وأن حروباً متوالية كانت تقع في تلك الأيام، لا تنتهي حرب، إلا وتليها حرب أخرى. وان المنتصر في الحرب كان كالخاسر، فهو ينتصر في حرب، ثم يخسر في حرب أخرى. وذلك لأن كفاءات مؤججي تلك الحروب كانت في مستوى واحد. ولهذا كان الخاسر فيها، لا يلبث أن يعود بسرعة فيقف على رجليه، يحمل سيفه ليحارب من جديد. حتى كادت الحروب تصير هواية، أو لعبة مألوفة، أما الخاسر الوحيد فهو: الشعب. أي الناس المساكين التابعين لحكامهم، الذين يكونون اسواد، لكنه سواد لا رأي له في حكم ما ولا كلمة. يساق من حرب إلى حرب، فيسمع ويطيع، لعدم وجود قوة له تمكنه من الامتناع.
والمتشاجرون البارزون في تلك المعارك والحروب، هم سادات "همدان"" وسادات حمير، أصحاب "ريدان"، وسادات حضرموت وقبان، وأقيال وأذواء وأصحاب أطماع وطموح، ارادوا اقتناص الفرص لتوسيع نفوذهم، واصطياد الحكم وانتزاعه من الجالسين على عرشه. ووضع مثل هذا، أضعف العربية الجنوبية بالطبع،
وأطمع الحبش فيها، حتى صيرهم طرفاً آخر في النزاع، وفريقاً عركاً قوياً من فرق اللعب بالسيوف في ميدان العربية الجنوبية، يلعب مع هذا الفريق ثم يلعب مع فريق آخر، ضد الفرق الأخرى. وغايته من لعبه، التغلب على كل الفرق، وتصفيتها، ليلعب وحده في ميادين تلك البلاد. لذلك نجد أخبار تدخل الحبشة في شؤون هذا العهد وفي العهد الذي جاء بعده، بارزة واضحة مكتوبة في كتابات أهل العربية الجنوبية. ومكتوبة في بعض كتابات الحبش.
وقد رأينا في الفصل السابق كيف تخاصم بيتان من بيوت همدان هما بيتا: "علهان نهفان" و "فرعم ينهب" بعضهما مع بعض على الاستئثار باًلحكم، والسيادة على مملكة سبأ. وكيف أن كل بي ت من البيتين كان يدعي أن له الحكم والملك، وأنه ملك سبأ، أو "ملك سبأ وذو ريدان"، وأنه هو الملك الحق.
ثم رأينا إن "شعر أوتر" "شعرم أوتر"، صار يلقب نفسه بلقب "ملك سبأ وذو ريدان"، وان خصمه "الشرح يحضب"، لقب نفسه بهذا اللقب أيضاً، ومعنى ذلك حكم سبأ لأرض "ريدان" وهي أرض حمير على أغلب الآراء. وقد رأينا إن تلك الخصومة، لم تبق لمجرد خصومة ونزاع وادعاء على مللك، بل كانت خصومة عنيفة اقترنت بمعارك وحروب.
وليس في الكتابات التي بين أيدينا حتى الآن أي خبر يشرح لنا كيف انضمت حمير إلى لمجاً، أو كيف لقب "الشرح يحضب" أو معاصره "شعر أوتر" أنفسها بلقب "مللك سبأ وذي ريدان" وماذا كان موقف ملوك حمير من هذا الاندماج. ولما كان كلا الرجلين "الشرح يحضب" و "شعر أوتر" من همدان، فهل يعني هذا إن الهمدانيين كانوا قد تمكنوا من حمير وغلبوا ملوك حمير على أمرهم، واضطروهم إلى الخضوع لحكمهم، فاعترفوا بسيادتهم عليهم، وتعبيراً عن ذلك الاعتراف وضعوا: "ذا ريدان" بعد اللقب الملكي القديم? إن الإجابة عن هذا السؤال، لا يمكن أن تكون إجابة مقبولة الا بعد أمد، فلعل الأيام تجود على الباحثين بكتابات حميرية تشرح موقف حمير الرسمي من هذا اللقب، كأن تعطيهم اللقب الذي كان يلقب الحمريون به ملوكهم، أو تشرح علاقة أولئك الملوك ب "ملوك سبأ وذي ريدان"، وماذا كان موقف ملوك "ريدان" من ملوك "سلحن" "سلحين" حصن "مأرب" ومقر الملوك.
ولكننا نجد فيا بعد إن الحمريين لم يكفوا عن قتال "الشرح يحضب"، ولاعن قتال "شعرم اوتر" "شعر أوتر" حتى بعد تلقبهما بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، كما سنرى إن قسماً من قبائل حمير كان في جانب "شعر أوتر" وان قسماً آخر كان في جانب "الشرح يحضب" وان قسماً ثالثاً كان خصماً عنيداً للجانبين، وكان في جانب خصوم ملوك "سبأ وذي ري دان"? ومعنى هذا إن اللقب الجديد، لم يغنِ أصحابه من قتال حمير، وان الحميريين ظلوا يقاومون العهد الجديد غير مبالين بدعاوى ملوك همدان، وقد دام القتال كما سنرى عهداً طويلاً أضر بالجانبين من غير شك.
وقد أصاب هذا النزاع العربية الجنوبية بأسوأ النتائج، فهدمت مدن، وخربت قرى، وتحولت مزارع كانت خضراء يانعة إلى صحاري مجدبة عبوسة.
وتأثر اقتصاد البلاد ة باستمرار الحروب، وبهروب الناس من مواطنهم ومن مراكز عملهم إلى مواطن بعيدة، فتوقفت الأعمال، وسادت الفتن والفوضى. وقد كان المأمول تحسن الأوضاع بعد توسع ملك مملكة سبأ واندماج الإمارات وحكومات المدن فيها وانتقال السلطة إلى ملك واحد ذي ملك واسع، إلا أن هذا التنافس الشديد الذيَ أثاره المتنافسون على عرش الملكة، أفسد كل فائدة كانت ترجى من هذا ا التطور السياسي الخطير الذي طرأ على نظام الحكم في العربية السعيدة.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|