الفَصْلُ السَّابعُ والثلاثون
مملكة الحيرة
وللاخباريين واللغويين وعلماء تقويم البلدان، آراء في أصل اسم "الحيرة"، وبينهم في ذلك جدل على التسمية طويل عريض، كما هو شأنهم في أكثر أسماء المدن القديمة التي بَعُد عهدها عنهم فحاروا فيها. وايرادها هنا يخرجنا عن صلب الموضوع، وهي أقوال لا تستند إلى نصوص جاهلية، ولا إلى سند جاهلي محفوظ، ومن أحب الوقوف عليها، وتعرف مذاهب القوم فيها، فعليه بمراجعة تلك المظان، كما إن لبعض المحدثين آراء في هذا الباب.
ومعظم المستشرقين، يرون انها كلمة من كلمات بني إرم، وانها "حرتا" "Harta" "Hirta" "Herta" "حيرتا" "حيرتو" السريانية الأصل، ومعناها المخيم والمعسكر وانها تقابل في العبرانية كلمة "حاصير" "Haser"، وان "حيرتا" "حيرتو" في التواريخ السريانية تقابل "العسكر" عند الاسلاميين وهي في معنى "الحضر" و "حاضر" و "الحاضرة" كذلك. ولهذا زعم بعض المستشرقين إن "الحضر" اسم المكان المعروف في العراق أخذ من هذا الأصل العربي، أي من "الحضر".
وقد عرفت "الحيرة" في مؤلفات بعض المؤرخين السريان، فعرفت ب "الحيرة مدينة العرب"، "حيرتا دي طياية"، كما عرفت بأسماء بعض ملوكها مثل "النعمان"، فورد "حيرتو د نعمان دبيث بورسويي"، أي: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس".
ويلاحظ إن تعبير "حيرة النعمان" "حيرتا دي نعمان"، تعبير شائع معروف في العربية كذلك. ولا بد أن يكون لاشتهار "الحيرة" باسم "النعمان" سبب حمل الناس على نسبة هذه المدينة إليه.
ويرى بعض، علماء التلمود أن مدينة "حواطره" "حوطرا" التي ورد في التلمود أن بانيها هو "برعدى" "بن عدى"، هي الحيرة. وقد حدث تحريف في الاسم، بدليل أن التلمود يذكر أنها لا تبعد كثيراً عن "نهر دعه" "Nehardea"، وأن مؤسسها هو "برعدى"، ويقصد به "عمرو بن عدي".
ويظن أن موضع "حرتت دار جيز" "حارتا دار جيز" "حرته دار جيز"، الوارد في التلمود، هو "الحميرة".
وقد ورد أن "ارجيز" وهو ساحر، هو الذي بنى تلك المدينة. ويرى بعض الباحثين احتمال وجود صلة بين هذا الساحر وبين قصة "سِنِّمار" باني "الخورنق". وعرفت في التلمود ب "حيرتا دي طيبه" أيضاً، أي "معسكر العرب" و "حيرة العرب".
وقد ذكر اسم الحيرة في تأريخ "يوحنا الأفسوسي" "John of Ephesus" من مؤرخي القرن السادس الميلاد "توفي سنة 585 م"، فقال: "حيرتود نعمان دبيت بور سوبي"، أي: "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس"، كما ذكرها "يشوع العمودي" "Josua Stylites". وورد اسمها في المجمع الكنسي الذي انعقد في عام "410 م"، وكان عليها إذ ذاك اسقف اسمه "هوشع" "Hosha" اشترك فيه ووقع على القرارات باسم "هوشع" اسقف "حيرته" "حيرتا".
وقد أشرت في أثناء حديثي عن مملكة "تدمر" إلى ورود اسم مدينتين هما "حيرتا" "الحيرة" و "عاناتا" "عانة" في كتابة يرجع تأريخها الى شهر أيلول من سنة "132" للميلاد. وقلت باحتمال أن تكون "حيرتا" هذه هي الحيرة التي نبحث فيها الآن. فإذا كان ذلك صحيحاً، كانت هذه الكتابة أقدم كتابة وصلت الينا حتى الآن ورد فيها هذا الاسم.
ومدينة "Eertha" التي أشار اليها "كلوكس" "Glaucus" و "اصطيفان البيزنطي" "Stephen of Byzantium"، وذكر أنها مدينة "فرثية" "Parthian" تقع على الفرات، هي هذه الحيرة على ما يظن.
وورد في بعض مؤلفات السريان مع "الحيرة" اسم موضع آخر قريب منها هي "عاقولا"، وقد ذهب "ابن العبري" إلى أنه "الكوفة"، وأشار "ياقوت" إلى "عاقولاء" غير أنه لم يحدد موقع هذا المكان.
وقد اشتهرت الحيرة في الأدب العربي بحسن هوائها وطيبه، حتى قبل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة ". وقيل عنها انها "منزل برئ مرئ صحيح من الأدواء والأسقام"، وهي على "سيف البادية" ليست بعيدة عن الماء، وقد ورد ذكرها كثيراً في شعر الشعراء الجاهليين والاسلاميين، وهي لا تبعد كثيراً عن "النجف" و "الكوفة".
ذكر "حمزة الأصفهاني" انه بسبب حسن هواء الحيرة وصحته لم يمت بالحيرة من الملوك أحد، الا قابوس بن المنذر. أما بقية الملوك، فقد ماتوا في غزواتهم ومتصيّدهم وتغرّبهم، وانه بسبب ذلك قالت العرب: "لبَيِتَةُ ليلة بالحيرة أنفعُ من تناول شربة".
وقد نعتت في المؤلفات الاسلامية بنعوت منها: "الحيرة الروحاء"، و "الحيرة البيضاء"، أخذوا ذلك من شعر الشعراء. وزعم بعض أهل الأخبار: إن وصفهم اياها بالبياض، فإنما أرادوا أحسن العمارة.
ويظهر من وصف أهل الأخبار للحيرة أنها لم تكن بعيدة عن الماء وأن نهراً كان يصل بينها وبين الفرات. بل يظهر إن هذا النهر كان متشعباً فيها، بحيث كوّن جملة انهار فيها. اما نواحيها، فكانت قد بنيت على بحر النجف وعلى شاطئ الفرات، وربما كانت مزارع الحيرة واملاك أثريائها قائمة على البحر وشاطئ النهر ومن أنهار الحيرة نهر كافر. ويرى بعض أهل الأخبار إنه هو نهر الحيرة.
وقد أدى ميلاد الكوفة في الإسلام الى أفول نجم الحيرة، اذ انتقل الناس من المدينة القديمة الى المدينة الاسلامية الجديدة، واستعملوا حجارة الحيرة وقصورها في بناء الكوفة، وهذا مما ساعد على اندثار تأريخ تلك المدينة الجاهلية ولا شك. غير انها ظلت أمداً طويلا تقاوم في الإسلام الهرم إلى أن جاء أجلها فدخلت في عداد المدن المندثرة.
وقد عرف ملوك الحيرة عند أهل الأخبار ب "آل لخم" وب "آل نصر".
كما عرفوا ب "النعامنة" وب "المناذرة"، وذلك لشيوع اسم النعمان واسم المنذر فيما بينهم. وعرفوا أيضاً ب "آل محرق"، وفيهم يقول الشاعر الأسود بن يعفر: ماذا أؤمل بـعـد آل مـحـرق تركوا منازلـهـم وبـعـد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد
وفي طليعة أهل الأخبار الذين عنوا بجمع أخبار الحيرة الأخباري الشهير، بل رأس أهل الأخبار في أمور الجاهلية:
هشام بن الكلبي". فله كتاب في "الحيرة" سماه "ابن النديم" "كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العبادييّن"، وكتاب ثان سماه "ابن النديم" "كتاب المنذر ملك العرب"، وكتاب ثالث اسمه "كتاب عديَ بن زيد العبادي". وهي مؤلفات لم تصل الينا - وبا للأسف ! - نرجو أن تكون فيَ عالم الوجود، ليتمكن من يأتي بعدنا من الظفر بشيء جديد فيها، قد يفيد عشاق تأريخ الحيرة ويزيد في معارفهم.
وقد زارها نفر من السياح وكتبوا عنها، كما نبشت بعض البعثات الآثارية آثارها، وعالجت مديرية الآثار القديمة في العراق بعض نواحٍ من تأريخها، وقد توصل الحفّارون إلى العثور على نقوش من الجبس مما تُكسى به الجدر للزينة، وعلى جرار متعددة وآثار من هذا القبيل صغيرة بعضها من العهد الجاهلي وبعضها من العهد الاسلامي. غير انهم لم يعثروا حتى الان على كتابات جاهلية تتحدث عن تأريخ تلك المدينة القديمة السيئة الحظ.
وتأريخ هذه المدينة قبل الميلاد غامض لا نكاد نعرف من أمره شيئاً، فلم يرد خبرها في نص تأريخي مدوّن أو كتابة مدوّنة قبل الميلاد. وأقدم ذكر لها هو ما أشرت اليه، غير إن ذلك لا يتخذ دليلاً على انها لم تكن مولودة قبل هذا العهد، اذ يجوز انها كانت قبل هذا العهد قرية صغيرة، أو مدينة تسمى باسم غير هذا الاسم. ولعل المستقبل سيكشف عن تأريخها القديم بالسماح لبطن الأرض بإخراج ما في جوفها من أسرار عن ذلك التأريخ.
أما الأخباريون، فيرجعون عهدها إلى أيام "بختنصر". هم يقولون: إن "برخبا" لما قدم من "نجران" وأخبر "بختنصر" بما أوحى الله إليه، وقص عليه ما أمره به من غزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، وان يطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم به، واتخاذهم آلهة دون الله، وتكذيبهم الرسل والأنبياء، وثب "بختنصر" على من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليه بالتجارات والبياعات، ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها، فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيراً على النجف وحصّنه ثم ضمهم فيه،
فاستشار "بختنصر" فيهم "برخيا"، فقال: إن خروجهم اليك من بلادهم قبل نهوضك اليهم رجوع منهم عمّا كانوا عليه، فأقبل منهم، فأحسن اليهم، فأنزلهم "بختنصر" السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد، جزاني، لا جزاه الله خيراً سليمة، أنه شراً جزاني
اعلمه الرمـاية كـل يوم فلما اشتد ساعده رماني
فلما قال هذين البيتين فاظَ أي مات، وهرب سليمة. هرب إلى عمان.
وحكم بعد "مالك بن فهم" أخوه "عمرو بن فهم" على رواية، و"جذيمة الأبرش" المعروف بجذيمة الوضاح أيضاً على رواية أخرى. ولا نعرف من أمر "عمرو" هذا شيئاً يستحق الذكر.
وتزعم رواية أن الذي حكم بعد "مالك بن فهنم" هو "جذيمة الأبرش"، وقد جعلته ابناً لمالك، وجعلت نسبه على هذه الصورة: "جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن الغوث". وقالت: إن والده "مالك" هو أول من ملك الضاحية في حكم ملوك الطوائف.
أما حظ جذيمة الأبرش، فهو خير من حظ الرجلين السابقين عندالأخباريين، فله في رواياتهم شعر وحديث. وقد تحدثوا عنه، ونسبوا إليه الغزوات، وجاد عليه بعض الرواة فرفعوا زمانه وجعلوه في العاربة الأولى. جعلوه من بني "وبار ابن أميم بن لوذ بن سام بن نوح"، وصيرّوه "من أفضل ملوك العرب رأياً، وأبعدهم مغارأَ، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزماً. وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش"، وذكر "المسعودي" انه أول من ملك الحيرة.
وقد وصفوه أيضاً، فقالوا: إنه "كان به برص، فكنَتّ العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به، وتنسبه إليه، إعظاماً له. فقيل: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش". -وذكر "المسعودي" أن جذيمة هو صاحب النديمين اللذين يضرب بهما المثل، واستشهد على ذلك بشعر ل "متمم بن نويرة اليربوعي" في مرثيته لأخيه مالك بن نويرة: وكناّ كندمانَيْ جـذيمة حـقـبة من الدهر حتى قبل لن يتصدعا
وقد ذُكر ان النديمين المذكورين هما: مالك وعقيل، وهما ابنا "فرج بن مالك" من "بلقين"، وكانا قد قدما من الشام، يريدان جذيمة، فوجدا فتىً قد تلبد شعره، وطالت أظافره، وساءت حاله، أسرع نحوهما يرجو الطعام والرعاية، فلما سألاه عن حاله،
وتبين لهما انه "عمرو بن عدي"، سرّا به كثيراً، وعُنيا به، وأخذاه معهما إلى "جذيمة"، فلما رآه، فرح به فرحاً كبيراً، لعودته إليه، ونظر إليه، ثم أعاد عليه الطوق، وكان جذيمة قد صنعه له قبلاً، ثم قال: "كبر عمرو عن الطوق، وكان الجن قد استطارته، أي خطفته. وقال جذيمة. لمالك وعقيل: ما حكمكما، أي ما طلبكما ! قالا حكمنا منادمتك. فأصبحا يضرب بهما المثل.
وذكر "المسعودي" إن كنية "جذيمة" التي عرف بها هي "أبو مالك"، وروى في ذلك شعراً، زعم ان قائله هو سويد بن كاهل اليشكري: إن أذق حتفي، فقبلي ذاقـه طسم وعاد وجديس ذو السبع
وأبو مالـك الـقَـيْل الـذي قتلته بنت عمرو بالـخـدع
وذكر الأخباريون إن جذيمة غزا طسماً وجديساً،غزاهم في منازلهم من "جوّ" وما حولهم. فأصاب "حسان بن تبع أسعد أبي كرب"، وقد اغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعاٌ بمن معه، وأتت خيول تبع على سرية لجذيمة، فاجتاحتها وبلغ جذيمة خبرهم،
فقال في ذلك شعراً دوّن منه الطبري احد عشر بيتاً. وقد أراد ابن "الكلبي" إن يكون حذراً في هذه المرة، أو إن يظهر نفسه في مظهر الحذر الناقد، فقال: "ثلاثة ابيات منها حق، والبقية باطل". وجميل صدور هذا الحذر من الطبري، أو من ابن الكلبي، وقد عوّدانا سرد ابيات من الشعر العربي، نسباها إلى من هو اقدم عهداً من جذيمة ولم يذكرا انه باطل، أو إن فيه حقاً وباطلا.
وفي جملة ما تحدث به الأخباريون عن جذيمة انه تكهن وتنبأ، وانه اتخذ صنمين يقال لهما الضيزنان، وضعهما بالحيرة في مكان معروف، وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما. فلم يقنع الأخباريون بالحديث عن ملك جذيمة وحده، فأضافوا اليه التنبؤ والكهانة وعبادة الأصنام.
وذكر بعض أهل الأخبار إن "جذيمة بن مالك بن فهم" وهو جذيمة الأبرش كان ينزل الأنبار ويأتي الحيرة ثم يرجع. وكان لا ينادم احداً ذهاباً بنفسه،
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|