ونجد في شعر "أمية بن أبي الصلت" وأمثاله من المتصلين بأهل الكتاب القارئين لكتهم كما يذكر أهل الأخبار، فائدة كبيرة لنا في تكوين رأي عام عن وقوف العرب على الآراء التوراتية في الجاهلية، وفي جملة ذلك أنساب التوراة. وفي الشعر المنسوب إلى "أمية" آراء مستمدة من التوراة، مثل شعره في "نوح" وفي قصة "الطوفان" والغراب والحمامة وبقية حكاية الطوفان إلى زواله، فإنه إن صح دل على وقوف "أمية" على خبر قصة "الطوفان" الواردة في السفر السادس فما بعهده من التكوين. فإن ما جاء في هذا الشعر هو اقتباس لما ورد في تلك الأسفار. ونجد له أشعاراً أخرى إن صحت نسبتها إليه، دلت على إنه كان على اتصال بأهل الكتاب، وعلى أخذ منهم. ولعله كان يغرف من قصصهم الذي كان يشرح للناس ما جاء في التوراة، أو إنه كان يراجع ترجمات التوراة كانت بعربية أهل الكتاب في ذلك العهد، أو يسمع منهم ترجمة التوراة سماعاً فوقف على بعض ما جاء فيها، وفي جملة ذلك هذا القصص، وربما الأنساب المتعلقة بالعرب كذلك.
وحكاية "أمية" عن الطوفان أقرب إلى التوراة من حكاية "الأعشى" أبي بصير ميمون بن قيس، عن الطوفان. وذلك إن صح أن ذلك الشعر من نظمه حقا. فإن العناصر التوراتية فيه ليست بارزة واضحة وضوحها في شعر أمية. ويظهر من بعض الجمل الواردة في شعر الأعشى عن الطوفان مثل: ونادى ابنه نـوح وكـان بـمـعـزل ألا اركب معي واترك مصاحبة الكبر
فقال: سآوي نـحـو أعـيط مـشـرف بطول شنان السماء ذي مسلك وعر
ومثل: ونجا لنوح فـي الـسـفـينة أهـلـه ملاحكة الألواح معطـوفة الـدسـر
فلما استوت من أربعين تـجـرمـت تناهت على الجودي أرست فما تجري
ومن مضمون القصة نفسها، إن المنبع الذي استقى منه الشاعر "الطوفان" هو القرآن الكريم، ومن يراجع الآيات المنزلة عن "نوح" وعن الطوفان وعن ابنه، وكيف امتنع عن الركوب معه بالرغم من إلحاح نوح عليه، يجزم أن الشاعر المذكور قد أخذ الطوفان من القرآن الكريم ومن موارد إسلامية، واستعمل ألفاظاً وتراكيب وردت في كتاب الله، ولم ترد في التوراة.
و اني أشك في كون هذا الشعر من شعر "الأعشى". فالأعشى رجل لم يسلم وان أدرك ألام الرسول، كان قد قصد الرسول، ونظم قصيدة في مدحه، ولكن قريشاً أثّرت عليه، وحالت بينه وبين الوصول إلى الرسول، وعاد إلى "منفوحة" بلدته، فمات بها دون أن يسلم. والرأي عندي إن تلك الأبيات، هي من صنع مسلم، وضعها على لسانه.
ولا يعني شكيّ في صحة نسبة هذه الأبيات إلى الأعشى، إن الأعشى كان بعيداَ عن آراء ومعتقدات أهل الكتاب، غير واقف على أخبارهم وعقائدهم. ففد كان الأعشى جوّالاً جوّاباً زار العراق وبلاد الشام،اتصل بقبائل نصرانية، وجالس اليهود والفرس والروم، ووردت في أشعاره ألفاط من ألفاظ الحضارة الأعجمية، كما وردت فيها أفكار تدل على وقوف على آراء وأفكار دينية وخواطر فلسفية، فرجل مثل هذا لا يستبعد وقوفه على قصص يهودي ونصراني وعلى آراء دينية لأهل الكتاب. وللحكم على، مقدار فهمه لها، يمكن بالطبع دراسة ما ورد في الشعر على لسانه، ومطابقته بما نعرفه من آراء القوم لنقف على درجة صلة ما جاء في شعر الأعشى من آراء ومعتقدات بآراء أهل الكتاب و معتقداتهم.
أما الأماكن التي ظهرت فيها هذه الروايات الإسرائيلية، فهي: اليمن، والمدينة، والعراق. ومن العراق الكوفة بصورة خاصة. وقد كان في كل هذه المواضع رجال من أهل الكتاب موّنوا أهل الأخبار بما كانوا يرغبون في معرفته، ولم يكن هؤلاء على قدر واحد في المعرفة والفهم، والظاهر إن منهم من لم يكن له إلام بالتوراة ولا بالتلمود و غيرهما من الكتب و إنما أخذ ذلك من أهل النظر منهم، أو كما وصل إليه من أهله وحاشيته، ولذلك اضطرب الأخباريون في بعض، الأحيان في رواية خبر واحد، كما اختلفوا في ضبط الأسماء. وقد علل ابن خلدون اختلافهم في ضبط الأسماء
قوله: "واعلم إن الخلاف الذي في ضبط الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف، فان هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة، ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب. فإذا وتر الحرف متوسطاً بين حرفين من لغة العرب، فترده العرب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن ها هنا اختلف الضبط في هذه الأسماء".
والحق هو إن هذا الخطأ لم يقع في ضبط الأسماء فقط، بل وقع في أمور جوهرية أخرى ترينا جهل بعض الرواة بجدول الأنساب، وترينا الخلط أحياناً بين الروايات الإسرائيلية. والروايات الإيرانية حتى تكون من هذا المجموع المدون في الكتب الإسلامية عن الأنساب خليط من روايات إسرائيلية و روايات فارسية وقصص شعبي عربي، يجوز أن نضيف إليه عنصراً آخر هو الوضع، فقد وضع الرواة شيئاً من عندهم حين عجزوا عن الحصول عليه من الموارد الثلاثة المذكورة، وكان لا بد لهم من سد تلك الثُغر، فسدوها بما جادت به قرائحهم من شعر ونثر. ومن هذا القبيل، ما أدخلوه على التوراة أيضاً من أنسابٍ زعموا إنها وردت في التوراة، وليس لها في الواقع وجود فيها.
خذ آدم، فقد صيره الأخباريون "كيو مرث" وهو من الفرس، وخذ نوحاً ترَ إنه صار "افريدون" عند أهل الأخبار وهو من الفرس أيضاً، وجعلوا "لاوذ" ابناً من أبناء إرم من سام أخي عوص وكاثر، مع إنه "لود"، في التوراة، وهو شقيق إرم بن سام ووالد عوص وجاثر، وقالوا أشياء أخرى لا وجود لها في التوراة.
أما متى دخلت أنساب التوراة إلى العرب، ومتى ظهرت وشاعت بينهم، فنحن لا نستطيع أن نحدد ذلك على وجه مضبوط بالقياس إلى أيام الجاهلية. ولكننا نستطيع إن نقول إنها كانت قد تسربت إلى الجاهليين من اليهود، وذلك بوجودهم في الجزيرة العربية واتصالهم بالعرب، وقد يكون من النصارى أيضاً، وقد تفشت في أماكن من جزيرة العرب وبين بعض القبائل، وان هؤلاء أي أهل الكتاب هم الذين أشاعوا بين الجاهليين هذه الأنساب. وقد تكون لليهود يد" في إشاعة خبر رابطة النسب وأواصر القربى التي تربط بينهم وبين العرب، وذلك للتأثير عليهم وللتقرب منهم، وللسكن بينهم بهدوء وسلام.
ونستطيع أن نقول جازمين إن هذا القصص الإسرائيلي، وهذه الأنساب التي يرويها أهل الأخبار، لم تكن كثيرة الشيوع بين الجاهليين، و إنما هي شاعت وراجت في الإسلام، وذلك للأسباب المذكورة، ومروجوها وناشروها هم زمرة تحدثت عنهم في مواضع متعددة من هذا الكتاب.
ملاك الشرق
&&&لا مستحيل عند أهل العزيمة&&& |
|