هذه المقال للمنشد العماني (أبو المهند العميري)
--------------------------------------------------------------------------------
كيف يستطيع المنشد أن يؤثر في قلوب الناس؟ وما هي الوسائل التي تكسب نشيده فاعلية أكبر تصل به إلى غايته سلسا ناصعا لا تكلفَ فيه ولا غموض؟.. ليس من شك في أن التوازن في عناصر النشيد الأولى (الكلمة واللحن والأداء) هو الإجابة المثلى عن مثل هذه التساؤلات، لكن العلاقة الخاصة بين المنشد والكلمة تظل هي البُعْدَ الأهم في تشكيل معالم ذلك التوازن !
تقوم فكرة النشيد الإسلامي على أن الكلمة هي حجر الأساس الذي ينبني عليه العمل، يختارها المنشد بعناية فائقة وروح شفافة تستشعر النبض الذي يجري من حولها همسا كان أم جهرا، حتى يكون نشيدُه معالجةً فذةً تنتظمُ آلام الأمة وآمالها عبْر قطاعي الفرد والمجموع، وتنفذُ إلى دقائق هذا الكون وتتفاعلُ معها. لكن هذه العناية الفائقة، وتلك الروح الشفافة لا تحصل له إلا بعد معايشة واعية لقضايا الأمة واستقرارها في دائرة الهم الذي يعالجه في حياته، حتى يؤتي عملُه أُكُلَه ويكونَ بلسما على جرح فيلقى القبول لدى المتلقي.
هذا الوعي.. كيف يكون؟
إن الفنان الذي لا يسائل نفسه حول الهدف من رسالته هو فنان عابث لا يحترم قدسية الكلمة ولا ينظر بعين التقدير إلى الجمهور الذي يتلهف لسماع حدائه ، ومن ثم فليس عجيبا ألا تستجيب لها النفوس ولا تحتفي بها القلوب، فكأنها إلى زوال مذ نشأت. وإذا كان طَرْحُ هذا السؤال مهما جدا لفنان كرس رسالته لأداء قيم طينية تافهة، فكيف الأمرُ بالنسبة للفنان المسلم الذي يتوسل بعمله للآخرة لا الدنيا، وينسج خيوط رسالته من مادة السماء لا من مادة الأرض!!
إن سؤال المنشد لنفسه (لماذا النشيد؟ و لماذا أنشد؟) يمثل بداية الوعي الحقيقي برسالة النشيد كأداة فكرية فاعلة تعمل في حقل التربية والتثقيف المجتمعي، وبداية الوعي الحقيقي برسالته هو كفنان مسلم يعمل من أجل إعلاء كلمة الحق جل جلاله، ويسعى لنشر الخير بين الناس قاطبة وبث روح الجمال في ربوع هذا الكون بأكمله.
يقول الأديب توفيق الحكيم عن أهمية هذا الوعي عند الفنان الكاتب: "إن مهمة الكاتب في نظري هي تربية الرأي، و كل كاتب لا يثير في الناس رأيا أو فكرا أو مغزى يدفعهم إلى التطور أو النهوض أو السمو على أنفسهم، و لا يحرك فيهم غير المشاعر السطحية العابثة، و لا يقر فيهم غير الاطمئنان الرخيص، و لا يوحي إليهم إلا بالإحساس المبتذل، و لا يمنحهم غير الراحة الفارغة، و لا يغمرهم إلا في التسلية و الملذات السخيفة التي لا تكون فيهم شخصية، و لا تثقف فيهم ذهنا، و لا تربي فيهم رأيا لهو كاتب يقضي على نمو الشعب و تطور المجتمع!" .
والفنان المنشد كالفنان الكاتب سواء بسواء، فالأول يكتب بصوته والثاني ينشد بحروفه. على أن هذا الوعي الذي أعنيه ليس هو فهمَ التأصيل النظري لفلسفة الفن ومن ثَمَّ انعكاسها على طبيعة المواضيع التي يطرحها المنشد، بقدر ما هو تجسيد عملي واضح يُلمح في أخلاقيات المنشد وسلوكياته الحياتية. إنه ليس من شك في أن طرح قضية من مثل الحث على التفاؤل – مثلا – يمثل معالجة واعية لما تحتاجه الأمة في زمن كثرت فيه آلامها وأحزانها، لكن الوعي الحقيقي للمنشد يكمن في اتخاذ هذا التفاؤل عقيدة تتشربها نفسه، وسلوكا عمليا يمضي به في حياته، ومبدأً يسعى لإشاعته بين أفراد المجتمع. أليس من السخرية بمكان أن يأتي شخص ليدعونا إلى التفاؤل ثم لا نراه بعد ذلك إلا عابس الوجه مقطب الجبين؟!.. وإذن فنحن لا نريد للمنشد أن يكون صورة عملية لتفاهة القيم يوم أن تغدو كلماتٍ يتشدق بها اللسان دون أن يحلق بها الضمير وترقى بها الروح.
قيمة فنية أم أخلاقية ؟
وإذا بدا لأحد أن يتساءل عن طبيعة هذه القيمة.. أهي أخلاقية بحتة أم أن لها أثرا يطول بُنْية العمل نفسه؟!.. فإننا نقول بداية: إن الإسلام لا يحتفي بالفن إذا تجرد من الأخلاق ولا يعترف به أداةً تنهض بالمجتمع إلى الأفضل إذا جاء مجافيا لها. وإذا تقررت (أَخْلَقَة) الفن في نفسه فإن أَخْلَقَتَه – إن صح التعبير– في نفوس منتجيه من باب أولى. إن الفن الرفيع المهذب لا يصدر إلا عن نفوس رفيعة مهذبة!..
وإذا كان وعي المنشد بأهداف فنه وأسباب وجوده – أي الفن – من الأخلاق التي لا يُتَصَوَّرُ الفنانُ المسلم بدونها – كما قررنا سلفا – فإن هذا الوعي نفسَه من الأسباب المهمة التي تقف وراء خلود الفن الجميل، وبقائه حيا فعالا في قلوب الناس لآماد طويلة. ولقد تساءل كثيرون عن السر في خلود عدد كبير من الأناشيد القديمة في قلوب الناس رغم الحُلّةِ البسيطة التي تتبدى فيها ورغم البون الشاسع بينها وبين ما وصلت إليه الأناشيد الحديثة من حيث تقنيات النشيد الداخلية ومهارات الأداء فضلا عن نقاء الصوت بفضل التطور الكبير في عالم الهندسة الصوتية.. تساءلوا عن سر خلودها في حين لا يحظى إلا عدد قليل من الأناشيد الحديثة بمثل هذا..؟!!
فما وجدنا عند التأمل الفاحص إلا أن تلك الأناشيد الخالدة تنضح بروح الإيمان ويُحس فيها الإخلاص ويتراءى فيها الصدق، وأن تراكب مفرداتها (اللحن والكلمة والأداء) يكشف عما يسميه النقاد بالصدق الفني. إن أناشيد من مثل (مسلمون)، و(رحماك)، و(غرباء)، و(لبيك إسلام البطولة)، و(بقرآني)، و(أن تدخلني ربي الجنة) وغيرها كثير ما تزال تتردد على الألسنة إلى اليوم رغم أنها من نتاج الأمس، وما يزال بعض المنشدين يقتبسون منها بل ربما أخذ بعضهم يعيد تسجيلها بالكامل في الوقت الذي تغيب فيه أناشيد كثيرة عن الحضور في واقع اليوم رغم أنها وليدته!
وعندما سئل المنشد (نزار أبو الفداء) وهو أحد منشدي الرابطة الفلسطينية عن الفرق بين النشيد قديما وحديثا كان جوابه أن النشيد القديم: "كان متميزا هادفا ذو رسالة واضحة وكان أصحابه مدارس في الأسلوب والخط الفني الإسلامي بينما النشيد الحديث – في أغلبه – موهبة تفرغ في شريط وأصبح الكثير ممن ينسبون أنفسهم للنشيد كفقاعة الصابون لا هدف.. لا رسالة.. لا توجه.. وإنما هواية وتفريغ طاقات كامنة وإمكانات محدودة وشهوة فنية وسباق في الإصدارات غير المصنفة التي لا تستطيع أن تسمعها أكثر من مرة ثم تندم على شراء الشريط.. " . وكان جواب المنشد الكبير (أبي الجود) حين سئل عن السر في خلود أنشودته (رحماك يا رب العباد) التي كتبها عام 1970م قوله : "أرى أن سر نجاحها يعود إلى روح الشباب الذي غمرها، والإخلاص وصدق التوجه والمقصد، فكانت رائدا ونبراسا لي ولإخوتي حيثما أردنا التضرع إلى الله تعالى و التذلل بين يديه" .
وخلاصة القول أن التزام المنشد بالمبدأ الذي يدعو إليه وإخلاصه له يتعدى كونه موقفا أخلاقيا إلى أن يصير قيمة فنية ترفع من شأو العمل، وتثقل كفته في موازين النقد ومن ثم تكسبه صفة الخلود. إنها القيمة التي تفهمها القلوب والنفوس بعيدا عن منطقية العقل ومعادلاته المادية الجامدة.. إنها لغة الفن في جوهره الأصيل!
أن التزام المنشد بالمبدأ الذي يدعو إليه وإخلاصه له يتعدى كونه موقفا أخلاقيا إلى أن يصير قيمة فنية ترفع من شأو العمل، وتثقل كفته في موازين النقد ومن ثم تكسبه صفة الخلود. إنها القيمة التي تفهمها القلوب والنفوس بعيدا عن منطقية العقل ومعادلاته المادية الجامدة.. إنها لغة الفن في جوهره الأصيل!
بارك الله فيك أخي البراء