أما نحن، فلا نعلم شيئاً من أمر هذه الفتوح و الغزوات، ولا من أمر هذا المنظوم أو المنثور. و إنما الذي نعرفه أنه كان يسمى "ياسر يهنعم"، لا "ناشر النعم" كما جعله الأخباريون، وأنه عاش في القرن الثالث للميلاد، وبينه وبين سليمان مئات من السنين، وأنه لا يمكن أن يكون قد خلف "بلقيس" معاصرة "سليمان" على حد زعم أهل الأخبار، ولا أن يكون قد انتزع الملك من "سليمان". ولا أن يكون صاحب فضل ونعمة على حمير، لأنه أنقذهم من حكم "سليمان". وكل ما في الأمر أن الاسم كان بالنسبة إلى أهل الأخبار غريباً، فصّيروه "ناشر النعم"، وابتكروا له قصصاً في تفسير معنى ذلك الاسم.
واذا كان حكم "ياسر يهنعم" في النصف الثاني من القرن الثالث للميلاد، فإنه يكون من المعاصرين لمملكة "تدمر"، وربما كان قد عاصر المملكة الشهيرة "الزباء"، و أدرك أيام سادات الحيرة اول مؤسسي أسرة لخم. وقد قدّر بعض الباحثين في العربيات الجنوبية زمان حكم "ياسر يهنعم" بأوائل النصف الأول من القرن الثالث للميلاد، أي في حوالي سنة "201" أو "207" للميلاد فما بعدها.
ولا نعرف اسم والد "ياسر يهنعم" إذ لم يرد ذكره في النصوص. أما أهل الأخبار فقد عينوه وثبتوه على نحو ما ذكرت، وصيره "حمزة" "شراحيل"، - وهو على زعمه - عم "بلقيس" التي حكمت اليمن قبل عمها "ناشر النعم". وقد ذهب "فلبي" مستنداً إلى دراسة بعض الفصول إلى احتمال كون "العذ نوفان يهصدق" الذي وضع اسمه قبل اسم. "ياسر يهنعم" والداً له.
و قد ورد اسم "ياسر يهنعم" في جملة نصوص، منها نص رقّمه العلماء ب Cih 46، عثر عليه في موضع "يكرن" "يكاران"، "يكر" "يكار" أرخ بشهر "ذو المحجة" "ذو محجة" "بورخن ذ محجتن" "ذو الحجة" من سنة "385" من التأريخ الحميري الموافقة لسنة "270 م" من سني "مبحض بن ابحض" "مبحض بن أبحض". وقد جاء فيه اسم الإله "عثتر ذو جوفت" بعل "علم" و "بشر" " أي إله وسيد موضعيْ "علم" و "بشر"، واسم قبيلتي "مهأنف" و "شهر".
وقد تبين من الكتابات إن "ياسر يهنعم" كان قد حكم وحده في بادئ الأمر، لم يشاركه أحد في اللقب ولا في الحكم، ثم بدا له ما حمله على اشراك ابنه "شمر يهرعش" معه، بدليل ذكر اسمه من بعده، وبعده: "ملك سبأ وذي ريدان"، فصرنا نقرأ الكتابات المتأخرة المدونة في هذا العهد وبها اسم الملكين.
وورد اسم "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" في نص آخر مؤرخ كذلك، أرخ في شهر "مذران" "مذرن" سنة "316" من سني تقويم "نبط ال" "نبط ايل" دوّنه "فرعن يزل بن ذرنح" "فرعان يأزل بن ذرنح"، و "يعجف" رئيس قبيلتي "قشم" "قشمم" و "مضحيم" "مضحى"، وذلك عند بنائهما "ماجلهمو" "مأجل" صهريجين بخزنان فيهما المياه لإسقاء أرضين لهما مغروسة بالكروم، وكان ذلك في ايام سيديهما "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش" ملكي "سبأ وذي ريدان". ولهذه المناسبة تيمنا يذكر اسمي الملكين.
وقد قدّر "فلبي" مبدأ تقوم "نبط ايل" بسنة "40 ق. م."، فإذا أخذنا بهذا التقدير، يكون هذا النص قد دوّن حواقي حوالي سنة "276 ب. م.".
وأودّ إن ألفت نظر القارئ إلى إن أحد النصين قد أرخ ب "سني نبط" "نبط ال" "نبط ايل"، وأن النص الآخر قد أرخ بسني "مبحض بن أبحض"، كما عثر على نصين آخرين أرخا بسني "مبحض بن أبحض".
وقد ذهب العلماء الى إن الناس كانوا يؤرخون في ذلك الزمان وفق تقويمين، أي تأريخين مبدأ أحدهما تقويم "نبط" "نبط ايل"، ومبدأ ثانيهما تقويم "مبحض بن أبحض". والفرق بين التقويمين خمسون سنة، أو خمس وسبعون سنة. وقد بقي الناس يؤرخون بهذين التقويمين أمداً، ثم مالوا إلى التوريخ بتقويم واحد، إلى أن أهمل أحدهما إهمالاً تاماً. ويرى "بيستن" أن التقويم الذي أهمل وترك، هو تقويم "نبط" "نبط ايل"، وأن الذي بقي مستعملاً هو تقويم "مبحض بن أبحض".
ويرى "بيستن" أن الكتابات السبئية المتأخرة، قد أرخت وفق تقويم مبحض بن أبحض"، وإن لم تشر إلى الاسم، إذ أسقطته من الكتابات.
أما مبدأ هذا التقويم، فيقع فيما بين سنة "118" و "110 ق، م،". غير أن الناس لم يؤرخوا به عملياً وفي الكتابات إلاّ في القرن الثالث بعد الميلاد. أما، فيما قبل القرن الثالث للميلاد، فقد كانوا يؤرخون على عادتهم بتقاويم محلية مختلفة.
ويرى "ريكمنس" أن التواريخ التي أرخت بها النصوص المؤرخة في عهد "ياسر يهنعم" وفي عهد ابنه "شمر يهرعش" تختلف عن التقويم السبئي المألوف الذي يبدأ-على رأيه- بسنة "109 ق. م." وهي لذلك لا يمكن أن تثبت وفق هذا التقويم.
وقد حارب "ياسر يهنعم" الهمدانيين الذين تعانوا مع قبائل "ذي ريدان"، لمهاجمة "مأرب"، غير أنه باغت الهمدانيين في غرب "صنعاء" وتغلب عليهم.
وفي النص الموسوم ب Cih 353 خبر ثورة للحميريين على "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يرعش" في "ضهر". وقد حاصر "ياسر" الحميريين. ويرى "فون وزمن" إن هذه الثورة حدثت في حوالي سنة "300 ب. م.". وقد عثر على كتابات في كل منطقة "ضهر"، وهي لا تبعد كثيراً عن "صنعاء". وفي هذه المنطقة خرائب "دورم"، كما عثر على كتابات في "ثقبان" بين "ضهر" و "صنعاء" .
أما الذي حارب "شمر يهرعش بن ياسر يهنعم"، كل من الحميريين، وذلك كما جاء في النص المتقدم، أي النص الموسوم ب Cih 353 ف "يرم ايمن" وأخيه "برج" "بارج". فيكون حكمها أذن في أيام "شمر يهرعش"، أي في القرن الثالث للميلاد. وهذا مما يشير إلى إن العلاقات بين الطرفين أي بين "سبأ" و "حمير"، كانت قد تعرضت لهزة عنيفة خطيرة حتى تحولت إلى حرب، أشير إليها في هذا النص.
ومن النصوص التي تعود إلى الدور الثاني من أدوار حكم "ياسر يهنعم" النص: Jamme 646، وصاحبه شخص اسمه "شرح سمد بن يثار" "شر حسمد بن يثأر" وآخر اسمه "الفنم" "الفن" "الفنان". وكانا من كبار الضباط في حكومة "ياسر يهنعم" وابنه "شمر يهرعش"، ومن درجة "مقتوى" وقد دوّنا نصهما حمداً وشكراً للإلَه "المقه" "بعل أوام"، لأنه مكنهما من الشخص الذي أراد إحراج "ذ حرجهو" مكانتهما وزعزعتها عند سيدهما "شمر يهرعش"، ولكن "المقه" منَّ عليهما وشملهما بفضله ولطفه، فنصرهما عليه وأبطل خطته في إحراج مكانتهما "بحر جنهو"، عند سيدهما. وتعبيراً عن حمدهما وشكرهما له، وتقدما إلى الألَه "المقه" بصنم "صلمن" وضعاه في معبد "اوام", ولكي يمنَّ عليهما ويبعد عنهما أذى الأعداء وحسد الحاسدين.
وورد اسم "ياسر يهنعم" واسم ابنه "شمر يهرعش في نص Jamme 647 وهو نص دوّنه ضابطان كبيران "مقتوى" من ضباط الملكين، لمناسبة ولادة مولود لهما "هو ولدم"، وقد شكرا فيه الإلَه "المقه" "بعل اوام" على هذه النعمة، وتوسلا إليه بأن يمنَّ عليهما بأولاد آخرين، وبأن يرفع من مكانتهما عند سيديهما الملكين، وبأن ينصر جيشهما ويرفع مكانه قصر "سلحن" "سلحين" "سلحان" مقر الملوك مأرب ومن منزلة قصر "ريدان"، وتوسلا إليه بأن يبارك في كل ما قام به الملكان من أعمال، وبأن يبارك في كل مشروع وضعوه في خلال السنين السبع في أي مكان كان في مأرب أو في صنعاء
"قباذ ابن شهريار" الفارسي. ولما بلغه أن الصغد والكرد وأهل نهاوند ودينور هدموا قبر "ناشر النعم" وفرقوا رخامه وزجاجه وما كان فيه من جزع وغيره، غضب غضباً شديداَ ونذر لله نذراً "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلاً منيفاً شامخاً كما كان". ثم سار بجيوشه وبأهل جزيرة العرب، فسار إلى أرمينية، فبلغ ذلك قباذ، فأمر الترك بالمسير إلى أرمينية، فسارت الترك تريد أرمينية فقاتلهم قتالاً شديداً، ثم هزمهم فقتلهم قتلاً ذريعاً، ثم سار نحو المشرق فتغلب على قباذ، واستولى على الفرس، وأعاد بناء قبر أبيه. ثم هدّم المدائن بدِينَوَرَ و "سنجار" بين نهاوند ودينور "فجميع الأرض التي خربها شمر يهرعش، سماها بنو فارس شمركند، أي شمر خرّب باللسان الفارسي، فأعربته العرب بلسانها، فقالوا "سمر قند"، وهو اسمها اليوم"، ثم بسط سلطانه على الهند، وعيّن أحد أبناء ملوك الهند ملكاً على الصين، ثم عاد فسار إلى مصر، ومنها إلى الحبشة، فاستولى عليها، وهرب الأحباش إلى غربي الأرض، إلى البحر المحيط، فتبعهم "مشر" حتى بلغ البحر، ثم رجع قافلاً المشرق، فمرّ بمدينة "شدّاد بن عاد" على البحر، فأقام بها خمسة أحوال. ثم ذهب لزيارة قبر والده، ثم رجع إلى بلاده إلى "قصر غمدان"، فأقام فيه إلى إن توفي، وعمره ألف سنة وستون عاماً، بعد أن ملك الأرض كلها. وزعم بعض أهل الأخبار انه هو الذي بنى الحيرة بالعراق.
وزعم "حمزة" إن والد "شمر" هو "إفريقيس"، وذكره على هذا النحو: "يرعش أبو كرب بن إفريقيس بن أبرهة بن الرايش، وانما سمى برعش لارتعاش كان به". وذكر إن رواة أخبار اليمن تفرط قي وصف آثاره، تم ذكر بعض ما ذكروه عنه، وذكر إن بعض، الرواة يزعمون انه كان في زمان "كشتاسب"، وان بعضاً آخر يزعم انه كان قبله، وان "رستم بن دستان" قتله، وجعل ملكه سبعاً وثلاثين سنه.
وقال الأخباريون إن "شمر يرعش" هو أول ملك أمر بصنعة الدروع المفاضة التي منها سواعدها وأكّفها وهي الأبدان، وقد فرض على فارس ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله عليهم "بلاس بن قباذ"، وجعل على الروم ألف درع، يؤدونها كل عام، وكان عامله على الروم "ماهان بن هرقل". وجعل على أهل بابل وعمان والبحرين ألف درع، وعاف أهل اليمن ألف درع. وجعلوا أهل "التبت" من بقايا قوم "شمر يرعش". وذكروا عنه قصصاً أخرى من هذا القبيل. ولم ينسوا بالطبع حكمه وشعره، فذكروهما.
أما علمنا عنه، فيختلف عن علم أهل الأخبار عنه. وقد حصلنا على علمنا عنه من كتابات المسند من أيامه. وهي كلها خرس صامتة، ليس فيها شيء من أخبار تلك الفتوحات المزعومة والحروب الواسعة التي أشعلها "شمر" على زعمهم في جميع أنحاء الأرض،
وليس فيها كذلك شيء، عن نقل حمير إلى "التبت" وإسكانه لهم في تلك الأرضين البعيدة، وليس فيها شيء ما عن قبر والده بدينور، ولاعن تهديمه لمدينة "سمر قند".
ونستطيع تقسيم كتابات المسند من أيام "شمر يهرعش" إلى قسمين: كتابات من أوائل أيام حكمه، أي الأيام التي حكم فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، ولم يكن قد استولى بعد على حي حضرموت ويمنت، وكتابات من العهد الثاني من أيام حكمه، أي العهد الذي لقب فيه نفسه بلقب "ملك سبأ وذي ريدان ويمنت" حتى وفاته وانتقال الحكم إلى خليفته في الحكم.
ومن كتابات الدور الأول، الكتابة التي وسمها العلماء ب Glaser 542، وقد سقطت اسطر منها. وهي على جانب كبير من الأهمية بالنسبة إلى من يريد الوقوف على تأريخ التشريع عند الجاهلين. ترينا قانوناً سنهّ الملك لشعب سبأ، أهل "مأرب" وما والاها، في تنظيم البيوع بالمواشي والرقيق.
فحدد المدة التي يعد فيها البيع تماماً، وهي امد شهر، والمدة التي يجوز فيها رد المبيع إلى البائع، وهي بين عشرة أيام وعشرين يوماً. كما بين حكم الحيوان الهالك في أثناء المدة التي يحق للمشتري فيها رد ما اشتراه إلى البائع، فحددها بسبعة أيام. فإن مضت هذه الأيام، وهلك الحيوان في حوزة المشتري وجب عليه دفع الثمن كاملاً إلى البائع، ولا يحق له الاعتراض، عليه والاحتجاج بأن الحيوان قد هلك في أثناء مدة أجاز له القانون فيها فسخ عقد الشراء.
ويعد النص الموسوم Cih 407 من النصوص المهمة من الأيام الأولى من أيام حكم "شمر يهرعش". وهو يتحدث عن حرب قام بها جيش "شمر" في شمال غربي اليمن، امتدت رقعتها حتى بلغت اليم. شملت أرض "عسير" و"صبية" "صبا". بين وادي "بيش" ووادي "سهام". وهي أرض تهامة. قام بها ضد قبائل "سهرت" "سهرة" و "حكم" عك وغيرها. وصاحبه رجل اسمه "أبو كرب"، وهو في درجة "مقتوي" أي قائد في جيش شمر، وقد أبلى في هذه الحرب بلاءً حسناً، فقتل ثلاثين من الأعداء، وقتل أسيرين، وغنم فيها كثيراً. فقدم من أجل ذلك إلى الإله "المقه ثهون بعل أوم" تمثالين من الذهب،
وتمثالاً من الفضة، لأنه مَنّ عليه فأنقده من مرض أصابه في مدينة "مأرب" مدة ثمانية أشهر، ولأنه مَنَّ عليه في الحرب التي اشتعلت في "وادي ضمد"، وامتدت حتى موضع ال "عكوتين" "عكوتنهن" وساحل البحر. وقد انتصرت فيها جيوش "شمر" على جميع من قبائل تهامة عسير. ومن القبائل التي ورد اسمها في هذا النص: "ذسهرتم"، أي "ذو سهرت" "ذ سهرتن" "ذو سهرت" "ذو سهرة" "سهرة" "ساهرة" و "دوأت" و "صحرم" "صحار" "صحر" و "حرت" "حرة" و "عكم".
فيتبين من هذا النص أن الملك "شمر يهرعش" سير حملة عسكرية إلى جملة قبائل من قبائل عسير وتهامة حتى ساحل البحر، فانتصرت الحملة عليها، وتعقبت القبائل في البحر، وجرت معارك في وسطه، ونزلت بالمنهزمين، وهم على أمواج البحر، خسائر فادحة. وقد استدل بعض الباحثين من إشارة "أبي كرب" إلى الخسائر التي منى بها المنهزمون وهم في البحر، إلى أن أولئك المنهزمين كانوا من الحبش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة قد وقعت في البحر الأحر.
ويقع موضع "عكوتن" "العكوتان" شمال "وادي ضمد". وأما "صحار" "صحرم"، فيقيمون اليوم حوالي "صعده". وأما "سهرتم" "سهرة"، فقبيلة تقع منازلها في تهامة، وربما كانت منازلها من "وادي بيش" في الشمال إلى "وادي سردد" "وادي سردود" في الجنوب. وقد كانت هذه القبيلة على صلات قوية بالحبش في أيام "الشرح يحضب". وقد أدت فتوحات "شمر يهرعش" في هذه الأرضين التي بلغت سواحل البحر الأحمر إلى د*********ه في نزاع مع الحبش الذين كانوا يحتلون مواضع من الساحل، ويؤيدون بعض القبائل لوجود أحلاف عقدوها معها.
و "عكم" "عك" من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار. أما هنا، فانه اسم قبيلة.
والى هذا العهد أيضاً تعود الكتابة: Jamme 649. وهي من الكتابات التي تتحدث عن حروب وقعت في أيام "شمر يهرعش". وقد دوّنها رجل اسمه "وفيم احر" "وفي أحبر" "وافي احبار"، وهو من "حبب" "حبيب" و "هينن" "هينان" و "ثارن" "ثأران" "ثئرآن"، وهم من "عمد" و "سارين" "سأريان" و "حولم".
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|