أخت الرجال..
المرزوقة، إحدى بنات العم جاد الله إبراهيم الجنزوري الثلاث. أكبرهن، وأكثرهن حيوية، وفوق كل ذلك.. أجملهن. فلاحة أصيلة.. تقوم بأعمال الزراعة، تكد وتشقى طوال النهار لمساعدة أبيها في زراعة الأرض.
الدار، دار أبيها.. ليست ملكا لزوجها، ورثتها عن أبيها وهو على قيد الحياة، أعطاها حقها من الدار الكبيرة للعائلة، عندما تزوجت جعفر الغرباوي.
منذ أن وعيت على ما يدور حولي، وأنا أُشاهدها ترتدي ثياب الرجال ـ معظم الأحيان ـ تزاحمهم في الأعمال الشاقة، تقف معهم كتفا بكتف لأداء كل المهام.
شاهدتها ذات مرة ـ لن أنساها أبدا ـ عندما سقطت بقرة عبدالمحسن عمارة في بئر الساقية التي تقف على رأس حوض كوكي والجمالين. رأيتها تزاحم الرجال في إصرار على إنقاذ بقرة الرجل العليل الذي لا يملك سواها. صوتها يعلو على أصوات الحشد واللغط.. تصيح فيهم بحزم: الهمة يا رجاله. الهمة يا أولاد أبي وأمي.. وعندما تم إنقاذ البهيمة، قال الجمع: هذه بركة أخت الرجال!!
وسرى الخبر في دروب البلدة.. المرزوقة هي التي حثت الجميع على هذا الجهد الخارق!!. كنا نحن الصغار نتمنى عندما نكبر أن نكون مثلها وفي قوة عزيمتها وإرادتها الصلبة القوية التي جلبت لها احترام كل رجال بلدتنا!!
ـ هذه الرجُلة..
هكذا.. أطلق عليها شاعر بلدتنا، لها قلب طيب ورقيق، تتعامل مع الأهالي بحسن ومودة وصوت هادئ. والعجيب في الأمر.. أن خاف منها الشبان الأشداء.. من الاقتران بها أو خطبتها أوالتفكير فيها كزوجة لهم، فالرجال يهابونها، يشاهدونها من صغرها تعمل يدا بيد بجوار أبيها، في الليل قبل النهار، تعمل في صمت بلا صوت أو احتجاج. صمت الرضا لما تقوم به، كأنما خلقت للغيط والبيت.. وهذا قدرها!!
غارت منها النسوة وقلن، إنها مسترجلة. كل رجال بلدتنا، لم يستطع أحد أن يضحك عليها بكلمة حلوة معسولة، أو غمزة عين من إحدى حاجبيه في الخفاء، أو يعطيها حبة جوافة كبيرة وناضجة، يتجرأ ويقدم لها كوز الخرشوف ويأخذها داخل غيط الذرة الأخضر بعيدا عن الأنظار!! لم يكن في حياتها رجلا معينا بالذات. كانت جد وجد وجد!! لا تعرف الضحك أو المزاح!! لا تعرف سوى الفلاحة والقلاعة. لم تكن تعرف سوى المنجل المشرش الحاد للحصاد، لم أشاهدها مرة واحده إلا وفي يدها المنجل المسنون اللامع. في الصباح تدق الوتد لربط الجاموسة من رسنها، وتقف بجوارالساقية لري الأرض الشراقي مع شروق الشمس أو بعد غروبها، الكل يهابها ويخشاها، إن كانت تعمل وحيدة أو مع جاد الله ـ كانت تنطق ـ جاد الله، كأنما هو رجلها وليس أباها. أحيانا تقول عندما يسأل عنه أحد الجيران في الحقل، الرجل في الدار نائم. الكل يعمل لها ألف حساب بالليل أو بالنهار. في الدار والغيط أو السوق.
المرزوقة.. أخت الرجال، في أحيان كثيرة شاهدتها ترتدي جلباب رجالي مخطط والطاقية البيضاء المزهرة، في طريقها إلى الأرملة خيرة الدار، وهي تحمل طاجون فخاري ضارب إلى السمرة به اللبن الرائب ومعه الخبز الطري، وفي ساعة العمل في الغيط، ترتدي غطاء الرأس الكبير له الحواف الدائرية المصنوع من سعف النخيل ليحميها من لسعة الشمس أثناء غرس شتلات الأرز. نراها في عز الظهيرة وهي تزاحم الرجال والنساء في جني القطن، أوتحش البرسيم الأخضر وتحمله لتضعه أمام الجاموسة والبقرة والحمارة والماعز. في موسم البيدار، تذهب إلى سوق الخميس الذي يقام على جسر الجنّابية لشراء البذور التي تنثرها في الأرض الشراقي لزراعتها في موسم زراعة القمح والشعير. تبذر البذور وهي تمشي ببطء وهدوء أمام المحراث، وجاد الله خلف المحراث يمسكه ويتحكم في مساره في باطن الأرض.. وتنقي أعواد ذيل الفأر الشيطانية، من وسط أعواد الأرز الخضر، تقوم بمساعدة البقرة أثناء الولادة.. حتى غارت منها أمها الجنزورية البدناء التي لاتبرح الدار، ولا تشارك في أعمال الغيط، ولا تذهب إلى السوق، لا تجد الفرصة في الحديث مع جاد الله في أمورالدار وشئون الزراعة، المرزوقة تقوم بتصريف شئون الدار، وتخزين الحبوب في الحاصل، ووضعها فوق السطح ليتسنى طحنه في الطاحونة وهو محمص طوال النهار في الشمس. شيء مألوف أن نراها في الحقل ترفع ذيل جلبابها الرجالي أبو قورة وتعقده حول خصرها.. فيبدو قميص نومها ومن أسفله سرواها الطويل يصل حتى يغطي بطن الساقين، طرف القميص الملون الباهت هو الذي يفضحها وتبدو في حقيقة أمرها.. امرأة، حرمة، فتاة. شابة ممتلئة البدن، مليحة الوجه، واسعة العينين السمراوين.. وصلت إلى سن الزواج.. تخفي الجديلتين الطويلتين من شعرها تحت الغطاء المصنوع من السعف فوق رأسها.. وقال أزهري الخلايفة، شاعر البلدة عنها:
ـ الجنزورية أخت الرجال تساوي ستون رجلا!!
تضايقت منه عالية الدرزية وسألته، وكم تساوي في سوق الحريم؟!.
أجاب، تساوي نساء البلدة بأكملهن!! وأضاف الرجل من كلماته المشهورة:
ـ النساء ما أكثرهن. والرجال ما أندرهن!! وأخت الرجال في بلدتنا عملة نادرة!! عقبت المرأة النحيلة بضيق: قل لها أن تتزوج وتعيش في ظل رجل، خير لها من ظل دار أبيها.. وفعلا عندما امتلأ جسمها وفار، تزوجت عاملا في الشركة، مصنع الغزل والنسيج، قسمت الدار ـ هي ـ بينها وبين أختيها وأمها وأبيها.. بما يرضي الله، ولا اعتراض من أحد من ذويها. أقامت جدارا يفصلها عنهم، الباب الخاص بها يفتح على الزقاق، في مواجهة خرابة سيد البشير. باب العائلة القديم، يفتح على البحري ناحية دار عبدالباري الطيب وزوجته خميسة الغول. طلب منها زوجها ألا تخرج للعمل وسط الرجال في الغيطان، وأن تظل محجوبة بالدار. وافقت عن طيب خاطر، دون تردد أو اعتراض، تفرغت للعمل بالدار، ذهل أهل بلدتنا، كيف تتحول أخت الرجال من النقيض إلى النقيض، تخلع ثوب الرجال وترتدي ثياب الحريم، تترك شغل الغيط للأختين والأب؟!
وعلق شاعر بلدتنا الأزهري عبدالواحد الخلايفه بصوت عال:
ـ صار الديك، دجاجة!!
ورزقها الله بمولود ذكر، كانت تتمناه لأنها حرمت من الأخوة الذكور.
جعفر الغرباوي يعرف بأنها لا تحب أن تتوقف عن العمل، فأحضر لها ماكينة خياطة إنجليزي ماركة "سنجر"، بالتقسيط من عند الخواجه اليوناني ينى بنكاس، له محل بالمدينة البعيدة. ولم يكن يوجد في بلدتنا سوى وديده الخياطة الأسكندرانية، هي الوحيدة التي تعمل في حياكة الثياب للنساء والبنات والأطفال الصغار، جاءت مع أمها الأرملة ـ أم صبحي ـ في أيام الحرب الكبيرة، مع المهجرين، وديدة تزوجت من الخفير محروس ابن الليل الذي حولته من النقيض إلى النقيض. من قاطع طريق إلى حارس ليلي. وديدة.. كنا نطلق عليها الأسكندرانية، وافقت على الزواج من محروس على شرط أن يترك حياة الليل. ورحبت به كثيرا، حماية لها ولأمها الأرملة من كبراء البلدة ومن الشبان الذين يحومون حول الدار والشباك!! أصبحت في عزوة الخفير محروس سبع الليل..
عندما أحضرت المرزوقة الماكينة سنجر، سكان الزقاق سمعوا بالخبر، تدفقوا على الدار للفرجة، يباركون لها، وهي لا تغلق باب دار في وجه أحد من أهل البلدة. الغرباء الذين يمرون على الديار يطلبون حسنة لله يا محسنين، الباب موارب، تفتحه واسعا وتقدم رغيفا كاملا من خبز الذرة للسائل الغريب، وأحيانا من تلقاء نفسها تضع له قطعة الجبن الأبيض فوق سطح الرغيف وتخفي جزءا من وجهها بشالها الحريري الأسود وتمد يدها في صمت تقدم الخبز اليابس والجبن القريش للسائل. سكان الزقاق شغلهن هذا الحدث الضخم في الزقاق الفقير، شغل وقت فراغهن، أثار العديد من التساؤلات والحيرة في أذهانهن، وقال شاعرنا المفوه، المرزوقة بنت جاد الله. طوال حياتها تثير الجدل حولها، في بدايتها كانت رجُلة تحرك الأحداث، وليست الأحداث هي التي تحركها!! النساء لم يحقدن عليها أو يغرن منها عندما كانت تتشبه بالرجال. أو يحسدنها عندما أصبحت ست الدار لطيبتها وحسن معاملتها ومرؤتها.
وأضاف الخلايفة، الأزهري القديم الذي لم يكمل تعليمه بالأزهر، عاد إلى بلدتنا لضرب الأمثال وقرض الأشعار في المناسبات:
ـ المرزوقة، فلاحة حتى النخاع، لم تكن تعرف سوى المنجل، تزوجت عاملا بالشركة، أحضر لها ماكينة سنجر!! صمت برهة وصاح بصوت مرتفع:
ـ آه، يا بلد. من منجل.. لمكنة سنجر!!
وأصبحت العبارة مضرب الأمثال في كل وقت وكل مكان..
المرزوقة عندما يحضر لها زوجها الخبز الأبيض الطويل الطري ـ الفرنجيلو ـ من مخبز الخواجه اليوناني، لا تنس جارتها خيرة الدار، كانت تعطيها قطعتين، وتقول لها واحدة لك والأخرى للعم هاشم، إنه خبز طري تحت اسنانه، وبعد وفاة العم هاشم الأجرودي، لم تتوقف عن تقديم قطعتي الخبز مع قطعة طرية من الجبن الأبيض لخيرة الدار الأرملة المسكينة..
حكاية المرزوقة، أخت الرجال التي تحولت إلى ست الدار.. لم تنته عند هذا الحد. كنا نود أن نقول إنها عاشت في التبات والنبات وخلفت صبيان وبنات.. لكن ما حصل منها مع عوض التملي الأجير عند أبيها كان أكبر من أن نتجاهله أو نتركه وننساه، دون ذكره.. عوض الغريب الذي جاء من الغرب، ولا يأتي من الغرب شيء يسر القلب على رأي شاعر بلدتنا!! أخذه جاد الله للعمل عنده على أن يأخذ حقه عينا من المحصول بعد حصاد كل زرعة مقابل جهده وعرقه. وأن يقوم برعاية الدواب مقابل الطعام والشراب وكسوة الصيف والشتاء. حضر الاتفاق بينهما الصافي الشناوي كبير العائلة، وشيخ الخفراء مرسي أبو مرسي الطويلة، والحاج محمود عكاشه الكبير والجار عبدالباري الطيب. على أن ينام الأجير فوق سطح الدار في الصيف والربيع والخريف، وفي فصل الشتاء، ينام في غرفة الفرن.. ويقضي حاجته في الجامع ويستحم تحت كوبري الترعة البحرية. والمسعودة الأخت الوسطى تغسل له ثيابه وتقدم له طعامه.. وانتهى الأمر إلى زواجه منها. بدأ يتحكم في الدار.. يتدخل في كل صغيرة وكبيرة. عندما تزوجت المبروكة الأخت الصغري من عبدالسلام الغمري، أقامت بالدار وفتح لهاجاد الله بابا يطل على الغرب. عوض بعد زواجه من المسعودة عامت على عومه وسيطر عليها وعلى الغيط والبيت. عندما مات جاد الله، رفع رأسه وبدأ صوته يرتفع في الدار والغيط. رفض دفع حقوق البنات من محصول الأرض وغلتها!! وبمساعدة المسعودة زوجته طرد الأخت الصغرى وزوجها عبدالسلام الغمري من الدار وحرم عليهما نزول الغيط، وبدأت المشاحنات.. قال شاعرالخلايفه:
ـ عوض التملي، تمسْكن، لما تمكَّن.. علا صوته !!
عندما تدخلت الجنزورية البدناء لصالح ابنتها الصغرى للحصول على حقها من الدار والغيط.. طردها لتعيش عند المرزوقة ست الدار، ولم يسلمها حقها بعد جني القطن كما جرت العادة والعرف في كل عام زراعي. استولي عوض التملي على كل شيء. جعفر الغرباوي رفض التدخل في الأمر وقال للمرزوقة، إن ميراثها وحقوقها في دار أبوها وبيت أمها هي حرة فيه، لا أريد منه شيئا، ولا أطمع في مالك ولا أود التدخل في النزاع مع هذا التملي قليل الأصل وغريب المنبت، أمك تعيش معنا مكرمة معززة على العين والرأس، فلست أنا من ينظر إلى ميراث امرأته، وأنت ست الدار لاينقصك شيء. الأرض والدار تخصك أنت وأمك وأخواتك البنات...
قالت المرزوقة بحزم الرجال الذي خلعت ثيابهم: الدار، دار أبينا.. والغُرب يطرودنا.. محال يكون. وأضافت بصوت هادئ: غسلت يديك يا جعفر من الأمر. فلا تغضب مني. عندما أتصرف على طريقتي..
وصمتت كأنما قد صممت على شيء.. ولم يعقب جعفر على كلامها. إنه يعرفها عندما تريد أن تفعل شيئا، فهي قادرة على تنفيذ ما تريده!!
في المساء دارت على الخفير جبر وحسنين أبو يوسف الخلايفه وعبدالباري الطيب ومرسي أبو مرسي والحاج محمود عكاشه الكبير، والصافي الشناوي الذي حضر الاتفاق كان قد توافاه الله ..طلبت من كل واحد منهم، على حده، دون إخبار الآخرين، الحضور صباحا أمام المدخل الرئيسي لدار الجنزوري والذي يطل على الحارة الغربية، لأنها تريده في أمر هام..
وفي الصباح اجتمع الرجال أمام المدخل القديم للدار، دون سابق موعد أو اتفاق بينهم جميعا.. كل واحد منهم قال إن المرزوقة ست الدار هي التي طلبت منه الحضور في أمر هام وهو لا يريد أن يخذلها وحضر..
وفي نفس الوقت جاءت المرزوقة وحيدة ترتدي ثياب الرجال ونعال زوجها الخفيف وغطاء الرأس الذي يخفي جدائل شعرها وقد شمرت عن ساعديها وأمسكت بالمنجل الحاد اللامع في يدها اليمنى، تقبض عليه بقوة وإحكام!! ذهل الجميع قالوا معا: خيرا المرزوقة بنت الناس الطيبين!!
قالت للرجال: كل خير، لا أريدكم أن تفعلوا شرا، لا أريكم أن تتدخلوا في الأمر الذي طلبتكم له.. كل ما أريده منكم أن تقفوا على مقربة من الدار حتى يحس الغريب بأنكم عزوة لي، جئتم للوقوف معي، مع الحق. واتركوا الباقي على المرزوقة بنت جاد الله، تعرف كيف تسترد حق الولايا..
وطرقت على باب الدار بشدة.. عندما أنفرج الباب، عن وجه المسعودة وهي متبرمة من شدة الطَرق، سألتها عن عوض التملي. تضايقت الأخت الوسطى لأنها لم تقل لها زوجك أو رجلك. سألت بحيرة وقلق: خير يا مرزوقة يا أختي؟ أجابت، سيكون كل الخير. اطلبي من عوض أن يخرج لي. قالت في لين ومرواغة: هو أنت غريبة. ادخلي الدار دارك... استكملت: الدار دار أبينا، والغُرب يطردونا. سأدخل بعد أن يخرج منها التملي الغريب... وحضر عوض على النقاش... وبهت عندما وجد أخت الرجال القديمة ولم يجد ست الدار!! وتقدم خطوة وشاهد الرجال بالخارج.. خرس من المفاجأة، ولاحظ المنجل المسنون الحاد اللامع في قبضة يدها.. أخذ يتهته ويحاول أن يجمع شتات أفكاره. ويدور حول نفسه. قالت أخت الرجال بحدة: يا عوض.. أنت افتريت على الولايا.. أقلقتني، وسلبتني راحتي!! نصيحة خذها مني. أحمل متاعك وارحل عن الدار، والغيط، اليوم قبل باكر، ولا تراوغ معي. سأجعلك تخرج بالجاموسة والحمارة والماعز. البقرة لاتأخذها، هي للجنزورية. وامرأتك ـ لم تقل أختي أو المسعودة ـ تحمل ما تقدر على حمله من متاع الدار. أدخل الآن وافعل ما قلته لك. لو عاندت، ودخلت احتميت بالدار، وامتنعت عن الخروج.. فلن تخرج من هنا على قدميك.. ستخرج على النقالة أو الخشبة...
ظل عوض التملي واقفا مبهوتا.. لحظات لا يدري ماذا يفعل. ماذا أعدت له المرزوقة. إنه يعرف قدرتها على تنفيذ ما تريده، هي تملك الإرادة القوية ولا ينقصها شيء!! وها قد أحضرت الرجال ولا سبيل للمراوغة كالثعلب في حقول الذرة، جاءك الموت يا تارك الصلاة...
وخرج عوض بالجاموسة والحمارة والماعز وحملت زوجته ماخف حمله وثقل ثمنه.. وبعد خروجه من الدار بعثت إلى الأم ومكنتها من الدار وقالت لعوض لن تبات هذه الليلة بالبلدة وتضع قدمك في قطعة الأرض. سأقف على رأس الغيط غدا. وإن طلبت لك مقبرة فيها لن تأخذها.. وقال الرجال: يا عوض، أنت افتريت على الولايا.. لكن أخت الرجال، جاءت لتهدك وتخلعك من الدار والغيط!!
وتم إيجارها بحضور الشهود والرجال إلى جارها حسنين أبو يوسف الخلايفه وسلمته الأرض. وعاد عوض التملي يعمل أجيرا كما كان. وكما جاء غريبا، ظل بالبلدة غريبا!! وقال شاعرنا عندما وصله الخبر:
ـ تتيست النعجة.. تتيست!!
وصارت العبارة في الزقاق مضرب الأمثال..
ذات مساء، عندما طرقت عليها الباب وطلبت خصلة الشعر لحرقها لعمل لبخة بزيت الخروع ووضعها موضع العضة حتى لا أصاب بالسعار.
قالت في صوت متألم: يا حبة عيني!!
كانت تحمل طفلها الرضيع على صدرها وقد تخلت نهائيا عن ثياب الرجال.. بعد قليل استكملت: أُدخل أَحط لك عليها البن المطحون، أحضره عمك جعفر من البندر، وتشوف الماكينة الجديدة... وشجعتني على الدخول، وأول مرة أشاهد هذه الماكينة الجميلة اللامعة قلت بذهول: ال ااااه..!! إنها أجمل من ماكينة وديدة الأسكندرانية. سألت: أعجبتك؟ قلت وأنا أحدق في تطريز الكف بالحبات الزرقاء لتقي المكينة شر الحسد وعيون فقراء الزقاق. نعم. حلوة. وتلمع. وجديدة...
قالت: أحضر ثياب العيد لأفصلها لك..
عقبت: العيد بعيد..
قالت: عندما يأتي..
وكنت سعيدا ومسرورا بأني سأفصل ثوب العيد القادم عندها، لأن وديدة الخياطة أحيانا كانت تطلب منا أن نرفع ثيابنا لتأخذ مقاس السروال، وكنت أخجل مثل بقية الصغار لأن سروالي من القماش البفته القصير مثل سراويل البنات الصغيرات. ولكن سراويل البنات كانت ملونة وخفيفة.
عندما سألتها عن الكلب، قالت: عمك جعفر يكره الكلاب موت. يقول الكلاب تنجس أدوات الأكل والثياب. محمود الضوي عنده كلبة وراءها ثلاثة جراء. عقبت: أخاف دخول الخرابة وحدي. ضحكت بصفاء وضربتني بخفة على كتفي، تخاف وأنت رجل؟! خذ العفارة من عندي، أدخل على نورها.. واستدارت ودخلت الغرفة وعادت بالنور تحمل عفار الدخان، سلمتني إياها وهي تقول، لا تخف، الشيخ سيد.. اسمع أنه كان تقيا ومباركا. الله يرحمه. كان يقيم ليلة لأهل الزقاق، يعقدون حلقة الذكر، وبعدها يأكلون اللحم مع الفت والخل والثوم مع المرق الدسم من لحم الغنم، وكان يوزع النفحة بيده على الدراويش..
حملت عفار الكاز، من الصفيح الرقيق، له يد صغير يمسك منها، مملوء بالكيروسين، وأعلاه فوهة ضيقة يخرج منها فتيل القطن المبروم، عندما يشتعل يبدو مثل سنبلة القمح الذهبية ويطلق ذيلا من الدخان وذرات السخام..
دار المرزوقة الخنزورية، تقف في مواجهة الخرابة..
خرابة سيد بشير البدوي، الله يرحمه ويحسن إليه..