ويظن بعض الباحثين إن المدن اليونانية التي أشير إليها، والتي ذكر "بليني" إنها خربت ودمرت بالحروب، هي من المستوطنات التي أنشأها وأقامها "البطالمة" على السواحل العربية، لإيواء السفن اليونانية والتجار والجنود الذين زرعوا في هذه الأماكن لحماية تجارة البطالمة والسيطرة منها على السواحل العربية وعلى البحار. فلما ضعف أمر البطالمة، هاجمت القبائل العربية هذه المواضع واستولت عليها، لخربت تلك المدن، أو غلب عليها العرب، وتبدلت أسماؤها إذ تحولت إلى أسماء عربية.
وميناء Qena "قنا" الذي يقع على المحيط الهندي، كان أيضاً من الموانئ المعروفة التي يقصدها التجار في هذا الزمن فتصل إليه السفن للإبحار وللخروج منه إلى الهند. وشهرته هذه قديمة، ويغلب على الظن إنه ميناء "كنة" الذي ذكر مع "عدن" يْ سفر "حزقيال"، لأن القرائن تدل على إنه هو المقصود من الآية في هذا السفر: "حَرّان وكنة وعدن تجار شبا وآشور وكلمد تجارك".
وقد ذكره "بلينيوس" في جملة الموانئ المقصودة التي كانت السفن الرومانية تصل إليها وهي قادمة من ميناء Berenice بمصر. وهذه الموانئ هي: Muza، أي "موزع" عند "مخا" و Ocelis عند باب المندب، و Cane "قنا" الميناء الذي نتكلم عنه.
وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" هذا الميناء أيضاً، كما ذكر ميناء Mousa=Muza وعدن، و Ocelis=Okylis. وقد ذكر إن هذا الميناء الأخير كان قرية. أما ميناء "قنا" "كنا" "كانه" Kany=Kana "كان" فكان في أرض الملك Eleazoz، أي "العزيلط" ملك حضرموت، وذكر إن في مقابل هذا الميناء جزيرتين، تسمى إحداهما جزيرة الطيور Ogneun، وتسمى الأخرى جزيرة "القباب"، والجزيرة الأولى هي جزيرة "سيخا" في الزمن الحاضر، وأما الثانية فهي جزيرة "براقة". وذكر مؤلف الكتاب المذكور إن اللبان والمر وبقية الأفاويه تحمل من منابتها إلى ميناء Kany وقد تحمل على وسائل النقل المائية المصنوعة من قرب منفوخة بالهواء" مشدودة إلى جذوع أو أخشاب بحبال تربط بينها، لتوصل تلك المواد الثمينة إلى الميناء المذكور. ثم توزع من هذا الميناء على التجار أو ترسل في السفن إلى الأسواق العالمية، كما ذكر إن السفن تذهب من هذا الميناء إلى الهند و إلى الخليج وتذهب منه إلى موانئ الساحل الأفريقي كذلك.
وبعد إن كوّن "تراجان" ما يسمى ب "المقاطعة العربية" "الكورة العربية" Provencia Arabaea في سنة "105 م" أو "106 م"، أحدث تغييرات مهمة في الإدارة وفي طرق المواصلات وأصول الجباية، فأنشأ طريقاً مهمة من "أيلة" على رأس خليج العقبة مارة بالبتراء فبصرى إلى "دمشق"، وصارت "بصرى" محطة مهمة جداً للقوافل القادمة من اليمن والحجاز، وأصلح القناة القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وقوى الأسطول الروماني، وأمده بسفن أحدث وأقوى من السفن القديمة، وذلك لمقاومة لصوص البحر وللسير بحرية في البحر الأحمر، ولاحتكار التجارة البحرية التي هي مصدر كل غنى وثراء.
ولا تزال آثار الطريق الرومانية باقية تشاهد حتى اليوم. تشهد بأهمية الطريق وبحسن هندستها بالنسبة إلى ذلك الزمن. وهي تمر بمدن وقرى عديدة وتربط بينها: منها "ام الجمال"، وهو موضع مهم كأن ذا أهمية خاصة في العهد الروماني، وفي أيام النبط، حيث عثر فيه على كتابات نبطية عديدة، وموضع "خربة سمرا" وهو موضع اشتهر في العهد الروماني وفي العهد البيزنطي الذي تلاه. وقد عثر فيه على آثار رومانية وبيزنطية ونبطية. ويظهر من مخازن المياه ومن آثار الآبار التي عثر عليها في هذا الموضع إنه كان مركزاً من مراكز تجمع القوافل التجارية، وموضعاً من مواضع تربية الماشية.
وقد اكتسحت فتوحات "تراجان" مناطق واسعة من الشرق الأدنى، ويقال أنه وصل إلى جنوب العراق، وإنه دخل مدينة "كاراكس" "كركس" Charax، وإنه نظر سفينة قاصدة اشد، فتحسر وتنهد، لأنه بلغ من العمر مبلغاً لا يسعفه على ركوب تلك السفينة واستنشاق هواء ذلك البحر، وقد غبط الإسكندر الذي سبقه إلى هذا المكان بمئات من السنين، وكان أصغر منه سناً، فبلغ مبلغاً لم يصل إليه ملك هذا الإمبراطور.
وقد كان على مقربة من "الرها" Edessa سيد قبيلة عربية اسمه "معنو" Ma'nu أي "معن". وكان يحكم العرب المجاورين. ولما طلب القيصر "تراجان" حضوره إليه لمكالمته لم يلب طلبه بالرغم من علامات الودّ التي أظهرها له. ذلك لأن القيصر كان يشلك في نياته، فخاف إن يقبض عليه، وتراجع إلى مواضع بعيدة، فاستولى الرومان على "سنجار" Singara وكانت تابعة له. وقد نزل العرب فيها واختلطوا بسكانها الأصليين.
لقد كان البخور رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة في ذلك العهد. كان سعره يساوي سعر الذهب والبترول في هذه الأيام. ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية التي تستنزف القسم الأكبر منه،والملوك والأثرياء، وذلك لحرقه في المناسبات الدينة وفي اجتماعاتهم. ونجد المؤرخ الكاتب "بلينيوس" يشتكي من تبذير "نيرون" عاهل "رومة" "54 - 68 م" ومن إسرافه في حرق البخور واللبان لاجراء شعائر جنازة زوجه المتوفاة. فقد كلف حرق تلك المادة الضرورية في مثل هذه المناسبات خزينة الدولة ثمناً باهظا لارتفاع أسعارها في ذلك الزمن.
وآخر ما يقال عن تدخل الرومان في شؤون جزيرة العرب، هو إن القيصر "سبتيموس سفيروس" Septimus Severus، أرسل حملة عسكرية في سنة "201 م" توغلت في "العربية السعيدة"، غير إن معارفنا عنها قليلة، فلا نعلم إلى أين وصلت وكيف انتهت. ولعلها كانت قد تقدمت من "المقاطعة العربية"،
وهي المقاطعة الجديدة التي أوجدها الإمبراطور "تراجان" على حطام مملكة النبط. وكان الذي قاد الحملة العسكرية على "العربية السعيدة" Eudaimon Arabia ابن القيصر "سبتيموس سفيروس". وقد اشتهر فيها، غير إن معارفنا عنها لا تزال قليلة. وقد وردت أخبار هذه الحملة في موارد لم تشر إلى اسم القيصر الذي أمر بتجريد تلك الحملة على "العربية السعيدة"، إذ اكتفت بذكر لفظة "قيصر". ويظهر منها إن جيوش القيصر أنزلت خسائر فادحة أولاً بالعرب الساكنين في البادية وقد دعتهم تلك الموارد ب Skenitae، أي "سكان الخيام" ويراد بهم الأعراب، ثم سارت تلك الجيوش حتى بلغت "العربية السعيدة"، وذلك في السنة "196 - 198 ب. م.". ولا نعلم إلى أي مدى وصل إليه القيصر أو ابنه في هذه الغزوات.
وقد ذهب بعض الباحثين إلى إن "كره كالا" Caracalla الذي خلف والده "سبتيميوس سفيروس" Septimus Severus ، هو الذي قاد الجيش الروماني الذي زحف على العرب الساكنين في أعالي "العربية السعيدة" Arabia Eudaimon كما يسميها "بطلميوس"، وانه في ذلك العهد كانت حروب "سبتيميوس" مع "البارثيين" Parthians "197 - 199 م". ويرون إن الرومان لم يتوغلوا جيداً في جزيرة العرب، وربما كان أقصى ما بلغوه ديار ثمود.
وفي كتاب "بحث في القضاء والقدر" Dialog Uber das Atom وهو المسمى أيضاً ب "كتاب قوانين البلاد" Buch der Gesetze der Lander ل "برد يصان" Bardeanes الذي عاش فيما بين السنة 154 والسنة 222 للميلاد إشارة إلى إن الروم لما استولوا على العربية Arabia من عهد غير بعيد عن أيامه، أبطلوا قوانين أهلها البرابرة. ويقصد بالبرابرة الأعراب على ما يظهر. ويظهر إنه قصد بذلك الحملة الرومانية المذكورة. وفي تأريخ الإمبراطورية الرومانية أسماء رجال يرى بعض المؤرخين إنهم كانوا من أصل عربي،
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|