylus و "تلمون" أو "دلمون" الواردة في النصوص الآشورية، عملنا على التفكير بوجود صلة بين الاسمين. وقد أشرت إلى ذهاب الباحثين إلى إن "تيروس" Tyrus هي جزيرة من جزر البحرين. أما "كلاسر" فيرى إنها ليست من جزر البحرين، ولكنها جزيرة أخرى تدعى "دلمة" أو "بليجرد"، و قد رجح هذه الجزيرة على الأولى، لأن موقعها أقرب في نظره إلى المسافات التي أشار إليها "سترابون" من "دلمة"، ومن جزر الحرين.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|