وقد بطنت هذه المنافذ بالحجارة، وقد أقيمت جدر عند مخارجها إلى الأرض لتحميها من سقوط الأتربة فيها. ولا تزال بعضها عامرة تجري فيه مياه العيون حي الآن. وهناك آثار قنوات مشابهة لها تقع في السواحل المقابلة للبحرين من المملكة العربية السعودية تعود إلى هذا العهد أيضاً.
وقد كانت البحرين تخضع لحكم الساسانيين عند ظهور الإسلام، أما حاكمها الفعلي فهو رجل من العرب على دين النصرانية، وعلى مذهب النساطرة. و كان للنساطرة عدة أساقفة في مواضع من الخليج، كما كانت لليهودية و لمجوسية مواضع في بلدان الخليج أيضاً. أما غالبية العرب، فعلى الوثنية.
وقد كانت "الأبُلّة" من أهم المواضع المهمة في نظر الساسانيين من الوجهة الحربية، وكانت تعدّ عندهم "فرج أهل السند والهند". و كان "فرج الهند أعظم فروج فارس شأناً، و صاحبه يحارب العرب في البر. والهند في البحر. وقد وضعوا هذا الفرج تحت إمرة قواد عسكريين. ولما سمعوا بمجيء خالد بن الوليد من اليمامة، أسرع كسرى فأمر قواده بالاتجاه إلى "الكواظم" و إلى "الحفير" لمقابلته. وقد التقى به "هرمز" بكاظمة، وكان جباراً، كل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا ضربوه مثلاً في الخبث، حتى قالوا: "أخبث من هرمز" و "أكفر من هرمز". فلما التحم العرب والعجم ومن معهم من العرب قتل هرمز وفرّ العجم وأفلت "قباذ" و "أنو شجان"، وكان على مجنبة الفرس. وقد عرفت هذه الوقعة ب "ذات السلاسل"، لاقتران العجم في السلاسل حتى لا يكون لهم أمل في الفرار.
وفي الحروب الأخرى التي، وقعت بين الفرس والمسلمين، توالت الهزائم على العجم على الرغم من كثرة عددهم. ولم يكن الفرس يحاربون وحدهم، بل حارب معهم "عرب الضاحية"، وآخرون. ففي "وقعة الولجة"، مما يلي "كسكر" من البر، كان يحارب إلى جانب الفرس قوم من العرب من عرب الضاحية، وقد أسر فيها ابن لجابر بن بجير وابن لعبد الأسود، وهلك عدد كبير من "بكر بن وائل" وكانوا نصارى، فغضبت لذلك بقية نصارى بكر بن وائل وغضب نصارى عرب آخرون، فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم، فاجتمعوا إلى موضع "أليس"، وعليهم "عبد الأسود العِجْلي" في نصارى العرب من بين عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان جابر بن بجير نصرانياً، فساند عبد الأسود، فقابلهم "خالد" و جالد العرب أولاً، فسقط "مالك بن قيس"، وهو رأس من رؤوسهم، ثم تهاوت صفوف الفرس أمام سيوف خالد، ولم تثبت أمامه.
ولما قصي خالد للحيرة، وجد قائد الضرس، وهو "الأزاذبه" قد ولىّ هارباً، وكان عسكره بين الغَرِيّيْن والقصر الأبيض، فدخل خالد "الخورنق" وأمر بكل قصر رجلاً من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فحاصروا "القصر الأبيض" وفيه "إياس بن قبيصة الطائي"، وحاصروا "قصر العدسيين" وفيه "عديّ بن عدي" المقتول، وحاصروا "قصر مازن" وفيه "ابن أكال"، وحاصروا "قصر ابن بقيلة"، و فيه عمرو بن عبد المسيح، وكل هؤلاء عرب نصارى. ولكنهم لم يثبتوا أمام المسلمين، وتهاوت قصورهم، وطلبوا الصلح.
وكان أول من طلب الصلح "عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث" وهو بقيلة، وتتابعوا على ذلك، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدي وقال: و يحكم ما أنتم? أعرب? فما تنقمون من العرب? أو عجم? فما تنقمون من الإنصاف و العدل، فقال له عدي: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادّونا وتكرهوا أمرنا، فقال له عدي: ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال: صدقت. ثم صالحوه على الجزية.
وصالح "صلوبا بن نسطونا" "صاحب قس الناطف" خالد بن الوليد على "بانقيا" و "بسما" بدفع الجزية له. وقد نقبه خالد على قومه. ولما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد واستقاموا أتته دهاقين "الملطاطين"، و أتاه "زاذ بن يهيش" دهقان فرات سريا، و "صلوبا بن بصبهري"، فضالحوه علما ما بين الفلالج إلى "هرمز جرد" ، ودجل أهل "البهقباذ" الأسفل وأهل "البقباذ" الأوسط والأماكن التابعة للمذكورين في الصلح ونزل خالد الحيرة، واستقام له ما بين الفلاليج إلى اسفل السواد، وأقر المسالح على ثغورهم، ورتب القواد وموظفي الخراج وسائر الأعمال استعداداً لطرد الفرس.
وكان أهل الأنبار عرباً، يكتبون بالعربية ويتعلمونها، وكان عليهم حينما بلغها "خالد" "شيرزاذ" صاحب "ساباط". ولما وجد الفرس إن من غير الممكن لهم الوقوف أمام المسلمين، تركوا المدينة لخالد، وخرج "شيرزاذ" في جريدة خيل يلحق بأصحابه، ثم صالح أهل "كُلواذى"، تم قصد خالد "عين التمر" وبها يومئذ "مهران بن بهرام جوبين" في جمع عظيم من العجم، و "عقة بن أبي عقة" في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب و إياد ومن لافّهم، فهجم خالد على عقة ومن معه من العرب، فأسره وانهزم عسكره، ثم سقط الحصن، وانهزم الفرس. وأسر خالد بعقة وكان خفير القوم، فضربت عنقه ثم دعا بعمرو بن الصعق، فضرب عنقه، وانتهى أمر عين التمر.
وحاول الفرس جمع صفوفهم ثانية، للوقوف أمام خالد و استرداد ما أخذ منهم. وكان خالد أقام بدومة الجندل، فظن الأعاجم به، وكاتبهم عرب الجزيرة غضباً لعقة، فخرج "زرمهر" من بغداد و معه "روزبة"، يريدان الأنبار، و اتعدا حصيداً والخنافس، وانتظرا من كاتبهما من ربيعة، غير أن المسلمين هاجموا الساسانيين بحصيد، فقتل "زرمهر" وقتل "روزبة" وفر من كان معهما، إلى "الخنافس" فلما أحس "المهبوذان" بقدوم المسلمين إلى المكان، هرب ومن معه إلى "المُصيخ" وبه الهذيل بن عمران، وخرج "خالد" من "العن" قاصداً للمصيخ، فأغار على الهذيل ومن معه ومن أوى إليه، فقتلوهم، وأفلت الهذيل في اناس قليل.
وأخذ "ربيعة بن بجير التغلبي" يجمع الجموع لمحاربة المسلمين غضباً لعقة، وواعد الفرس والهذيل، فباغت خالد جموع "ربيعة" بالثني، فانتصر عليها وأسر ابنة له، ثم باغعت موضع "الزميل" وكان "الهذيل" قد أوى إليه، ثم باغت موضع "البشر"، وكانت تغلب به، فقتل منهم عدداً كبيراً، ثم تحرك من البشر إلى "الرُّضاب"، وبها "هلال بن عقة"، فانفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد منه وانقشع عنها هلال.
ثم قصد خالد "الفراض"، والقراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، فاغتاظت الروم وحميت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب و إياداً والنمر، فأمدوهم، ثم عبروا الفرات إلى الجانب الآخر حيث كان جيش خالد فهزموا، وانتصر المسلمون.
وكانت صفوف الساسانيين متضعضعة، والخصومات بينهم شديدة فتهاوى ملكهم، وسقطت "طيسفون" عاصتمهم، ثم تهاوت مدنهم في إيران، وزالت الحكومة من الوجود على نحو ما سنراه فما بعد.
وأما صلات "البيزنطيين" بالعرب، فلا نعلم عن بدايتها إلا شيئاً قليلاً، لأن الموارد التاريخية لم تهتم بغير الأحداث الكبرى، التي كان لها شأن في تأريخ الروم فلم تشر إلى العرب إلا في أثناء اشتراكهم اشتراكاً جماعياً في جيش البيزنطيين في قتال الساسانيين أو في جيش الفرس إبان قتال البيزنطيين، وأما القبائل العربية وغاراتها على حدود بلاد الشام، فلم تتعرض لها لأنها لم يكن لها شأن، فهي حوادث اعتيادية محلية، ثم إنها إذا تطرقت إلى المهم منها تطرقت إليه بإيجاز، ولهذا حرمنا الوقوف على صلات العرب بالبيزنطيين بصورة مفصلة وعلى أخبار الإمارات العربية التي حكمت في البادية الملاصقة لبلاد الشام وفي بلاد الشام ما بين ظهور دولة البيزنطيين وبزوغ نجم آل غسان.
قد كابد الساسانيون و البيزنطيين من القبائل العربية عنتا شديداً مثل ما كابده المتقدمون عليهم منهم. فقد كانت تراقب الفرص لتهاجم الحدود أو الجيوش النظامية في أثناء انتقالها إلى س*********ت القتال أو اشتغالها في القتال،
أو في أثناء تراجعها أو هزيمتها، فتوقع بها وتكبدها خسائر، وتربك وضعها، ثم إنها كانت تنتقل من موضع إلى موضع، من الأرضين الخاضعة لسلطان البيزنطيين إلى الأرضين التابعة للساسانيين وبالعكس، وقد تثور وتهاجم القرى في دولة، فإذا عقبتها، هاجرت إلى الدولة الأخرى المعادية لها، ولهذا السبب وجد الساسانيون والبيزنطيون إن من مصلحتهما عقد اتفاقية تحرم انتقال الأعراب من أرض إحدى الحكومتين إلى أرض الحكومة الأخرى من غير ترخيص وتخويل، وذلك في أيام السلم بالطيع.
لقد أخذت الدولة البيزنطية الأرضين التي كانت خاضعة لروما، وصارت تديرها من "القسطنطينية"، وتعيّن حكامها وترسل الجيوش إليها، وتطبق عليها القوانين التي تصدرها "القسطنطينية". بقي الحال على هذا المنوال إلى إن طرد البيزنطيون عن بلاد الشام بظهور الإسلام، و إرساله الجيوش إلى تلك البلاد لنشر دين الله فيها. فذهب الحكم البيزنطي عنها، وبقي الأثر الثقافي أمداً يهيمن على البلاد المفتوحة.
وقد كانت بصرى من أهم المدن التي يرد إليها عرب الحجاز للاتجار. وكانت آخر مكان يصل إليه تجار أهل مكة في الغالب في الشمال. يقيمون فيه، يبيعون ويشترون ويدفعون للروم العشور، وهي الضرائب المتعارف عليها إذ ذاك، ثم يعودون إلى ديارهم ومعهم ما اشتروه من تجارات بلاد الشام، من طرف مصنوع في هذه البلاد، أو مستورد إليها من بلاد الروم ومن أوروبة، ومن سلع حية هي الرقيق الذي يباع في سوق بصرى، وقد استورد إليها من مختلف الأنحاء.
وتعرف بصرى ب Bostra عند الرومان واليونان و لأهميتها الحربية والسياسية والتجارية كان يقيم بها حام روماني، ثم حكمها حكّام من لليونان بعد انتقالها إلى حكم اليونان، كما وضعوا بها حاميات بيزنطية. وذلك لقربها من الأعراب وللدفاع عن الحدود المهددة بهجوم أبناء البادية عليها. وقد أصيبت بخسائر جسيمة ونزل بها خراب شديد على أثر مهاجمة الفرس لبلاد الشام واستيلائهم عليها، فتهدم قسم كبير من أبنيتها، كما تهدم قسم من أبنية "اذرعات" وذلك في سنة"613 م".
و "بصرى" هي الان قرية مهملة مهن قرى حوران، ولا تزال بها بقية قائمة من آثار. وقد ورد ذكرها في سيرة الرسول، حيث كان قد نزل بها مع عمه "أبو طالب" حينما قدمها عمه للإتجار. وذ كر إن "بحيرا" الراهب، الذي يرد اسمه في كتب السير، كان من رهبان بصرى، وقد كان يقيم في دير هناك.
و كانت "غزة" من المواضع الأخرى المهمة عند أهل مكة ويثرب، لأنها كانت المورد الأخير لتجار هاتين المدينتين على البحر الأبيض. وكانت من المواضع التابعة للروم. ترد إليها السفن الواردة من بلاد الروم وموانئ إيطالية و مصر و لبنان، فتفرغ ما لديها من تجارة ويشتري أصحابها ما يجدون في غزة من أموال، ولهذا صارت فرضة مهمة لتجار أهل الحجاز
ومن سادات القبائل الذين انتقلوا من أرض كانت خاضعة للساسانيين إلى أرض كانت تابعة للبيزنطيين سيد قبيلة ذكره "ملخوس الفيلادلفي" Malchus Philadelphus في تأريخه، و سماه "امرأ القيس" Amorkesos=Amerkesos وقال: إنه كان يقيم في الأصل في الأرضين الخاضعة لسلطان الفرس، ثم ارتحل عنها و نزل في ارضين قريبة من حدود الفرس، واخذ يغزو منها حدود الساسانيين والعرب Saracens المقيمين في الأرضين الخاضعة للروم. وتوغل في "المقاطعة العربية" حتى بلغ البحر الأحمر، واستولى على جزيرة "ايوتابا" Iotaba, Jotaba، وهي جزيرة مهمة كان الروم قد اتخذوها مركزاً لجمع الضرائب من المراكب الآتية من المناطق الحارة أو الذاهبة إليها، فتصيب الحكومة أرب*********ً عظيمة جداً. فلما استولى على تلك الجزيرة، طرد الجباة الروم، و صار يجبيها لنفسه، فأغتني. كذلك حصل على ثروة عظيمة من غنائم غزوة للمواضع المجاورة لهذه الجزيرة و الواقعة في العربية الحجرية و أعالي الحجاز و ارضين الخاضعة لسلطان الساسانيين.
و أراد "امرؤ القيس"، بعد أن بلغ من السلطان مبلغه، الاتصال بالروم، و التحالف معهم، و الاعتراف، به عاملاً رسميا أي phylarch أو Satrap على العرب الذين خضعوا له و على العرب المعترفين بسلطان الروم عليهم في "المقاطعة العربية"، فأوفد رجلاً من رجال الدين اسمه "بطرس" إلى "القسطنطينية" يعرض رغبته هذه على القيصر "ليو". فلما قابل هذا رجال البلاط، أظهر لهم انه يريد الد********* في النصرانية. فأظهر القيصر "ليو" رغبته في مقابلة "امرئ القيس" للتحادث معه. فقصده "امرؤ القيس"، فأستقبله استقبالاً حسناً، و عاملة معاملة طيبة، و أجلسه على مائدته، و منحة لقب Partician، و جالس رجال مجلس "السنات" Senate، فأدى ذلك إلى استياء الروم من سياسة القيصر هذه مع رجل مشرك. و لكنه بيّن لهم انه يريد تنصيره بذلك، و إخضاعه لسلطانه. و لما قرر العودة أعطاه القيصر صورة ثمينة و هدايا نفيسة، و حث رجال مجلس الدولة يمنحوه هدايا سخية، ثم منحه درجة "عامل" phylarch على الجزيرة و على جميع ما استولى عليه و على أرظين أخرى جديدة لم يكن قد أخذها من قبل، إلا ان الروم لم يرتاحوا من هذه المعاملة،
و انزعجوا من إسراف القيصر في إكرامه ومنحه تلك الأرضين، ولا سيما تلك الجزيرة التي استرجعوها بعد ذلك بمدة ليست طويلة وفي مدة حكم القيصر "أنستاس" "انسطاس" "انسظاسيوس" Anastasius.
ولما كان القيصر "ليو" Leo "لاون" "اليون"، قد حكم من سنة "457 م" حتى سنة "474 م"، فيكون اعتراف "ليو" بحكم "امرىء القيس"، و منحه لقب "فيلارخ" "فيلارك" قد وقع في اثناء هذه المدة.
ويظهر من تأريخ "ثيوفانس" إن هذه الجزيرة كانت في سنة "490 م" في أيدي الروم، استولى عليها حاكمهم Dux على فلسطين بعد قتال شديد. ويدل خبر هذا المؤرخ على إن الروم انتزعوا هذه الجزيرة من "امرىء القيس" أو من خلفائه بعد مدة ليست طويلة من استيلاء "امرىء القيس" عليها، لعلهم استولوا عليها بعد وفاة هذا العامل على أثر نزاع نشب بين أولاده وورثته، أضعف مركز الإمارة، فانتهز الروم هذه الفرصة، وانتزعوا ما تمكنوا من انتزاعه من أملاك.
و إذا كانت هذه الجزيرة، قد كانت في جملة أملاك الروم في سنة "490 م" كما يدعي "ثيوفانس" ذلك، وجب أن تكون استعادة حاكم فلسطين لها في أيام القيصر "زينو" "زينون" Zeno الذي ولي الحكم من سنة "474" حتى سنة "491". أما سنة "491 م" فقد انتقل فيها الحكم إلى القيصر "أنسظاس".
وكان "امرو القيس" المذكور سيد قبيلة سماها المؤرخ "ملخوس الفيلاديفي" "نكليان" "نخليان" Nokalian. ويظهر أن هذا الاسم هو "النخيلة" موضع معروف قرب "الكوفة" على سمت الشام، وهو موضع ينطبق عليه ما ذكره "ملخوس" من أنه كان في ارض في سلطان الفرس.
ولم يذكر "ملخوس الفيلادلفي" أسماء الأرضين التي كانت في حكم "امرئ القيس" ، ويرى "موسل" أن هذا الرئيس كان ينزل في بادئ الأمر مع قبيلته في "الوديان" و "الحجيرة" أيام كانت علاقاته بالفرس حسنة. ومن "الحجيرة" هاجر مع قبيلته الى "دومة الجندل"، ومنها توسع فاستولى على أرضين "فلسطين الثالثة" Palestina Tartia وهي "العربية الحجرية". ثم استوف على جزيرة Iotaba، وهي على رأيه جزيرة "تاران" "تيران". وذكر "ياقوت" إن سكانها قوم يعرفون ب "بني جدان".
ولعل هذه الجزيرة هي جزيرة Ainu التي ذكرها "بطلميوس"، أخذ تسمية هذه من "حنو" "حاينو" Hainu "حينو" الاسم الذي كانت تعرف به عند الأنباط.
وامرؤ القيس هذا، هو مثل واحد من أمثلة عديدة على سادات قبائل راجعوا البيزنطيين لاستمداد العون منهم، وللحصول منهم على اعتراف رسمي بتنصيبهم رؤساء على الأعراب النازلين في ديار خاضعة لسلطانهم أو لمساعدتهم في مقارعة عرب الحيرة أو الفرس.
وقد ذكر أهل الأخبار أسماء رجال قالوا إنهم ذهبوا إلى الروم لهذه الغاية، و بعضهم ممن كان يقيم في ارضين بعيدة عن سلطانهم، والظاهر إن مثل هذا الاعتراف كان يكسب الرئيس قوة، ويمنحه منزلة ومكانة في تلك الأيام، وان كان الروم على مبعدة من الرئيس وليس لهم حول مادي يقدمونه إليه.
ولا نجد في الموارد اليونانية أسماء من حكم من رؤساء القبائل في بلاد الشام بصورة منتظمة قبل الغساسنة، إلا أن الإخباريين يذكرون إن الغساسنة لما جاؤوا إلى بلاد الشام من اليمن بعد "انتقاص العرم"، وجدوا "الضجاعمة" قد ملكوا البلاد قبلهم، وهم "آل سليج بن حلوان"، و هم من قضاعة، فقتلوهم و أخذوا مكانهم. ولا بد إن يكون الضجاعمة قد سُبِقُوا بغيرهم ممن لم يقف أهل الأخبار على أسمائهم، فقد كانت القبائل تهاجم إحداها الأخرى، فتأخذ مكانها، ولا يستبعد أن يكون "الضجاعمة" قد انتزعوا السلطان من قبائل أخرى لم تبلغ أنباؤها أهل الأخبار.
إن حدود الإمبراطورية البيزنطية الجنوبية مع العرب، لم تتغير ولم تتبدل تبدلاً محسوساً عما كانت عليه في زمان الرومان. وهي بصورة عامة الحدود الجنوبية للمقاطعة العربية. و كانت لهم الجزر المقابلة للمقاطعة العربية في "خليج القلزم"، وقد اتخذوها مراكز لجباية الضرائب من أصحاب السفن ولحماية البحر من لصوصه مثل جزيرة Iotba التي تحدثت عنها. ولم يشر أحد من المؤرخين المعاصرين للبيزنطيين إلى تقدم الروم أكثر من ذلك في جزيرة العرب.
وكان للبيزنطيين بعض المرافئ على سواحل البحر الأحمر، منها ميناء "كليزما" Clysma،و هو "القلزم" Qulzum، ويقع على مسافة قليلة من "السويس"، تأتي إليه السفن محملة ببضائع الهند وبالسلك وبالمواد الأخرى المستوردة من السواحل الإفريقية والعربية الجنوبية. وبه يقيم "الوكيل" Agens in Rabus، الوكيل التجاري الذي عليه مراقبة سير السفن والتجارة، ووضع التعليمات لتنظيم التجارة البحرية، وعرف ب Logothete في نهاية القرن الرابع للميلاد.
و كانت تجارة الحرير، من أهم المواد المطلوبة في أسواق البيزنطيين. وقد كان الساسانيون قد احتكروها تقريباً، وعبثاً حاول الإمبراطور "جستنيان" "يستنيانوس" Justinian تحطيم ذلك الاحتكار، وأخذه من أيديهم بالتوسل إلى "نجاشي" الحبشة، لإرسال سفنه إلى "سيلان" و شراء السلك منها، ومنافسة التجار الفرس الذين كانوا قد سيطروا على تجارة هذه المادة المستوردة من الصين إلى هذه الجزيرة، فكانوا ينقلونها إلى بلادهم، بل إلى "القلزم" و "أيلة" وموانئ أخرى وأسواق تابعة للبيزنطيين، فيربحون من هذه التجارة ربحاً حسناً.
وكان القيصر "يوسطنيان" "527 - 567م" قد، قد نصب "أبا كرب ابن جبلة"، كما يقول المؤرخ "بروكوبيوس"، "عاملاً"، اي "فيلاركا" "فيلارخا" Phylarch على عرب "سرسينس" Saracens فلسطين، و كان "أبو كرب" كما يقول "بروكوبيوس"، رجلاً صاحب مواهب وكفاية، تمكن من حفظ الحدود ومن منع الأعراب من التعرض لها، وكان هو نفسه يحكم قسماً منهم، كما كان شديداً على المخالفين له. وذكر أيضاً انه كان يحكم أرض غابات النخيل جنوب فلسطين، وهي أرض واسعة تمتد مسافات شاسعة في البر ليس بها غير النخيل. وقد قدمها هدية إلى الامبراطور، فقبلها منه، وعدّها من أملاكه، مع انه كان يعرف جيداً إنها فياف و بادية لا يمكن الاستفادة منها، ليس فيها غير النخيل، وليس لهذه النخيل فائدة تذكر. و يجاور عربها عرب آخرون يسمون "معديرني" "مديني" Maddeni، هم آتباع ل "حمير" Homeritae.
وهذه الأرض التي حكمها "أبو كرب بن جبلة"، هي الأرض التي حكمها "امرؤ القيس" سابقاً نفسها، أو يظهر إن الروم لم يتمكنوا من ضبطها ومن تعيين حاكم بيزنطي عليها، فاضطر إلى الاعتراف بالأمر الواقع، فثبتوا "أبا كرب" في مكانه، واعترفوا به اعترافا رسمياً
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|