يوميات مغترب في بلاده !!
أنا مواطن أعيش في هذه البلاد ....
الديانة: مسلم و لله الحمد و المنة ....
الاسم : سأكذب عليكم و أقول اسمي صالح ، و لكن أقسم لكم بأنه كذب نزيه لأنني أخبرتكم بأني كذبت عليكم في زمن تكذب فيه الدول و القنوات و الصحف و تقسم بالله أنها صادقة ، و مع ذلك فكذبتي ليست كذبة بمعنى الحقيقي للكذب ، و إنما هي التباس حصل من كثرة ما تردد على سمعي في كل مكان و في كل صحيفة و لافته ، من أنني يجب أن أكون مواطنا صالحا ... فها قد كنت هو ..
الجنسية: ارفع راسك !!...
****
لما ولدت أخبرتني أمي أنني عربي و لغتي العربية ، و هي اللغة التي يجب أن أفخر بها ، أما أبي فكثيرا ما كان يتعنت في إنكار بعض الألفاظ العامية و اللهجات الدارجة – خصوصا في بداية النشأة – و لا أنكر أنه في حال إنكاره عليَّ - و إغلاظه في القول في بعض الأحيان – يتحدث بالعامية !! فمثلا يقول : ما تعرف تحتسي ؟!!!... و لكن يبقى أنني تربيت على الاعتزاز بلغتي العربية .
قدَّر الله عليَّ و دخلت المدرسة كأي مواطن " صالح " و لكن لغياب الهدف عندي و خصوصا في صغري فلم يدر في خلدي من أنني أدخل المدرسة لكي أخدم وطني ، و لا أدري من سيتحمل هذه الزلة ؟!!.
تدرجت في المدرسة حتى وصلت في تعليمي للمرحلة المتوسطة – تأملوا !! – و فيها درسني أحد المدرسين و كان يبالغ في تمجيد هذه اللغة ، و يقول إنها لغة القرآن !! و أنها هي ذاتها اللغة التي كان يتحدث بها محمد !! و كان هذا المدرس لا يتحدث حال شرحه إلا باللغة الفصحى .
و مضت الأيام ...
و انتقلت إلى المرحلة الثانوية .... و لها قصة ، فمادة النحو هي الألفية ، و الأدب حفظ بعض المعلقات !! و عيون الشعر العربي ، و .. و بانت سعاد !! و سعاد التي لم تبن !! و ذاك المسمى قس بن ساعده ، و الآخر امرؤ القيس ، ثم الخنساء و المتنبي ، و أخبرونا في المدرسة أن هناك شاعرا أسمه أبا تمام يقولون إنه من فحول الشعراء و له الحماسة ، ثم ذاك الثنائي جرير و الفرزدق ، و النصراني الأخطل – الذي يقول الشعراء عنه أنه ولد حمولة و لو كان نصرانيا و شعره يحتج به – كذلك درسونا أوزان الشعر و بحوره ، و الخليل ابن أحمد ، و الموشحات و الأندلس و المقامات و بديع الزمان و الجاحظ و ....
و ممن درسني أستاذين فاضلين لا يتحدثان إلا باللغة الفصحى ، و أحدهما شاعرا !! فإذا أتى درسهما فكأننا انتقلنا للعصر الجاهلي !! و لذلك فلا غرابة أن تسمع : وحيك !!. كيف حالك ، ما هي أخبارك ، يا هذا استيقظ ( و هذه كلمة جديدة لا تستخدم إلا في المدرسة و لم أسمعها في خارجها إلا فيما ندر، و أخبرنا المدرس أنها تعني: يا هذا استيقظ من النوم !! و فسر الماء بعد الجهد بالماء !! ) ، و تقدم قليلا ، و أغلق النافذة ... و هكذا .
بل إن هذين المدرسين حتى في خارج الفصل لا يتحدثان إلا باللغة العربية الفصحى ...
و مرة كان أحدهما يخطب فينا و كأنه يخطب في سوق عكاظ – و مما جاء في خطبته – أن عمرا ابن الخطاب سمع رجلا يلحن في اللغة فضربة بالدرة لله رده !!..
و لما انحططنا في دراسة الأدب كما يقول المعلم !! و وصلنا إلى أدب الحداثة و الأدب المعاصر تمعر وجه شيخنا ، و لكنه استمر في الشرح حتى وصل إلى قول القائل :
ارتفاع الآذان فوق المآذن ... في انبلاج الليل و الليل ساكن !!
كاد أن يتقيأ علينا و قال : بالله عليكم هل هذا شعرا أم شعيرا ؟!! و الله لو لم أكن مطالبا بشرح هذه الأبيات لما شرحتها ... بالله عليكم هل هذه معاني ؟!!
ثم استطرد في حديثه حتى وصل إلى ثدي النملة الذي يفرز حليبا ، و الصعود إلى الأسفل و النزول إلى الأعلى !!...
و تمعر وجهه و تمعرت و جوهنا معه ...
****
تخرجت من المدرسة و أنا محمل بهذه الأفكار و هذا التعصب لهذه اللغة التي أخبرني مدرس سابق بأنها لغة القرآن ، و الآخر بأنها لغة محمد ، و الثالث أنني يجب أن أعتز بها ، و الرابع يتحدث عن أنه لا يجوز التحدث بلغة العربية لغير حاجة ، و يقول أن أحد المشايخ القدماء قال بهذا ...
****
- فتحت ذات مرة التلفاز و رأيت أحد من يجر قبل اسمه حرف الدال، و كان يتحدث و يتحدث كثيرا و لكي يخبر الناس أنه مثقف، قال كلمة بلغة غريبة و لكنها ليست العربية قطعا ، و قال: معذرة فأنا لا أعرف ترجمة الكلمة بالعربية !!.
- و مرة أخرى في نفس التلفاز كان أحد المتخصصين في البلاغة و النقد و كان فيما يبدوا متعصبا للغة العربية ، و يؤكد أنها لغتنا الوحيدة و أنه يجب أن ننبذ العامية و ... و بينما هو يتحدث أخبره المذيع أن عندهم – فاصل و نواصل – و كان في الفاصل إعلان عن برنامج للشعر النبطي !!!
- قرأت مقالا في الجريدة و إذا بصاحبه يتحدث عن أهمية تدريس اللغة الإنجليزية للطلاب في المرحلة الابتدائية ، و فتحت التلفاز فإذا نفس الموضوع مطروح أحد البرامج الحوارية!! .
****
و هنا بدأت القصة :
دخلت ذات يوم أحد المطاعم ، أتى النادل و معه قائمة الأطعمة ، بدأت أقلب في القائمة و من ثَم بدأت أسأله بعض الأسئلة عن محتوى بعض الأصناف لأن الأسماء غريبة ، نظر إليَّ ببلاهة و قال :
آي آم هو دد نت إز سبيك إنقلش !!
لم أفهم ما يقول و لكن فيما يبدوا أنه يقول أنه لا يتحدث العربية ، لم تخفى عليَّ نظرة الإستخفاف التي في عينه لأنني لا أحسن أن أتحدث باللغة العالمية في المطاعم عندنا ...
نظرت إليه نظرة أكثر حدة و قلت – بالعربي طبعا - :
ما فيه عربي ؟
قال كلمة على وزن ( فعولي ) قد تكون كزيوزمي أو كلمة نحوها و فهمت منها أنها اعتذار أو شيئا من هذا القبيل و رحل غير مأسوف عليه !!
من حسن الحظ أن محلي مقابل النافذة الكبيرة المطلة على الشارع العام و لما قرأت اللوحات تأكدت في بلد عربي مسلم و لكن .... و ما الذي تفيده لكن ؟!!
أتى المتحدث بالعربي ، و تجاذبنا أطراف الحديث عن الوجبات و مكوناتها و طلبت طلبي ، و لكن الذي قدمه لي الأبكم الذي لا أستطيع التعامل معه إلا بلغة الإشارة !!
بعد ذلك بأيام دخلت مطعما آخر و أتى إليَّ أبكم آخر و لكنه أكثر وقاحة من الذي قبلة.
قال لي : آر يو إز آر هي انجلش ؟!! قلت لا !! و ذلك لأني لا أعلم ما يقول . نظر إلي و هو يأسف على الجيل الذي لا يجيد التحدث بالغة العالمية ....
و بعد جدال عقيم و حديث بلغتين مختلفتين و لغة الإشارة استسلم و أتى بشخص يتحدث العربية ، و مرة أخرى تأملت في اللوحات فرأيت أني ما زلت في بلدي !!
خرجت من المطعم و ذهبت للسوق المسمى ( سوبر ماركت ) أو ( الهايبر ) و هذه كلمة غابت على ابن منظور فلم يذكرها في لسانه !! و بدأت أنادي العمال و أشير إليهم لأني لم أصفف البضائع على الأدراج و لذلك لا أعرف أماكنها .
كثير منهم ينظر إليَّ فإذا رآني أتحدث العربي أعرض و كأنه لم يسمع قطع الله أذنه !!
و البعض الآخر أكثر تهذيبا فيقول كلمة حفظتها من كثيرة التكرار :
نو آربك !! نو آربك ..
و يمضي متجاهلا نظراتي المتأملة في عرض أكتافه !!
يا الهي!! ماذا أصنع ، فأنا أبكم بين قومي و مغترب في بلدي !!!
رحمكِ الله لغتنا العربية
نقلت القصة رثاءا وأسفا لحالنا..!!